الحوار الوطني

حالة مستمرة ومخرجات مصدّقة.. قراءة في رسائل الرئيس السيسي حول منظومة الحوار الوطني

بعث الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال تعليقاته بالمؤتمر الوطني للشباب ببرج العرب يوم 14 يونيو 2023 بمجموعة من الرسائل المهمة المتعلقة بالحوار الوطني ومنظومته وآليته وما سيسفر عنه خلال المرحلة المقبلة، لا سيّما وأن إحدى النتائج المهمة التي تولدت عن فكرة الحوار في حد ذاتها وخطواتها التنفيذية اللاحقة هي تنمية القدرة على إدارة الاختلاف وإدارة الحوار الذي تكمن أهميته في كم التحديات القائمة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يتطلبه ذلك من رسم خريطة أولويات العمل الوطني وفتح آفاق الجمهورية الجديدة. ولذلك أعلن الرئيس السيسي أنه سيصدق على كل مخرجات الحوار الوطني دون قيد أو شرط.

معطيات جادة

وعودٌ جديدة يعطيها الرئيس السيسي للحوار الوطني، إيمانًا منه بأهميته ودوره الحيوي في رسم ملامح جديدة لمصر خلال الفترة الراهنة التي تواجه فيها البلاد العديد من التحديات على مختلف الأصعدة، وتأكيدًا منه على أن الدولة -رئيسًا وحكومةً- جادة في توفير كل الإمكانيات في سبيل إنجاح هذه التجربة.

وبعدما أكد المستشار محمود فوزي في إجابة على سؤال “ماذا بعد الحوار الوطني” أن الحوار كإجراءات سينتهي ثم ترفع مخرجاته إلي رئيس الجمهورية، جاءت كلمات الرئيس السيسي لتؤكد أن جميع مخرجات الحوار الوطني التي تقع في إطار الصلاحيات الدستورية والقانونية للرئيس سيصدق عليها دون قيد أو شرط، وأن كل ما يقع خارج هذه الصلاحيات سيُحال إلى البرلمان للتعامل معه. وهذه الكلمات ورغم قصرها إلا أن لها الكثير من الدلالات في الواقع المصري:

1 – الحوار كأساس لبناء الجمهورية الجديدة: تمثلت فلسفة القيادة السياسية وراء الدعوة إلى الحوار الوطني وغيره من اللقاءات والمؤتمرات الحوارية الجامعة في الاستغلال الأمثل لما ينتج عن التقاء قادة الفكر والرأي والمعنيين بالملفات الحيوية بالنسبة للدولة؛ للخروج بما يمكن تسميته “روشتة” تنفيذية يتم إيلاؤها أقصى درجات الاهتمام والحرص على التنفيذ من كافة أجهزة الدولة. وتأكيدًا على ذلك، جاءت تصريحات الرئيس السيسي خلال المؤتمر الوطني للشباب لتمثل تطورًا لمدى الاهتمام الرئاسي بالحوار الوطني بدءًا من تأكيده أن ما سينتج عن الحوار من توصيات ورؤى وأفكار سيكون موضع اهتمام وعناية من كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، ووصولًا إلى تأكيده التصديق على مخرجات الحوار جميعها دون قيد أو شرط. 

فقد جاءت تصريحات الرئيس السيسي لتؤكد مرة أخرى أن هناك إرادة سياسية جادة في تنفيذ مخرجات هذا الحوار. وقد جاءت توجيهات الرئيس بالعمل على حل القضايا الثلاث التي أكد المستشار محمود فوزي التوافق بشأنها وهي: قانون الوصاية على المال، وقانون حرية تداول المعلومات، وإنشاء مفوضية عدم التمييز؛ لتؤكد على جدية القيادة السياسية في الاستجابة للمخرجات، استكمالًا لاستجابة الرئيس من قبل لمقترح أمانة الحوار الوطني باستمرارية الإشراف القضائي على الانتخابات، وتوجيهه الحكومة والأجهزة المعنية في الدولة بدراسة هذا المقترح وألياته التنفيذية.

2 – الحوار كحالة مستمرة: انطلاقًا من كون الحوار هو أساس للبناء، وبالنظر إلى أن مسيرة البناء والتنمية لم تتوقف ولن تتوقف بالنظر إلى جسامة التحديات والصعاب التي تواجهها وتتطلب العمل الدؤوب والمستمر؛ فإن إعلان الرئيس السيسي أن حالة الحوار ستظل مستمرة حتى مع انتهائه من الناحية الإجرائية بالإعلان عن مخرجاته؛ فإنما يشير إلى أن الحوار الوطني الجاد الصادق يمثل مرحلة مهمة في مسار التحول الديمقراطي في مصر، وأنه يشكل خطوة جادة من خطوات في الطريق نحو الجمهورية الجديدة؛ جمهورية تحترم الجميع وتترك مساحة للاختلاف والنقاش حول أهم القضايا والمشكلات والتحديات وسبل التعامل معها من أجل تحقيق مستقبل أفضل.

