الحوار الوطني

هل حان الوقت لإطلاق مفوضية مكافحة التمييز؟

يُقصد بتعبير “التمييز العنصري” أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة.

فالمقصود به هو تنامى شعور إنسان ما بتفوق عنصره البشري الذي ينتمي إليه (سواء على مستوى اللون أم الجنس أم على أي مستوى من خصائص الإنسانية)، وينشأ بالضرورة من هذا الشعور غير السوي سلوك عدواني عنصري؛ لأنه يعزز من اعتقاد المرء بوجود تمايز بينه وبين الغير والآخر، مما يستوجب سيادة النظرة بوجود تفاوت بينه وبين الناس. ثم تتحول هذه النظرة إلى نظرة تفاوتية فيقرر من يؤمن بالنظرة العنصرية أن جنسه أعلى من جنس الآخر، مما يبرر له السيطرة عليهم بقهرهم والانتقاص من إنسانيتهم، والحط من قيمة كرامتهم الآدمية.

تفرض ممارسات التمييز العنصري أعباءً ثقيلة تتحملها المجتمعات والشعوب، وبالتالي كان لزامًا على المجتمعات اتباع استراتيجيات شاملة من شأنها مواجهة التمييز، بل والعمل على تقليل هذه الممارسات الضارة؛ من خلال استحداث الأطر التشريعية التي تنظم عمل المؤسسات التنفيذية، والعمل بالتوازي على رفع الوعي المجتمعي بهذه الظاهرة. وسيتناول هذا التقرير الأصل التاريخي للتمييز العنصري، وما هي الأطر الدولية الحاكمة لهذه الظاهرة، ثم الاستحقاق الدستوري في مصر حول التمييز وأهمية إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز بوصفها أحد القضايا المطروحة على طاولة الحوار الوطني. بالإضافة إلى النماذج الدولية الناجحة في إنشاء المفوضيات العاملة في مجابهة التمييز، وفى النهاية هل من الضروري إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز في مصر؟ 

أولًا: الإطار التاريخي للتمييز العنصري:

بنظرة تاريخية حول ممارسات التمييز العنصري، فلقد تم  اتباع سياسة التمييز العنصري في كثير من قارات العالم ودوله وأقاليمه على مدى العصور في آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا؛ منذ اليونان والرومان والصليبيين وحتى وقتنا الحالي  بمختلف صوره وأشكاله ومفرداته العرقية. فقد وُجدت أشكال العنصرية منذ بدايات التاريخ، فقبل أكثر من ألفي عام استعبد الإغريق القدماء والرومان الشعوب التي اعتبروها أدنى منهم.

وتمكن الأوربيون في القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين الميلاديين من فرض سيطرتهم على أجزاء كبيرة من آسيا وأفريقيا، وبرروا سيطرتهم على أساس أن السلالات ذات البشرة السوداء والسمراء والصفراء لابد من تمدينهم بوساطة البيض المتفوقين. وفي كل مكان من الإمبراطورية البريطانية كان الزعم الزائف بتفوق البيض يتغلغل في مُعظم مجالات الحياة، ففي الهند المستعمرة -على سبيل المثال- لم يكن هناك سوى قدر ضئيل جدًا  من الاختلاط بين الوطنيين الهنود والموظفين البيض، ونظر المستوطنون البيض في أستراليا إلى السكان الأصليين على أنهم أدنى مرتبة، ووضع كثير من البيض في الولايات المتحدة -منذ القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلاديين– كثيرًا من السود تحت نير الاستعباد الذي كان سببًا رئيسًا في قيام الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865م). 

ومع أن إلغاء الرق قد تم خلال ستينيات القرن التاسع عشر الميلادي، فإن العزل الاجتماعي والتمييز العنصري ظلا مستمرين ضد السود، ومع أن معظم السياسات الاستعمارية قد انتهت في أواسط القرن العشرين الميلادي؛ فإن آثارها في العالم ما زالت باقية إلى اليوم مع اختلاف صورها وأشكالها.

ثانيًا: الإطار الدولي الحاكم  للتمييز العنصري:

هناك اتفاق عام على عدم مشروعية التمييز بصوره وأشكاله، وهو المبدأ الذي تم تأكيده وتعزيزه بموجب العديد من النصوص القانونية الواردة في عدة مواثيق وإعلانات واتفاقيات دولية؛ إذ تكفل المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة المبدأ الأساسي لحظر التمييز، وأكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 مبدأ المساواة والكرامة الإنسانية المتأصلة في بني البشر كافة، وهي مبادئ وحقوق أصيلة وغير قابلة للتصرف.

هذا بالإضافة إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966  في المادة 20 الذي حظر أي تشجيع للكراهية الاثنية أو العنصرية أو الدينية والتي تتضمن التحريض على التمييز أو العداء أو العنف. جدير بالذكر أن مختلف المواثيق الدولية وتوصيات الأمم المتحدة وغالبية المواثيق الإقليمية والقارية لحقوق الإنسان احتوت على نصوص تهدف إلى حظر التمييز وإبراز وسائل مكافحته وآليات لمعالجة الأسباب المباشرة وغير المباشرة المؤدية إليه.

وفي عام 1993، قامت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بتعيين مقرر خاص معني بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب. وهناك عدة  التزامات أُقرت دوليا من شأنها مجابهة التمييز العنصري من أهمها: 

1 – اتفاقية منع جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965: في 21 ديسمبر 1965، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بجميع أشكاله، ودخلت الاتفاقية -التي تمثل صكًا ملزمًا قانونيًا- حيز النفاذ في 14 يناير 1969. وبموجب هذه الاتفاقية، فإن كل دولة طرف تتعهد بعدم قيامها بأي عمل من أعمال التمييز العنصري ضد الأشخاص أو الجماعات أو المؤسسات، وتتعهد الدول الأطراف بعدم تشجيع أي تمييز عنصري يصدر عن أي شخص أو أي منظمة أو حمايته أو تأييده، وتتخذ هذه الدول التدابير الفعالة لإعادة النظر في السياسات الحكومية القومية والمحلية.

2 – اتفاقية القضاء على جريمة الفصل العنصري لعام 1973: وهي معاهدة متعددة الأطراف وتعد أول معاهدة دولية تصنف الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية. اعتُمدت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 نوفمبر 1973، والتي أكدت بموجب المادة الأولى منها أن الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية، وأن الأفعال اللا إنسانية الناجمة عن سياسات الفصل العنصري وممارساته وما يماثلها من سياسات العزل والتمييز العنصريين وممارساتهما هي جرائم تنتهك مبادئ القانون الدولي، ولاسيما مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتسبب تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الدوليين. وتعهدت الدول الأطراف في هذه الاتفاقية باتخاذ جميع التدابير التشريعية وغير التشريعية اللازمة لقمع أي تشجيع على ارتكاب جريمة للفصل العنصري. وانضمت مصر لهذه الاتفاقية في فبراير 1977.

3 – ميثاق روما لعام 1998: وهو ميثاق خاص بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية والذي عاقب في الفقرة (ح) من المادة السابعة منه كل شخص يقوم “باضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس، أو لأسباب أخرى من المسلّم عالميًا بأن القانون الدولي لا يجيزها”. وارتأى أن هذه الأفعال والممارسات والتي تعد صلب جريمة التمييز العنصري تندرج ضمن إطار الجرائم ضد الإنسانية، وهي الجريمة التي تشمل أيضًا جريمة الفصل العنصري بموجب الفقرة (ي) من المادة السابعة ذاتها. وتعد مصر جزءًا من هذا الميثاق الدولي.

4 – إعلان وبرنامج عمل ديربان 2001: هو خطة أممية لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب على الصعيد العالمي، فضلًا عن أنه الوثيقة التي تمثل التزامًا راسخًا من المجتمع الدولي بمعالجة هذه القضايا، وقد تم اعتماده في 2001 بديربان جنوب أفريقيا. ويقر برنامج عمل ديربان أنه ليس هناك دولة بمنأى عن العنصرية، وأن العنصرية مصدر قلق عالمي، وأن التصدي لها يتطلب جهدًا عالميًا. وعلى الرغم من أن إعلان وبرنامج عمل ديربان غير ملزمين قانونا، فإن لهما قيمة أخلاقية مهمة ويعدان أساسًا في الجهود المبذولة للقضاء على التمييز والعنصرية.

ثالثًا: مفوضيات مكافحة التمييز في العالم

لقد جاءت الدساتير المصرية جميعها بداية من سنة 1923 وانتهاءً بدستور 2014 ترد المواطنين جميعًا إلى قاعدة موحدة، وهي المساواة بوصفها ذراعًا أساسيًا للعدل وجوهرًا لضمان الحرية والسلام الاجتماعي؛ فتنص المادة 53 من دستور 2014 على: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي». 

وتناول الدستور أزمة التمييز في أكثر من موضع؛ حتى يضمن تحقيق المساواة الكاملة لكافة المواطنين رجالًا ونساءً فتنص المادة 11 من الدستور على: “تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقا لأحكام الدستور…”. وعدّ الدستور التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وألزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز. ونص على إنشاء مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز.

وإن مفوضية مكافحة التمييز ليست بالشيء الجديد، فلدينا أمثلة لكثير من الدول التي توجد لديهم مفوضيات لحقوق الإنسان ومفوضيات ضد التمييز والتي يمكن الاسترشاد بها سواء فيما يتعلق بالتشكيل أو الأدوار أو آليات العمل بما يضمن كفاءتها وفاعليتها ومن بينها:

1 – مفوضية حقوق الإنسان الأسترالية: تأسست مفوضية حقوق الإنسان الأسترالية بموجب قرار صادر عن البرلمان الاتحادي عام 1986 من أجل السعي نحو الوصول إلى مجتمع استرالي تحترم فيه حقوق الإنسان، وتعمل المفوضية كهيئة مستقلة ولكن يتم تمويلها من الحكومة الأسترالية، وتختص المفوضية بالمسؤولية عن التحقيق في أمر دعاوى انتهاك حقوق الإنسان بموجب قوانين مناهضة التمييز.

2 – المفوضية الكندية لحقوق الإنسان: تأسست المفوضية الكندية لحقوق الإنسان في عام 1977 طبقًا للقانون الكندي لحقوق الإنسان، وقانون المساواة في العمل لتطبيق الحقوق والحريات لضمان حماية الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع الكنديين. وتعمل المفوضية على تعزيز فهم الجمهور للقانون الكندي للحقوق الإنسان، واستلام الشكاوى المتعلقة بالممارسات التمييزية، وتلقي التوصيات والاقتراحات والطلبات المتعلقة بالحقوق والحريات البشرية، وتقديم تقرير وتوصية بها إلى وزير العدل.

3 – الهيئة الاتحادية لمكافحة التمييز بألمانيا: هي هيئة مستقلة تعمل  لمكافحة التمييز وتقديم المشورة لمن يحتاجها مجانًا وبشكل يراعى السرية. وتتولى الهيئة جمع البيانات وتحليلها حول اشكال التمييز في ألمانيا وترفع توصياتها في تقرير كل أربع سنوات إلى البرلمان الألماني. وتمارس الهيئة دورها في بناء الوعي عبر الشراكة مع العديد من المنظمات الأهلية المحلية التي تعزز من الممارسات الإيجابية المناهضة للتمييز على أساس قانوني سليم.

4 – المفوض العام في جنوب إفريقيا: يقضي دستور جنوب أفريقيا الصادر في 1996 بإنشاء عدد من المؤسسات التي من شأنها حماية حقوق المواطنين مثل: المدافع العام، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة تعزيز وحماية حقوق الجماعات الثقافية والدينية واللغوية، ولجنة المساواة بين الجنسين، والمراجع العام واللجنة الانتخابية. وهي هيئات مستقلة ولا تخضع سوى للدستور والقانون، ويجب أن تكون محايدة وأن تمارس سلطاتها وتؤدي مهامها دون خوف أو محاباة. وتقوم الأجهزة الأخرى في الدولة بمساعدة هذه المؤسسات وحمايتها لضمان استقلالها وحيادية وفعالية هذه المؤسسات.

رابعًا: وجود مفوضية لمكافحة التمييز يمثل ضرورة ملحة:

على الرغم من الجهود الدولية التي فرضتها المواثيق والمعاهدات وأيضًا الدستور المصري إلا أن المقاصد والأهداف لم تتحقق على النحو المأمول، وبقيت الأسباب المباشرة وغير المباشرة بارزة بأشكالها المختلفة، فضلًا عن كونها ممارسات تنتشر بين المجتمعات وتتم في أكثر من بيئة، والتي تؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. 

إنشاء هذه المفوضية يمثل ضرورة حتمية تتزامن مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي دشنها الرئيس السيسي في سبتمبر 2021، فضلًا عن كونه التزامًا دستوريًا بموجب المادة 53 من الدستور. بالإضافة إلى أن مصر قد صدقت مصر على عدد من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تحظر التمييز على أي اساس ومنها نص المادة 93 من الدستور والتي ألزمت الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتي تصدق عليها مع اعتبارها في مرتبة القوانين الملزمة.

سيمثل وجود مفوضية تواجه التمييز في مصر طفرة كبيرة في ضمان حقوق المواطنين، خاصة وأنه من طبيعة عمل المفوضيات التركيز وتحري الدقة في الممارسات وتقييم النتائج أولًا بأول؛ نظرًا لتعقد وصعوبة مشكلة التمييز العنصري على مر العصور على الرغم من التطور الهائل التي شهده الإنسان. وأدى التقدم التكنولوجي الذي وصل إليه الإنسان حاليًا إلى تعدد وتعقد صور التمييز وأشكاله؛ ليصبح بصورة أقبح تترتب على إثرها ممارسات خاطئة بين: عنف، وصراع، وقتال. ولذلك حان الوقت لإنشاء هذه المفوضية بعد أن اجتازت مصر بنجاح مرحلة مكافحة الإرهاب وتنتقل إلى الجمهورية الجديدة.

ختاما: لقد أصبح لزامًا على الدولة تطبيق الاستحقاق الدستوري المتمثل في إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز في مصر تكون مختصة بشأن التعامل مع الممارسات التمييزية العنصرية وعدم المساواة  والتي ستستهم بدورها في  وقف الكثير من الانتهاكات. فضلًا عن منحها العديد من الضمانات لضحايا الانتهاكات، بالإضافة إلى نشر ثقافة المساواة وعدم التمييز بين المواطنين لأي سبب، وإعلاء مبدأ تكافؤ الفرص من خلال التوعية بالحقوق والواجبات التي يؤكدها القانون والدستور. فهي ليست رفاهية وإنما ضرورة ملحة تفرضها نصوص الدستور المصري والتزام دولي لابد من استيفائه، وقبل كل هذا واجب وطني تجاه المواطن المصري لضمان تمتعه بالمساواة والكرامة الإنسانية.

سلمى عبد المنعم

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى