أجرى الرئيس عبد الفتاح السيسي جولة في جنوب القارة الأفريقية خلال الفترة من 7 إلى 9 يونيو 2023، بدأها بأنجولا مرورًا بزامبيا حيث تسلمت من مصر رئاسة السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي “كوميسا” وصولًا إلى موزمبيق. وجاءت هذه الجولة الرئاسية لجنوب القارة الأفريقية متزامنة مع انعقاد الدورة الثانية والعشرين للسوق للتجمع الاقتصادي الذي يجمع دول جنوب وشرق القارة “الكوميسا”، في ضوء أن الطابع الاقتصادي هو النمط الغالب للتعاون في هذه المنطقة بخلاف مناطق أخرى في القارة تتصدر القضايا الأمنية واجهة التعاون بين دولها.
تجمع الكوميسا
شملت هذه الجولة تسليم الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة قمة الكوميسا إلى دولة زامبيا، بعدما تولت مصر رئاسة القمة خلال العامين الماضيين من توليها في نوفمبر 2021. وكان لمصر خطة عمل متوسطة المدى فيما يتعلق بتعميق التكامل الاقتصادي بين دول “الكوميسا” تمتد من الفترة 2021- 2025؛ اتساقًا مع أهداف منظمة التجارة الحرة القارية.
وتشير التقديرات إلى ارتفاع نسبة التجارة بين مصر وتجمع الكوميسا بنسبة تصل إلى 11% منذ عام 2021؛ إذ ارتفعت نسبة التبادل التجاري من 4.4 مليارات دولار عام 2021 لتصل إلى 5.3 مليارات دولار عام 2022. وتتسق هذه الأهداف مع أهداف نشأة المنظمة كمنطقة للتجارة التفضيلية منذ نشأتها عام 1981، قبل أن تتحول إلى تجمع “الكوميسا” عام 1994، وهو الهدف الذي يتسق مع أهداف منطقة التجارة الحرة الأفريقية بشكل عام؛ لتعزيز وتسريع التبادل التجاري بين دول القارة.
ويستهدف التجمع دعم التجارة البينية بما يتسق مع أهداف التجارة الحرة القارية، ويخدم الهدف النهائي لتحقيق أهداف أجندة التنمية 2063. ويضم التجمع 21 دولة أفريقية تسعى جميعًا إلى تعزيز التنمية الاقتصادية ورفع مستويات التعاون والتبادل بينها كخطوة نحو الاندماج الاقتصادي. وفي سبيل ذلك، سعت مصر خلال فترة توليها رئاسة التجمع إلى تعزيز الاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز التكامل الصناعي، والتعاون في مجال التحول الرقمي، ورفع سلاسل التوريد الإقليمية.
وسلمت مصر خلال قمة لوساكا رئاسة التجمع إلى زامبيا، وتولت منصب المقرر بهيئة مكتب الكوميسا، بما يخدم الدور المصري في دعم مجالات التعاون بين دول التجمع، خاصة في مجال البنية التحتية وتحقيق التكامل الاقتصادي ورفع مستويات التجارة البينية، بين تجمعات الكوميسا والسادك وشرق أفريقيا.
ومن خلال استعراض مصر لأدائها خلال العامين الماضيين، اتضحت مجالات العمل خاصة في مجال التنمية الاقتصادية وتعزيز التبادل التجاري من خلال إيلائها اهتمامًا خاصًا بتفعيل منطقة التجارة الحرة القاريةعبر تفعيل التعاون الثلاثي بين الكوميسا والسادك وشرق أفريقيا، ومن خلال حث الدول الأعضاء على تنفيذ الإعفاءات الجمركية، وتيسير حركة التبادل التجاري؛ إذ ارتفعت مستويات التبادل التجاري داخل التجمع إلى 13 مليار دولار كأعلى قيمة منذ إنشاء منطقة التجارة الحرة داخل التجمع عام 2000. وفي هذا الصدد، قد توفر رئاسة مصر للوكالة الإنمائية للاتحاد الأفريقي “نيباد” خلال العامين القادمين فرصة لمواصلة العمل التنموي الرامي إلى تحقيق أهداف 2063.
وفيما يتعلق بالمبادرات الصناعية، قدمت مصر مبادرات للتكامل الصناعي في إطار استراتيجية التصنيع بالكوميسا 2017-2026، والتي تهدف إلى تعميق الإنتاج الصناعي؛ من خلال ربط سلاسل القيمة الإقليمية وفقًا للميزة التنافسية للدول. وقد أسهمت استضافة مصر لوكالة الاستثمار التابعة للكوميسا في جذب الاستثمارات لدول التجمع في مجال التصنيع.
وفي مجال البنية التحتية، شرعت مصر في تنفيذ مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، وهو أحد المشاريع الذي يحتاج لتمويل إقليمي وحشد موارد الدول الأعضاء. فضلًا عن الدور المصري في إنشاء سد جوليوس نيريري في تنزانيا، المخطط له أن ينتج 2.5 جيجاوات، بما يوفر نموذج للاستثمار في البنية التحتية قد يتم البناء عليه.
أما في مجال التصنيع الدوائي، قدمت مصر مقترحًا لإنشاء لجنة الصحة بسكرتارية “الكوميسا”، واستضافت الدورة الأولى للمؤتمر الطبي الأفريقي والذي عُقدت نسخته الثانية بالقاهرة تزامنًا مع قمة “الكوميسا” كآلية لتعزيز التعاون المصري الأفريقي في المجال الطبي، وبحث فرص الاستثمار وتعزيز السياسات الطبية وتبادل الخبرات في هذا الشأن. هذا فضلًا عن تزايد الاهتمام الذي وجهته مصر للاستثمار في توطين صناعة الدواء واللقاحات، وصولًا للإعلان عن تقديم مصر لــ”٣٠” مليون جرعة من لقاحات فيروس “كورونا” إلى الدول الأفريقية وبما يؤكد دور مصر، كمركز إقليمي لتصنيع اللقاحات الطبية.
محطات الزيارة
استحوذت القضايا الاقتصادية على أولوية كبيرة في أجندة الزيارة؛ ليس فقط بحكم السياق المرتبط بحضور الرئيس للقمة 22 للكوميسا وتسليم الرئاسة لزامبيا، خلال زيارته للعاصمة لوساكا، حيث تعقد القمة تحت شعار “التكامل الاقتصادي من أجل كوميسا مزدهرة مرتكزة على الاستثمار الأخضر والقيمة المضافة والسياحة”، لكن أيضًا بحكم البعد الاقتصاي الذي يسيطر على العلاقات المصرية مع الإقليم الفرعي الجنوبي من القارة. وتوفر هذه القمة مناسبة لمد مصر جسور التواصل مع بعض دول الجنوب الأفريقي التي تحظى بأهمية جيواستراتيجية وجيواقتصادية، في وقت تتصاعد فيها أهمية التعاون الإقليمي لمواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية.
ولم يمنع هذا البعد من حضور البعدين السياسي والأمني على أجندة الزيارة؛ بحكم أهمية التعامل المؤسسي القاري مع قضايا الأمن والإرهاب والقضايا الإقليمية؛ إذ كانت أزمتا السودان وسد النهضة على قائمة الحوار، فضلًا عن أهمية التعاون في إطار الاتحاد الأفريقي والتعاون الإقليمي في مكافحة الإرهاب في القارة من خلال تعميق التعاون الأمني.
● أنجولا: تنبع الأهمية الاستراتيجية لزيارة الرئيس السيسي إلى أنجولا من كونها أول زيارة لرئيس مصري إلى لواندا، مما يرسخ الأهمية الاستراتيجية لمد البلدين جسور التعاون بينهما. وقد انعكس الإدراك المتبادل لتلك الأهمية خلال اللقاء المشترك الذي جمع الرئيس السيسي بالرئيس الأنجولي “چواو لورينسو”؛ إذ أعرب الأخير عن اعتزازه بأول زيارة لرئيس مصري لبلاده، وكشف عن رغبة بلاده في الاستفادة من التجربة التنموية المصرية فيما يتعلق بـ: تشييد البنية التحتية، وبناء المدن الجديدة، ومشروعات الطرق والكباري، والسياحة، والتصنيع الدوائي.
في المقابل، تبحث مصر عن فرص لتعظيم حجم الاستثمار والتبادل التجاري، وفتح المجال لقطاع الأعمال المصري في أنجولا، ونقل الخبرات الفنية وتدريب الكوادر في كافة المجالات. وتعكس مذكرات التفاهم الموقعة في مجالي التعاون الأمني والمياه الجوفية الطابع الذي تتخذه مستويات وأبعاد التعاون بين البلدين، في الوقت الذي تشارك فيه أنجولا محيطها الإقليمي اهتمامات متعلقة بالتحديات الأمنية.
● زامبيا: عكس لقاء الرئيس السيسي ورئيس زامبيا “هاكيندي هيتشيليما” مجالات التعاون بين البلدين، خاصة في مجالات نقل الخبرات الفنية ورفع القدرات، إلى جانب الاستثمار في مجالات البنية التحتية. وشملت الزيارة حضور فعاليات القمة 22 للكوميسا، حيث تسلمت زامبيا رئاسة الدورة الحالية للتجمع من مصر. واتفق الجانبان على تعزيز التعاون في مجالات البنية التحتية والاستزراع السمكي والثروة الحيوانية والصحة، وهي المجالات التي تبدو محل إجماع بين دول الإقليم، على نحوٍ قد يرفع القدرات الإقليمية والتكامل الإقليمي في هذه المجالات، بما يخدم الهدف الرئيس نحو تحقيق التكامل القاري.
وشهدت اللقاءات التي أجريت مع زامبيا ورؤساء الدول المشاركة في القمة خاصة كينيا وملاوي الاتفاق على تفعيل التعاون في مجالات البنية التحتية والطاقة والتصنيع الدوائي والزراعي والاستزراع السمكي والثروة الحيوانية والصحة والتدريب وبناء القدرات. وتأتي أهمية التواصل مع كينيا بوصفها دولة رائدة في شرق أفريقيا وتسعى إلى تعزيز دورها في الدبلوماسية الإقليمية، وهو ما يؤهلها لأن تلعب دورًا في مبادرات حل الأزمة السودانية من جهة، ودورًا آخر في توازنات القوى في إطار معادلات التعاون الإقليمي. ويتصل هذا الأمر بالمباحثات في القضايا الإقليمية التي طرحت للنقاش، خاصة قضيتي السودان وسد النهضة اللتين تسعى مصر إلى تحقيق توافق إقليمي بشأنهما.
● موزمبيق: اختتم الرئيس عبد الفتاح السيسي جولته بزيارة العاصمة الموزمبيقية مابوتو، أجرى خلالها مباحثات مع الرئيس “فيليب نيوسي”، كأول زيارة لرئيس مصري إلى موزمبيق، بما يعكس الاهتمام الذي توليه مصر باختراق دوائر إقليمية خارج نطاق العمل التقليدي لسياستها الخارجية. وتركزت المباحثات على بحث فرص الاستثمار والتعاون الثنائي بين البلدين، في إطار الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها موزمبيق في إطار محيطها الإقليمي في جنوب القارة وعلى سواحل المحيط الهندي وامتداد البحر الأحمر.
وبحث الجانبان الفرص أمام الشركات المصرية للاستثمار في السوق الموزمبيقي، بما يسهم في رفع معدلات التبادل التجاري بين البلدين، في مجالات تطوير البنية التحتية والزراعة والاستزراع السمكي والصحة، فضلًا عن التعاون في مجال نقل القدرات والتدريب.
وفي ضوء انتخاب موزمبيق لعضوية مجلس الأمن الدولي (2023 -2024)، اتفق البلدان على تنسيق الرؤى على المستوى الأفريقي فيما يتعلق بتسكين الأزمات في بؤر الصراع والنزاعات في القارة. واتصالًا بذلك، يعد التعاون الأمني وتبادل المعلومات بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف في القارة الأفريقية أولوية في ضوء ما تتعرض له موزمبيق من تهديدات أمنية وتمدد الإرهاب في جنوب شرق القارة؛ للمساعدة على تحقيق الأمن والاستقرار المطلوب للتنمية.في النهاية، تتسق هذه الجولة في أهدافها مع الأهداف التنموية للكوميسا، بما يجعل علاقات التعاون مع الدول الإقليمية بشكل ثنائي مدخلًا نحو تعميق التعاون الإقليمي في الإجمال؛ إذ تتسق مجالات التعاون الثنائي في قطاعات: التشييد والبناء، والزراعة، والصناعة، والثروة السمكية، والأمن ومكافحة الإرهاب؛ مع الأهداف الاستراتيجية والإقليمية للكوميسا والتي تتسق بدورها مع الأهداف القارية، بما يجعل التنسيق الثنائي خطوة نحو تحقيق التعاون الجماعي.