
التعليم ما قبل الجامعي على طاولة الحوار الوطني … تحديات متشابكة وحلول ممكنة
يواجه التعليم قبل الجامعي في مصر مجموعة من التحديات التي أثقلتها عوامل عدة في مقدمتها ما خلفته جائحة كورونا من تراجع في مؤشرات التعليم في العالم أجمع ولا سيما مصر، بالإضافة إلى تذبذب بعض السياسات الداخلية الخاصة بمحاولات إصلاح التعليم المصري، وما تبعها من برامج وخطط منها ما حقق المستهدفات المرجوة ومنها ما أخفق مما أعقب مزيدًا من التحديات، واليوم ينتظر التعليم من منضدة الحوار الوطني “روشتة” تداوي المرض لا العرض، فسيناريوهات التغلب على تحديات التعليم المصري تحتاج أولًا إلى توصيف المشكلات توصيفًا صادقًا، وواقعيًا، للوصول إلى حلول ممكنة تناسب خصائص التعليم المصري، وتراعي حجم موارده المادية والبشرية.
تحديات متشابكة وحلول ممكنة
تتكون أي منظومة تعليمية من أربعة عناصر متراتبة في الأهمية، تبدأ بالمتعلم (الطالب)، ويمثل نواة العملية التعليمية وبدونه تسقط المنظومة، ثم يأتي المنهج في المرتبة الثانية بمفهومه الشامل وما يحتويه من مواد تعليمية وأنشطة واستراتيجيات تدريسية وغيرها، وفي المرتبة الثالثة يأتي المعلم، وأخيرًا المبنى المدرسي.
العنصران الأول والثاني هما أساس المنظومة التعليمية والعنصران الآخران على الرغم من أهميتهما، إلا أنه من الممكن الاستغناء عنهما ببدائل مختلفة، فالشكل التقليدي للمعلم (التفاعل الآني) يتم استبداله بفيديوهات الشرح المسجلة أو مجموعات المشروعات العلمية، وورش العمل، أو أي وسيلة أخرى من طرق التعلم الذاتي، كذلك يحل التعلم عن بعد محل المنظور الراديكالي للمبنى المدرسي كأحد عناصر العملية التعليمية.
وفي مصر، هناك جملة من التحديات لكل عنصر من العناصر سالفة الذكر، يمكن استعراضها على النحو التالي:
أولًا: تحديات متعلقة بالمتعلمين
الزيادة السكانية هي الفاعل الرئيس في تراجع الخصائص السكانية المتعلقة بالتعليم، مثل ارتفاع معدلات الأمية والتسرب من التعليم، وارتفاع الكثافات الطلابية داخل الفصول، وانخفاض نصيب الطلاب من المعلمين، وبالتالي تراجع مؤشرات جودة التعليم وبزوغ ظاهرات سلبية مثل الدروس الخصوصية وغيرها.
تُظهر الأرقام واقع التحديات والمشكلات المتعلقة بالطلاب، فقد سجلت معدلات زيادة الطلاب على مدار الخمس سنوات الماضية ارتفاع ملحوظ بلغت نسبته نحو 20%، شكل (1). أما عن كثافات الفصول، فقد بلغت الكثافة الطلابية في المرحلة الابتدائية للعام الحالي نحو 54 طالبًا، بعد أن كانت 51 طالبًا منذ خمس سنوات، شكل (2).
وعن مشكلة التسرب، فعلى الرغم من تراجع معدلات التسرب من التعليم، إلا أن فجوة النوع الاجتماعي لهذه الظاهرة تتسع تبعًا لعوامل العمر، والتوزيع الجغرافي، فنسب التسرب وفق الكتاب الإحصائي لوزارة التربية والتعليم ارتفعت خلال الخمس سنوات الماضية (بعد تطبيق مشروع إصلاح التعليم – نظام التعليم 2.0)، وسجلت نسب تسرب الإناث بالمرحلة الابتدائية ارتفاعًا في محافظات دمياط، الشرقية، مطروح، البحر الأحمر، شمال سيناء، وجنوب سيناء، شكل (3).

المصدر/ كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/2022-2023/pdf/ch1.pdf

المصدر/ كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/2022-2023/pdf/ch1.pdf

المصدر/ كتب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني
https://emis.gov.eg/annual_book.aspx?id=400
ثانيًا: تحديات متعلقة بالمناهج:
يُختزل مفهوم المنهج التعليمي بين عموم الشعب المصري في الكتاب المدرسي فقط، بيد عناصر المنهج تتخطى حدود الكتاب المدرسي والمحتوى الأكاديمي، فالمنهج يضم عناصر الموقف التعليمي وما يشمله من أنشطة وأساليب تقييم وتقويم واستراتيجيات التدريس، وكل مدخلات ومخرجات الموقف التعليمي، بالإضافة إلى عمليات التعلم من تخطيط وتنفيذ، فتقييم ثم تقويم وأخيرًا تغذية راجعة وتطوير تعليمي ومهني.
وقد شهدت مناهج التعليم في مصر خلال الخمس سنوات الماضية سياسات تطوير متباينة ومتعددة ما بين تطوير الكتب الدراسية، ثم حذف أجزاء منها لعدم مناسبتها للخريطة الزمنية للتعليم، علاوة على فرض نماذج مختلفة من أساليب التقييم، فتم استخدام التقييم الإلكتروني “التابلت” تارة، ثم استخدام نظام الاختيار من متعدد (multiple-choice question MCQ) “البوكليت”، ثم تطبيق نظام الامتحانات التي تعتمد على الكتاب المفتوح “Open Book” تارة أخرى، وعلى صعيد الأنشطة الفنية والرياضية داخل المدارس، فقد شهدت إهمالًا نسبيًا خلال ذات الفترة، وتراجع مشاركة الوزارات الأخرى في تنمية الأنشطة المدرسية كوزارة الشباب والرياضة، ووزارة الثقافة وغيرها من الجهات المعنية.
من جهة أخرى، تعددت بشكل ملحوظ أنواع أنظمة التعليم الأجنبية ذات المناهج الدولية (الأمريكية – البريطانية – وغيرها)، وأنظمة التعليم المحلية ذات المناهج المترجمة إلى لغات أخرى، وأضحى التوسع في المدارس الدولية أو المحلية الأجنبية كاليابانية والألمانية والفرنسية وغيرها هدف وزارة التربية والتعليم بداعي التطوير، لذا فمن الضروري أن يحلل الحوار الوطني أبعاد هذا التعدد، وتداعياته على منظومة التعليم بشكل عام، وعلاقته بالهوية الوطنية بشكل خاص.
ثالثًا: تحديات تتعلق بالمعلمين:
يمكن تمييز نوعين من التحديات المتعلقة بالمعلمين؛ كمية ونوعية، تتمثل التحديات الكمية في عجز أعداد المعلمين، حيث انخفضت أعداد المعلمين خلال السنوات الخمس الماضية بمعدلات مرتفعة مقابل ارتفاع عدد الطلاب المستجدين، الأمر الذي ينتج عنه انخفاض في نصيب الطلاب من المعلمين. وبلغ عدد المعلمين عام 2019 نحو 1.25 مليون معلم، بينما خلال العام الحالي بلغ عدد المعلمين نحو 956 ألف معلم ومعلمة، وعليه فقد ارتفع نصيب كل معلم من التلاميذ من 21.9 طالبًا/معلم عام 2019 إلى 26.7 طالبًا/معلم خلال العام الحالي، شكل (4).

شكل (4) تطور نصيب المعلم من الطلاب خلال خمس سنوات (2019-2023)
المصدر/ كتب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني
https://emis.gov.eg/annual_book.aspx?id=400
أما التحديات النوعية، فتضم التأهيل والتدريب والتطوير المهني للمعلمين، وعدد ساعات التدريس الفعلية، ونسبة المعلمين الممارسين للتعليم في مقابل الغير ممارسين، شكل (5)، وأيضاّ تكافؤ الفرص في الوظائف القيادية التربوية والإشرافية من منظور النوع الاجتماعي، ومستويات الرضا الوظيفي وما يقابلها من رواتب وحوافز المعلمين، فتدني أجور المعلمين يخلف قدرًا من الدوافع نحو تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية وتراجع جودة التعليم داخل المدارس المصرية.

شكل (5) نسبة الممارسين للتدريس لغير الممارسين بمراحل التعليم للعام الدراسي الحالي 2023
المصدر/ https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/021-022/pdf/ch5.pdf
رابعًا: تحديات تتعلق بالمبنى المدرسي:
يمكن تقسيم تحديات المباني المدرسية أيضًا إلى كمي ونوعي، فكميًا لا تتناسب معدلات بناء فصول جديدة مع معدلات النمو السكاني، فقد سجلت نسب بناء المدارس عام 2019 نحو 2%، وفي المقابل بلغت نسب النمو السكاني نحو 2.5%
وبحسب التعداد السكاني عام 2017، هناك توجه نحو إنشاء مزيد من الفصول الدراسية بكافة المراحل التعليمية، لكن يظل العجز في الفصول قائمًا بأعداد تبلغ نحو 250 ألف فصل بحسب تصريحات وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني.
في سياق متصل، تضم التحديات النوعية الخاصة بالمباني المدرسية ضعف جودة المبنى المدرسي فنيًا وهندسيًا، إما تهالك المبنى أو الأثاث المدرسي، أو صغر مساحة المبنى المدرسي والمرافق المخصصة لممارسة الأنشطة كالمعامل والمسارح والملاعب وغيرها من ملحقات المباني المدرسية، والتي يجب أن يكون نصيب الطالب منها من 2- 4 أمتار مربعة وفق المعايير الدولية.
يوضح الاستعراض السابق لتحديات التعليم قبل الجامعي في مصر، أن هذه التحديات تحتاج إلى جملة من الحلول الواقعية. يمكن إيجاز بعض منها على النحو التالي:
– مجانية مطلقة ودعم محكم:
يتضح أن مجانية التعليم وجودته ثنائية طردية خاصة في الدول ذات الدخل المنخفض، ونظرًا للإقبال المتزايد على أنظمة التعليم ذات الجودة، فقد توسعت وزارة التربية والتعليم في تقديم بدائل عن مدارس التعليم العام بمقابل مادي يتناسب مع مستوى الأسرة متوسطة الدخل، تحت مظلة تضم مجموعة متنوعة من المدارس الحكومية ذات المصروفات مثل (المدارس الخاصة – الدولية – الرسمية – الرسمية للغات – اليابانية – الألمانية- وغيرها).
هذه المدارس تتمتع باستثناءات دعم مادي لا تتناسب مع طبيعتها الاستثمارية. لذا من الأفضل أن يتم إعادة النظر في عدد الطلاب المشمولين لهذا الدعم ضمن الأسرة الواحدة، وبقول آخر أن تكون مجانية التعليم مطلقة في المدارس الحكومية العامة، ومصروفات التعليم في المدارس الحكومية ذات المصروفات مُحكمة بضوابط تقتصر على طفلين فقط في الأسرة الواحدة، والطفل الثالث تضاعف مصروفاته تعليمه في المدارس ذات المصروفات بما يتناسب مع قيمة خدمة التعليم في المدارس المماثلة بالقطاع الخاصة (لغات – أمريكية – بريطانية – وغيرها).
– تقنين الدروس الخصوصية
الدروس الخصوصية من القضايا المثيرة للجدل في التعليم، لذلك فإن مراجعة تقنينها وقوانين ممارستها يجب أن تطرح بواقعية على مائدة الحوار الوطني، فضلًا عن أن الحلول الممكنة لهذه الظاهرة تتمثل في مناقشة تداعيات قرار تقنين مراكز الدروس الخصوصية الذي أصدرته الوزارة مؤخرًا، ومدى انعكاس تنفيذ هذا القرار على العملية التعليمية وتأثيره على الدور الحقيقي للمدرسة، فهل هو بديل أم مكمل لها؟
– تطبيق آلية الحضور المّرن لإعادة توزيع المخصصات المالية
تتمدد ظاهرة غياب الطلاب من المدارس إلى المراحل الدنيا عامًا بعد الآخر بصورة لا يمكن التغافل عنها، فنسبة غياب طلاب المرحلة الثانوية بأكملها وطلاب العام النهائي في المرحلة الإعدادية يمكن ملاحظتها، على الرغم من غياب الإحصائيات الرسمية الخاصة بنسب الحضور الفعلي لطلاب هذه المراحل في المدارس. إذا ما كان هذا هو الأمر الواقع، فما مدى إمكانية تطبيق سيناريو أفضل يعتمد على مرونة حضور طلاب المرحلة الثانوية للمدارس، وفق ضوابط محددة تراعي تنمية المهارات الاجتماعية (حضور جزئي – حضور بالتناوب)، بحيث يتم توجيه المخصصات المالية لبناء المدارس في المراحل الابتدائية والإعدادية، بدلًا من المرحلة الثانوية لاستيعاب أكبر عدد من طلاب هذه المراحل.
– رخصة محددة المدة لمزاولة المهنة
تعد رخصة مزاولة مهنة التعليم محددة المدة آلية فعالة في بعض الدول كاليابان والسعودية، وتضمن هذه الآلية التنمية المهنية المستمرة للمعلمين، فيتم من خلال اشتراطات تجديدها تحسين مستوى الأداء الحقيقي للمعلم، ويتحدد بموجبها مدى استحقاق المزايا المالية، فيتحقق النمو المهني للمعلم بموجب أدلة يمكن قياسها تتضمن إنجازات المعلم.
– زيادة فرص تأنيث القيادة التربوية
على الرغم من استحواذ النساء على النسبة الأكبر من وظائف التعليم، إلا أن معدلات تواجدهم في المناصب القيادية التربوية والإشرافية في وزارة التربية والتعليم أقل من نسبة الرجال، هذا التفاوت يترتب عليه تراجع في نتائج العملية التعليمية، فقد أثبت نتائج تقرير التقييم الدولي لتحليل أنظمة التعليم الصادر عن منظمة اليونسكو، أن نتائج التعلم ونمو مهارات الرياضيات والقراءة ترتبط بالنوع الاجتماعي للقيادة التربوية، وتتناسب طرديًا كلما زاد تمثيل المرأة في المناصب العليا في التعليم.
– فرص استثمارية أكثر
من الحلول الممكنة أيضًا، إتاحة مزيد من الفرص الاستثمارية تشمل البنية التحتية والمحتوى التعليمي من خلال التوسع في إنشاء المدارس بنظام حق الانتفاع المشروط، وزيادة التعاون مع الشريك الصناعي في بناء مدارس التعليم الفني التكنولوجي، لربط التعليم ومخرجاته بسوق العمل وما يتطلبه من مهارات.
مجمل القول، يعد الحوار الوطني فرصة حقيقية للتوافق الشعبي على الرؤى الممكنة والبدائل الأقرب للواقع، للتغلب على تحديات التعليم ما قبل الجامعي في مصر دون تجمل أو انحياز، كذلك فهو منبر جامع يمكن من خلاله تقديم تقييم موضوعي لمشروع إصلاح التعليم الذي يتم تنفيذه بالتعاون مع البنك الدولي، وشارف على الانتهاء بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على بدايته، وما تبعه من مقاومة شعبية ونجاحات في تنفيذ بعض المكونات وإخفاقات في مكونات أخرى، وخاصة مكون التنمية المهنية المستمرة للمعلمين، ومكون توظيف البنية التحتية التكنولوجية في اختبارات مرحلة الثانوية العامة.