أوروبا

مؤشرات مستقبلية: كيف تعكس نتائج الانتخابات المحلية الواقع السياسي في إسبانيا؟

أُجريت أمس الأحد الموافق 28 من الشهر الجاري، الانتخابات المحلية الإسبانية التي تسبق الانتخابات العامة المقرر عقدها في نوفمبر المقبل، وهو ما يجعلها مؤشرًا مبدئيًا للاتجاه الذي من الممكن أن يسلكه الشعب في الانتخابات العامة القادمة، مما دفع المجتمع الدولي لمراقبة هذه الانتخابات عن قرب وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، بسبب استلام إسبانيا رئاسة المفوضية الأوروبية في شهر يونيو المقبل. وتجذب هذه الانتخابات أيضًا المزيد من الاهتمام بسبب صعود الكثير من التيارات السياسية مؤخرًا في إسبانيا، وانقسام الآراء والتوجهات بينهم بشكل واضح، مما يجعل نتيجة هذه الانتخابات مؤثرة بشكل كبير على المستويين الداخلي والخارجي.

نظرة عامة على الانتخابات

توجه الإسبان إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أكثر من 8000 عضو مجلس محلي و12 حكومة إقليمية. وكان من المتوقع قبل الانتخابات أن تأتي إما بتحالف يساري أو يميني إلى السلطة، حيث إنه كان من غير المرجح أن يفوز أي من الحزبين التقليديين بمقاعد كافية لتشكيل أغلبية، وبدلًا من ذلك، اعتمدوا على دعم الأحزاب الصغيرة بما في ذلك الأحزاب الانفصالية واليمينية المتطرفة للوصول إلى السلطة. وتقدم نتائج هذه الانتخابات الإقليمية أوضح فكرة حتى الآن حول ما إذا كانت حكومة الأقلية الاشتراكية في إسبانيا ستنجو، أو ما إذا كان حزب الشعب المحافظ سيشكل حكومة مع حزب (فوكس) اليميني المتطرف في نوفمبر المقبل.

أجرت 12 مقاطعة فقط من أصل 17 انتخابات لحكوماتها الإقليمية، فيما ستجري أقاليم الأندلس وجاليسيا وإقليم الباسك وكاتالونيا وكاستيل ليون انتخاباتها في عام 2024. ومن أهم المقاطعات التي ذهبت إلى صناديق الاقتراع، فالنسيا، وأراغون، ولا ريوخا، وكاستيلا لامانتشا، وكانتابريا، وجزر البليار. وأعلنت نتائج هذه الانتخابات اكتساح حزب الشعب المتحفظ في 9 مقاطعات من أصل 12 تاركًا 3 مقاطعات فقط للحزب الاشتراكي العمالي. وستساعد أي مناطق تقوم بتغيير الاتجاه في تحديد مزاج وزخم الأحزاب المختلفة وهي تتجه نحو التصويت على الحكومة العامة.

قبل عام 2015، هيمن حزبا العمال الاشتراكي الإسباني اليساري وحزب الشعب اليميني على السياسة الإسبانية، ومع ذلك، فإن ظهور الأحزاب الجديدة ونجاحها، مثل حزب بوديموس اليساري المتطرف وسيودادانوس يمين الوسط في الأصل، يليه حزب (فوكس) اليميني المتطرف، أنهى منذ ذلك الحين أيام الأغلبية المطلقة في المستقبل المنظور. ومنذ عام 2015، شهد حزب سيودادانوس انهيار دعمه، حيث خسر 47 مقعدًا من 57 مقعدًا في الانتخابات العامة في نوفمبر 2019، ويخوض الحزب الآن صراعًا من أجل الأهمية السياسية والبقاء. وأدى دخول أحزاب جديدة إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي.

وساعد تحالف حزب الشعب اليميني مع حزب (فوكس) في اكتساب شعبية أكبر، مما نتج عنه هذا الاكتساح الكبير والسيطرة على مقاطعات كانت صاحبة أغلبية لحزب العمال الاشتراكي مثل فالنسيا، وأراغون، ولا ريوخا. مما يشير بشكل واضح إلى تغيير توجه الشعب وميله بشكل أكبر إلى الأحزاب اليمينة بدلًا من اليسارية، خاصةً في ظل تحالفات حزب العمال الاشتراكي مع بعض الأحزاب الانفصالية في مقاطعات مثل كاتالونيا والباسك.

آثار داخلية

 دفعت تحالفات الأحزاب اليمينية حكومة الأقلية لرئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى العمل مع الأحزاب الأصغر بما في ذلك الانفصاليون الباسك والكتالونيون لتمرير ميزانيات رئيسة، وهي خطوة أثارت غضب المعارضة وحتى بعض من حزبه. وكان (إي إتش بيلدو) أحد هذه الأحزاب الإقليمية التي صوتت لصالح ميزانية سانشيز، ويُنظر إلى الحزب على أنه وريث باتاسونا، الذي تم حظره في عام 2003 لكونه الجناح السياسي لجماعة (إيتا) الإرهابية المنحلة الآن. واتخذت مسألة العمل مع هذه المجموعات موقفًا غير متوقع في مركز الصدارة في الانتخابات الإقليمية، بعد أن كشفت (إي إتش بيلدو) النقاب عن قائمة المرشحين المقترحة من بينهم 44 عضوًا مدانًا من منظمة (ايتا)، من بينهم سبعة تمت إدانتهم بارتكاب جرائم قتل. 

وأعلن (إي إتش بيلدو) إن المرشحين السبعة المدانين بجرائم القتل لن يترشحوا، لكنه يصر على أن المرشحين الآخرين يجب أن يكون لهم الحق في الترشح في ظل ديمقراطية حرة. وصب هذا الجدل في صالح حزب الشعب و (فوكس) بالكثير من الذخيرة السياسية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها حزب العمال الاشتراكي لإبراز هذه القضية، إلا أنها لم تكن كافية لتقليل شعبية حزبي الشعب و (فوكس).

وعلى الرغم من تحذير حزب الشعب من تحالف يساري يعتمد على الانفصاليين، إلا إنه يرفض القول ما إذا كان سيشكل ائتلافًا رسميًا مع حزب (فوكس) اليميني المتطرف في الانتخابات العامة في نوفمبر المقبل. ويشكل الحزبان ائتلافًا بالفعل في كاستيل ليون، وتظهر استطلاعات الرأي أن حزب الشعب قد يحتاج إلى تشكيل المزيد من الائتلافات مع (فوكس) على المستويين الإقليمي والوطني في المستقبل. وأثار (فوكس) غضبًا في أكثر من مناسبة بسبب آرائه المتطرفة والمثيرة للجدل، مثل تصريح زعيم الحزب سانتياغو أباسكال بأن بيدرو سانشيز ترأس أسوأ حكومة منذ 80 عامًا، وهي فترة تشمل ديكتاتورية فرانسيسكو فرانكو. 

يحرص كل طرف على تسليط الضوء على بعض القضايا التي من المعتقد أن يؤدوا فيها أداءً جيدًا فيها. حيث يظهر حزب العمال الاشتراكي نتائج اقتصادية لبطالة أقل مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، ونمو اقتصادي جيد، وعدد مشاريع القوانين التي تم تمريرها لحماية الفئات الأقل حظًا. بينما يحاول حزب الشعب تقويض صورة رئيس الوزراء ويجادلون بأن بيدرو سانشيز كان يحكم بمساعدة إرهابيين سابقين ويشجع أحزاب صاحبة توجهات انفصالية، مما قد ينتج عنه نجاح إقليمي الباسك وكاتالونيا في الانفصال، وقد نجحت الأحزاب اليمينية في إقناع الشعب في الانتخابات الإقليمية بشكل واضح مما يشير إلى تغير اتجاه الشعب ويهدد الأحزاب اليسارية في الانتخابات العامة المقبلة.

آثار خارجية

لن تؤثر النزاعات الانتخابية على الوضع الداخلي فقط، حيث إن الانتخابات العامة الإسبانية القادمة تحظى بالكثير من الاهتمام من المجتمع الدولي سواء في داخل أوروبا أو خارجها. ويتركز الاهتمام الأوروبي بالانتخابات بسبب تولي إسبانيا رئاسة المفوضية الأوروبية في يونيو المقبل. بالتأكيد أن سياسة الاتحاد الأوروبي في وجوب اجماع كل الدول الأعضاء على القرارات لتطبيقها، لا يشير إلى تغير كبير في سياسات التكتل بعد تولي إسبانيا، إلا أن اختلاف توجه الحكومة سيكون له تأثير بشكل أو بآخر على سياسات الاتحاد الأوروبي.

أيضًا مع تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية ومساندة الدول الغربية لأوكرانية، وتطبيق الاتحاد الأوروبي الكثير من العقوبات على روسيا، سيكون توجه حكومة الدولة رئيسة المفوضية الأوروبية جزء في غاية الأهمية في تشكيل مستقبل الأزمة، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي بايدن لمناقشة موقف إسبانيا الحالي من الحرب الروسية الأوكرانية مع رئيس الوزراء الإسباني سانشيز خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية. إذ تميل التيارات اليمينية المتطرفة مثل حزب (فوكس) إلى التوقف عن دعم أوكرانية بسبب الأزمات الاقتصادية العالمية الناتجة عن تصاعد الأزمة، وهو ما يشكل تهديدًا على السياسات الغربية حاليًا.

لم تعلق أي من الدول الغربية على اكتساح التيار اليميني على الانتخابات الإقليمية إلى الآن، لكن مما لا شك فيه أن هذه النتيجة ستسبب قلق الدول الغربية من تغيير السياسات الإسبانية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية في حالة فوز التيارات اليمينية بالانتخابات العامة أيضًا، وهو ما سيعرقل محاولات الضغط الغربية على روسيا أملًا في انسحابها وإنهاء الحرب في ظل رئاسة إسبانية للمفوضية الأوروبية.

ولا يقتصر اهتمام المجتمع الدولي بالانتخابات على الدول الغربية وأعضاء الاتحاد الأوروبي فقط، حيث تتشارك إسبانيا مع دول شمال أفريقيا في العديد من الاهتمامات الاقتصادية والسياسية، ففي ظل أزمة الطاقة العالمية توجهت الدول الأوروبية إلى دول الشرق الأوسط للاستعاضة عن موارد الطاقة الروسية وبعض المنتجات الأخرى. أيضًا هناك تعاون مشترك في ملف الهجرة غير الشرعية من دول جنوب المتوسط للدول الأوروبية في شماله، وستحدد سياسات الحكومة الجديدة أشكال هذه التعاملات ومدى قوتها. 

بالإضافة إلى ذلك، الموقف من قضية الصحراء الغربية الذي كان السبب في أزمات دبلوماسية بين الجزائر والمغرب، حيث ساندت الحكومة الحالية موقف المغرب في مقابل موقف الجزائر، لإنهاء المغرب القطيعة الدبلوماسية مع إسبانيا لفتح الباب للتعاون المشترك في الكثير من الملفات الأمنية والاقتصادية، وهو القرار الذي لم يلق الكثير من الترحيب داخل البرلمان الإسباني خاصة من التيارات اليمينية بسبب إثارة غضب الجزائر نتيجة هذا الموقف، وتهدد سيطرة التيارات اليمينية أيضًا هذه المرحلة الجديدة في العلاقات الإسبانية المغربية، حيث من الممكن تغيير الموقف الإسباني في حال فوز التيارات اليمينية بالانتخابات العامة. 

ختامًا، تكمن أهمية نتائج هذه الانتخابات المحلية بشكل رئيس في آثارها ودلالاتها للانتخابات العامة المقبلة، حيث كشفت إلى أي تيار من التيارات المتنازعة حاليًا يميل الشعب. إذ تشير نتائج هذه الانتخابات إلى تصاعد شعبية التيارات اليمينية بشكل واضح بين أفراد الشعب الإسباني، وهو ما يرجح كفة هذه التيارات في الانتخابات العامة في نوفمبر المقبل، وهو ما يعد تغييرًا كبيرًا سيترتب عليه الكثير من التداعيات على المستوى الداخلي وخاصة فيما يتعلق بقضية انفصال أقاليم مثل كاتالونيا والباسك، أما على المستوى الخارجي من الممكن أن نشهد تغييرًا في التوجهات بشأن الأزمة الروسية الأوكرانية وقضية الصحراء الغربية. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن القول بأن نتيجة الانتخابات العامة محسومة من الآن، حيث إن تحركات كل من التيارين في الفترة القادمة وتعاملهم مع الوضع الجديد، هي التي ستحدد بشكل قاطع الفائز بالدورة القادمة من الانتخابات العامة.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى