رؤية استشرافية: روسيا ما بعد بوتين
حَل العام المنصرم 2022 على العالم حاملًا معه تغييرات ثورية ليس ثمة شك في أنها لامست الجميع بشكل أو بآخر وبلا استثناء. وقد حمل سيناريو نهاية الحرب التي شنتها روسيا بقيادة الرئيس “فلاديمير بوتين” في أوكرانيا تأويلات عدة كان من أبرزها طرح تساؤلات حول شكل القيادة الروسية ما بعد بوتين. بشكل يدفع إلى ضرورة النظر لما تعرضت له نظم سياسية مشابهة حال تغيير القائد، ومن ثم النظر في الحال الروسي ما بعد بوتين وأبرز المرشحين المحتملين لخلافته.
النظام الشخصي للحكم: القائد والسياسة
تُدار روسيا من خلال نظام يقوده الرئيس “فلاديمير بوتين” الذي يعتمد على عملية صناعة قرار تقوم على أساس شخصي يتمحور في المقام الأول حول نفسه هو، وتوجهاته نحو العالم، ورؤيته للأحداث التي يقوم على أساسها باتخاذ القرار. ولا يعد نظام الحكم بين يدينا نمط جديد؛ فالعالم عرف العديد من الأنظمة السياسية التي تدار من خلال تركز القوى بالكامل في يد القائد الواحد. ويكون القائد محل النظر مدعومًا من خلال حزب سياسي ومن ورائه أجهزته الأمنية أو أذرعه الأمنية سواء كانت تابعة للحكومة أو عبارة عن شركات وهيئات خاصة تخضع لتصرفه بالكامل مثل “فاجنر” في روسيا.
وبناءً عليه، قبل النظر في فرضيات غياب “بوتين” عن الحكم في روسيا، نرى أنه من الضروري النظر إلى ما ترتب على تغيير القادة في دول أديرت من خلال أنظمة سياسية مشابهة. حيث ننظر في الحالة الفنزويلية بعد وفاة الرئيس “هوجو تشافيز- مارس 2013”. فقد حكم “هوجو تشافيز” فنزويلا على مدار 14 عامًا، “1999- 2013”. وشهدت الدولة خلال فترة حكمه ثورة حقيقية؛ فقد سعى “تشافيز” إلى إقامة عالم أكثر عدالة، ومساندة البسطاء، ومكافحة الفقر.
وكان من أبرز إنجازاته تخصيص موارد هائلة لفنزويلا لتحقيق العدالة بين الناس بعد أن ذهب أكثر من 45% من الإنفاق العام لتمويل السياسات الاجتماعية، وارتفع عدد المُعلمين خلال رئاسته إلى خمسة أضعاف العهود السابقة، وانخفضت تكلفة النفقات العلاجية بشكل كبير، واستوعب القطاع العالم أعدادًا هائلة من فرص العمل، وانخفضت معدلات الفقر من 49% عام 1998 إلى 27% لحظة وفاته. وكان من أبرز توجهاته السياسية الخارجية أنه كان من أعداء الإمبريالية الأمريكية، وألزم الشركات الأجنبية التي تشتري النفط من بلاده بإعادة التفاوض في عقود النفط.
دخلت البلاد عقب وفاته في مرحلة جديدة يجوز القول إن “تشافيز” نفسه كان أحد المحطات المؤدية لها خلال فترة مرضه. حيث كان الشخص الذي أعلن خبر وفاته “نيكولاس مادورو” هو نفسه الشخص المخول له إدارة البلاد خلال مرحلة انتقالية وصولًا إلى انتخابات الرئاسة، وهو نفسه الشخص الذي سبق وأن أوصى “تشافيز” الشعب باختياره رئيسًا خلفًا له. وكان هناك الكثير من المشككين والمعارضين لوجود “مادورو” في سدة الحكم، حتى خلال الفترة الانتقالية؛ نظرًا إلى أنه كان سائق حافلة سابق، إلى جانب كونه واحدًا من الزعماء النقابيين.
وبالنظر إلى أبرز ما تعرضت له فنزويلا عقب وفاة “تشافيز” ونقل السلطة لخلفه نجد أنها تتمثل فيما يلي:
أولًا: رغم انبثاقه عن مدرسة القيادة “التشافيزية” إلا أن “مادورو” لم يكن يملك ما يكفي من حضور وذكاء اجتماعي بشكل يضعه على مقربة من كاريزمية سلفه. حيث كان لـ “تشافيز” مهارات سياسية استثنائية في الإقناع تعود في الأساس للموهبة التي افتقر لها “مادورو”.
ثانيًا: تراجعت أسعار النفط العالمية في منتصف عام 2014، وترتب على ذلك دخول الاقتصاد الفنزويلي في حالة من الانهيار والتدهور المستمر يكون من الأقرب القول إنها بدأت منذ توليه الحكم. مما أدى إلى اندلاع الاضطرابات التي رافقها تعزيز “مادورو” لسلطته من خلال الاعتماد على القمع السياسي والرقابة والتلاعب بالانتخابات. ففي العام 2016، تقلص الحجم الكلي للاقتصاد بنسبة 18% في العام 2016، وانخفض مرة أخرى بنسبة 35% في العام 2018، ويظل يمضي في وتيرة انهيار مطرد حتى اليوم.
وشهد العام 2018 إعادة انتخاب “مادورو” لفترة رئاسية جديدة لم تكن معترفًا بشرعيتها من العالم الغربي. وكان ذلك هو نفس العام الذي وصل التضخم فيه داخل فنزويلا لدرجات قياسية غير مسبوقة بنسبة تصل إلى مليون في المائة، بمعنى أن أسعار السلع والخدمات ارتفعت بمقدار مليون مرة. ودفع هذا التسارع الكبير في مستويات الأسعار العديد من التجار لرفض التعامل بالعملة المحلية نظرًا لتآكل قيمتها، وعكف الأثرياء على تحويل أموالهم إلى عملات أخرى، ووصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى ما يزيد على 3 مليون بوليفار.
وبوجه عام، عكف “مادورو” على حل مشكلاته من خلال اللجوء إلى واحد من أسوأ الحلول الاقتصادية على الإطلاق وهو طباعة الأوراق النقدية بشكل مكثف وبدون غطاء نقدي حقيقي. وذلك عوضًا عن القيام بإصلاحات حقيقية كمحاولة لتنويع روافد الاقتصاد والاستثمار في الإنتاج المحلي. ونشطت في عهده جماعات الإجرام المسلحة المدعومة من شخصيات رسمية في الدولة وداخل أركان الحكومة.
سيناريوهات ما بعد “بوتين”
لطالما برز الحديث عما سيترتب على غياب الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين” عن منصب الرئيس. حتى في السنوات الأخيرة، خلال فترة ما قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، انتشرت شائعات حول تدهور صحة “بوتين” وإصابته بواحد من اثنين؛ إما سرطان البروستاتا أو مرض باركنسون. بينما حفلت الصحف ومراكز الأبحاث الغربية، منذ اندلاع الحرب، 24 فبراير 2022، بالعديد من المقالات والتقارير التي تتحدث عن كيف ستتأثر الحرب والعالم من ورائها في حال اغتيال “بوتين”.
إذًا، الحديث في الفقرات التالية لا يدور حول فرضية وفاة الرئيس سواء بالاغتيال أو الوفاة بعد الإصابة بمرض أو حتى الوفاة الطبيعية، بل إننا نبحث فيما قد يحدث عقب غيابه عن الحكم، من حيث تداول السلطة، ومن حيث تأثر المشهد العالمي بما في ذلك قرار استمرار روسيا في الحرب من عدمه.
من الناحية الدستورية، ووفقًا للمادة رقم “92” من دستور الاتحاد الروسي الذي اعتُمد بالتصويت الشعبي، 12 ديسمبر 1993، ووفقت على تعديلاته في 7 يناير 2020؛ توجد ثلاث نقاط:
- يبدأ الرئيس الروسي في ممارسة صلاحياته من لحظة أدائه اليمين الدستورية ويُنهي ممارساته بانتهاء فترة ولايته منذ لحظة أداء الرئيس المنتخب الجديد للقسم.
- في حالة اضطرار الرئيس الروسي لإنهاء ممارسته لصلاحيته قبل الموعد المحدد، سواء بسبب الاستقالة أو عجزه عن الاضطلاع بالمهام الموكلة إليه لأسباب صحية أو إقالته من منصبه، ينبغي إجراء الانتخابات الرئاسية في موعد لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ تخلي الرئيس المبكر عن صلاحياته.
- في جميع الأحوال التي يكون فيها رئيس الاتحاد الروسي غير قادر على أداء واجباته، يؤديها نيابة عنه في هذه الحالة رئيس الوزراء. وفي هذه الحالة، لا يحق للرئيس المؤقت بالنيابة أن يحل مجلس الدوما، أو أن يدعو إلى عقد استفتاء، أو تقديم مقترحات لتعديل ومراجعة أحكام دستور الاتحاد الروسي.
قبل التمعن في البحث عن هوية الخليفة الذي ربما يكون “بوتين” قد أعده بالفعل، ينبغي أولًا طرح سؤال آخر حول ماذا يريد “بوتين”؟ نتذكر الآن كيف شَبَه “بوتين” نفسه، يونيو 2022، بقيصر روسيا العظيم “بيتر الأكبر” الذي غزا السويد وفنلندا وأجزاء من الأراضي الإستونية واللاتفية “1700- 1724”. وفي يونيو 2022، أطلق “بوتين” تصريحًا آخر يُضاف إلى إجمالي تصريحاته حول “النظام العالمي الجديد”، قائلًا: “قد تأسس في العالم بالفعل نظام عالمي جديد، ولا تستطيع الدول الغربية أن تتحمله.”
وبينما نمضي في المسافة بين التصريح الأول والثاني، وفي المسافة التي تفصل مسيرة “بوتين” المهنية بالكامل وبين كل ما يحمله في نفسه من آمال وطموحات عريضة يصبو لتحقيقها؛ ليس ثمة شك في أن “بوتين” لا يسعى إلى مجده الشخصي خلال حياته فقط؛ بمعنى إنه رجل يبلغ من العُمر 71 عامًا يحكم أكبر بلد في العالم، ويعلنها مرارًا وتكرارًا عن سعيه إلى تحقيق أمرين؛ أولهما: استعادة مجد أسلافه المنصرم، ثانيهما: القضاء على عهد أحادية القطب. ونفهم من ذلك، أنه يسعى إلى طموحات هو خير من يدرك أنها لابد وأن تتخطى فترة حياته، هو لا يسعى إلى مجده ولمجد سيرته الشخصية فقط، بل يسعى إلى تأسيس دولة روسية قوية بشكل منقطع النظير تعيش بعده لسنوات ولا تنهار بمجرد وفاته. لأنها لو فعلت لانقضت معها طموحاته.
من هذا المنطلق، وبالنظر إلى سابق خبرات “بوتين” عندما نخلطها بما يحيط به من مخاطر، ونضيف إلى إجمالي كل ذلك أفراد عائلته التي من المؤكد أنه يمتلك رغبة في حمايتهم من أي مخاطر مستقبلية، فإنه ليس من المنطق ألا يكون قد اختار لنفسه بالفعل خليفة يبقى الآن في حالة تأهب لاحتمالية توليه الحكم في أي لحظة. لكن ستكون هذه المهمة مقرونة بضرورة ضمان أن يسير الخليفة المختار على درب سلفه ومُعلمه الأول “بوتين”، وأن يؤمن الخليفة مستقبل وأوضاع أفراد عائلة سلفه.
وفيما يلي ننظر في احتمالات أن يكون الخليفة المنتظر لـ “بوتين” واحدًا من الأسماء الأكثر لفتًا للانتباه في الآونة الأخيرة على الساحة السياسية الروسية:
● سيرجي سوبانيان -52 عامًا: عمدة موسكو الحالي وهو شخص سلمي يليق بحاكم مدني ناجح ليس أكثر؛ فقد أظهر قدرات ناجحة في إدارته لموسكو بالفعل ولكنها لا تؤهله لأن يكون المرشح لخلافة “بوتين”.
● رمضان قديروف – 46 عامًا: ربما يكون رجلًا عسكريًا ناجحًا وتابعًا مخلصًا أمينًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بجانب أن عمره الصغير يؤهله لمستقبل باهر. لكنه يظل بعيدًا عن المنصب رغم تردد اسمه مؤخرًا؛ نظرًا إلى كونه مسلمًا، وروسيا لن تقبل أبدًا أن يحكمها رجل مسلم، حتى وإن أبدى قياداتها تفهمًا لنمط حياة المسلمين ومعتقداتهم، لكن يظل بقاء رجل مسلم على كرسي حكم روسيا الاتحادية من المحظورات في مفاهيم النخبة السياسية الروسية.
● ميخائيل ميشوستين- 57 عامًا: ترأس مصلحة الضرائب الفيدرالية الروسية منذ 2010 وصولًا إلى لحظة ترشيح الرئيس الروسي له رئيسًا للوزراء خلفًا لـ “ديميتري ميدفيديف”، 2020. وهو المنصب الذي يكاد يكون ظهوره فيه تم من العدم؛ أي من تلك البقعة التي لم يكن يتخيل أحد ما من نخبة “بوتين” أنه سيُحضر رئيس الوزراء الجديد منها. وهو الشخص الذي يستبعد وجوده على مقعد خليفة “بوتين”، فهو رجل مال وأعمال، تكنوقراطي، في المقام الأول، مما يجعله مستبعدًا من الاضطلاع بمهام استكمال مسيرة “بوتين”.
● نيكولاي باتروشييف- 72 عامًا: سكرتير مجلس الأمن الروسي، ومن الأصدقاء المقربين من “بوتين”. رغم كفاءته المشهود لها، إلا أن وجوده في مرحلة عمرية مقاربة من عمر “بوتين” يجعله مستبعدًا بشكل بديهي؛ إذ أنه من المؤكد أن الرئيس يبحث عن بديل يكون ذا نصيب وافر في الحياة لفترة أطول منه هو شخصيًا.
● ديميتري ميدفيديف- 57 عامًا: رئيس سابق ورئيس وزراء سابق ويشغل حاليًا منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، وهو منصب ذو طابع شرفي. ورغم طرح اسمه على الساحة إلا أنه يظل مستبعدًا؛ نظرًا إلى أن فترة وجوده على مقعد الرئيس تخللتها خلافات متعددة مع “بوتين” على السلطة، واختتمت بمحاولات منه –تمت عرقلتها- ومن فريقه لإعادة الترشح مرة أخرى. لذلك، قد يكون “ميدفيديف” شخصًا يحتل موضع ثقة عند “بوتين”، ولكن هذه الثقة لا تبلغ من الدرجة ما يسمح له بإعادة الكَرة مرة أخرى وتسليمه مفاتيح القرار في مرحلة صعبة مثل تلك التي تشهدها حاليًا البلاد.
● سيرجي شويجو –68 عامًا: وزير الدفاع الحالي وواحد من الرفاق المقربين لـ “بوتين”. ربما يكون في اللحظة الراهنة، خاصة خلال الحرب، هو المرشح الأوفر حظًا لخلافة الرئيس الروسي؛ خاصة وأن كليهما يمتلكان وجهات نظر عسكرية مشابهة، وأقوياء يسير واحدًا منهم في ظل رؤى وطموح الآخر. لكن هذا لا يعني أنه وفي حالة وفاة الرئيس بشكل مفاجئ الآن، واعتلاء “شويجو” سدة الحكم، أنه سيستمر لفترة قد تطول عن عشر سنوات؛ إذ إنه أيضًا يدور في نفس فلك المرحلة العمرية لبوتين، والتي تعد الباعث الأكبر على ارتفاع معدلات خروجه من الحكم ربما يكون في وقت قريب.
عند هذه النقطة، نبحث في أجوبة لعدة تساؤلات: من هو خليفة “بوتين”؟، وهل ستتوقف الحرب لو توفي “بوتين” أو غُيب عن الحكم في الوقت الراهن؟
فيما يتعلق بخليفة “بوتين” الحقيقي، نجد أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا يشير بالفعل إلى وجود خليفة مُعد ومجهز للحظة وفاة الرئيس، لكن يُعتقد أن هويته تظل سرية حتى تصبح لحظة ظهوره على الساحة في الوقت المناسب بمثابة مفاجأة لها وقعها على كُل المتربصين بالكرملين في الداخل والخارج. وليس ثمة شك في أن أبرز السمات التي سيتحلى بها الخليفة ستضعه في مصاف مشابه لبوتين نفسه في لحظة توليه الأول للحكم؛ أي: رجل استخباراتي أو عسكري على أقل تقدير، في الأربعينات من عمره، وطموح، ومخلص ومتفاني للرئيس، ويمضي في اتجاه تنفيذ تعهداته لبوتين واستكمال مسيرته في تحويل روسيا الاتحادية إلى امبراطورية عندما يحكي التاريخ عن عودتها القوية سيقول إنها عادت بفضل سيده “بوتين”. أي أن يكون الخليفة شابًا بما فيه الكفاية، ورجلًا لا تنقصه العزيمة ليحمل على عاتقه لواء الحفاظ على إرث سيده.وبناءً عليه، يكون من المستبعد النظر في سيناريوهات مثل توقف الحرب وانهيار روسيا وتفككها حال وفاة “بوتين”، لأن هذه احتمالات سيعمل “بوتين” ورجال الدولة العميقة على تلافيها. حتى لو كانت احتمالات تلوح في الأفق، إلا أن إمكانية تحققها وخروج الأمور عن السيطرة سواء في الحرب أو في الداخل الروسي حال وفاة الرئيس تظل ضعيفة. بجانب أن احتمالات انزلاق البلاد إلى مسار انحدار اقتصادي متسلسل على غرار النموذج الفنزويلي بعد “بوتين” تظل مرهونة باستمرارية العلاقات الاقتصادية العميقة للغاية بين روسيا والصين. لو انقطعت العلاقات أو تضاءلت لأي سبب من الأسباب، وهو بدوره أمر مستبعد، يترتب على ذلك أن يقع الاقتصاد الروسي تحت وطأة انهيار مطرد، والعكس صحيح.