3 – مسؤولية كبيرة: لمّا كان الحوار الوطني بمحاوره ولجانه المختلفة ليس حوارًا مطلقًا وإنما بين المعنيين وأصحاب المصلحة في الملفات محل التحاور والنقاش بالدرجة الأولى؛ فإن إيمان القيادة السياسية بقدرات هؤلاء المتحاورين على الخروج بمخرجات قابلة للتنفيذ وإعلان الرئيس أنه سيصدق عليها يزيد من عبئ المسؤولية الكبيرة الموضوعة على عاتق المتحاورين الذين يضمون طيفًا واسعًا من المعنيين بالملفات السياسية والاقتصادية والمجتمعية وينتمون إلى مختلف التيارات السياسية والفكرية بأنه يتعين عليهم الخروج بحلول جادة وعملية للقضايا والتحديات محل الحوار والنقاش هذا من جانب، ومن جانب آخر أن تكون هذه المخرجات موضوعية قابلة للتنفيذ للحد الذي يدفع الرئيس إلى التصديق عليها دون قيد أو شرط؛ لا سيّما وأنه قد أكد أنه لا أحد يملك الحق الحصري في معرفة مصلحة الوطن؛ فالجميع يمتلك هذه المصلحة ومسؤول عنها.

انعكاسات محتملة

تدفع المعطيات السابقة التي تبلورت بشكل واضح في حديث الرئيس السيسي عن الحوار الوطني يوم 14 يونيو 2023 إلى توقع مجموعة من الانعكاسات المحتملة على العمل السياسي في البلاد خلال المرحلة المقبلة، لا سيّما وأن هذه التصريحات قد أكدت أن هناك فرصة حقيقية أمام الأحزاب وغيرها من مكونات المجتمع لإحداث تغيير حقيقي في مسار الحياة السياسية في البلاد. وتتمثل هذه الانعكاسات فيما يلي: 

1 – حلحلة القضايا المُرجأة: تزخر أجندة العمل السياسي والاقتصادي في مصر بمجموعة واسعة من القضايا التي أُرجئت حلحلتها أو تطبيقها لسنوات طويلة بسبب التغيرات الحادة والعاصفة التي شهدتها الدولة المصرية ما بعد 2011 من جانب، ولكون أولويات الدولة كانت منصبة على ترميم الدولة ومواجهة الإرهاب من جانب آخر. ولذلك من المتوقع خروج حزمة من التشريعات خاصة بقضايا كانت عالقة لسنوات مثل تعديل قانون الوصاية على المال، وإنشاء مفوضية عدم التمييز، وإصدار قانون المجالس المحلية، وتعديل أحكام الحبس الاحتياطي بقانون الإجراءات الجنائية وغيرها. وهو الأمر الذي يعد انعكاسًا لفلسفة القيادة السياسية منذ البداية في الدعوة إلى الحوار الوطني لإعادة رسم أولويات الدولة المصرية.

2 – انفتاح المجال العام: تؤدي الحالة الحوارية الناشئة وإيمان القيادة السياسية بأهميتها إلى تعزيز مشاركة أكبر من الأحزاب والتيارات السياسية المعارضة في حالة النقاش العام بالدولة؛ في ظل سعي الدولة إلى جعل الحوار الوطني حالة مستمرة وسمة من سمات الجمهورية الجديدة. وهو الأمر الذي بدأت بعض مؤشراته في الظهور مع الإعلان عن تشكيل “كتلة الحوار” ككتلة سياسية معارضة نشأت من داخل نقاشات الحوار الوطني، تهدف إلى تقديم معارضة موضوعية لبلوع عقد جديد من التوافقات الوطنية بين الإدارة والمعارضة والشعب والاتفاق على حتمية التفاهم ومد جسور الثقة بين جميع الأطراف. وتسهم هذه التطورات بشكل مباشر في تعزيز أسس الديموقراطية ومبادئ المواطنة؛ إذ يسهم الحوار في خلق مجال سياسي ديمقراطي أكثر فاعلية، مع حوكمة عملية صنع السياسة العامة وتشجيع المواطنين للمشاركة في الحياة السياسية داخل الدولة المصرية. وهو ما يتسق مع الفلسفة التي بنيت على أساسها دعوة الرئيس إلى الحوار الوطني من زاوية أن الوطن يتسع للجميع، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية.

ختامًا، لقد عكست رسائل الرئيس السيسي في المؤتمر الوطني للشباب ببرج العرب حول الحوار الوطني الكثير من الدلالات؛ أهمها التأكيد على جدية الدولة المصرية لإنجاح تجربة الحوار إيمانًا منه بأهميته ودوره المهم لرسم ملامح المرحلة المقبلة. وأعادت التأكيد على الفلسفة التي بني عليها الحوار الوطني من أسس المشاركة واستغلال ما ينتج عن قادة الفكر من أجل إحداث تغيير حقيقي في الواقع المصري. وبذلك يكون الحوار الجاد الصادق بوابة للجمهورية الجديدة، وسيتعين على مختلف القوى السياسية استثمار وجود الإرادة السياسية للاستجابة لمخرجات هذا الحوار، وإدراك المسؤولية التي تقع على عاتقها؛ لإيجاد حلول عملية في ظل التحديات الجسيمة وتشابك المشكلات الحالية وتداخل مسبباتها بين داخلية وخارجية، من أجل خلق مستقبل أفضل لمصر والمصريين.

هايدي القصبي

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى