الحوار الوطني

بعد سنوات من التأجيل: خطوات منتظرة من الحوار الوطني لتسريع إصدار قانون المجالس المحلية

تمتلك مصر أقدم الأنظمة المحلية في العالم، لكنها لم ترق إلى مستوى نظام الحكم المحلي أو الإدارة المحلية بالمعنى الحديث؛ بسبب المركزية الشديدة التي ميزت هذا النظام حتى نهاية العهد العثماني؛ حيث كانت الدواوين التي تم إنشاؤها في مديريات مصر بعد الغزو الفرنسي عام 1798 تُشكل بالتعيين. وبعد ذلك وتحديدًا في عهد الخديوي توفيق عام 1880، صدر قانون التصفية الذي قسم دخْل مصر إلى قسمين: أحدهما خاص بالديون، والآخر خاص بنفقات الحكومة المحلية. 

وشهد عهد الخديوي توفيق عددًا من الإصلاحات الإدارية، حيث أصدر في الأول من مايو عام 1883 أمرًا بتشكيل “القانون النظامي المصري”، والذي يتشكل من: أولًا “مجالس للمديريات”، حيث يوجد في كل مديرية مجلس مهمته بحث الشؤون المحلية، ويتراوح قوام المجلس ما بين من ثلاثة إلى ثمانية أعضاء ويختارون بالانتخاب المباشر؛ ثانيًا “مجلس شورى القوانين” يتكون من ثلاثين عضوًا تعين الحكومة بعضًا منهم وتختار المجالس المحلية الجزء الآخر؛ ثالثًا “إنشاء جمعية عمومية” تتكون من 82 عضوًا منهم الوزراء، وأعضاء مجلس شورى القوانين”، بالإضافة إلى ستة وأربعين نائبًا ينتخبهم المواطنون.

التسلسل التاريخي لقانون المجالس المحلية

تكونت الوحدات الإدارية للدولة بشكلها الحديث بداية منذ خمسينيات القرن الماضي، فنجد أن أول قانون يتناول جميع الوحدات الإدارية هو القرار بقانون رقم 124 لسنة 1960 والذي تناول المشاركة الشعبية لأول مرة، حيث حدد هيكل الإدارة المحلية على ثلاثة مستويات: المحافظة، والمدينة، والقرية. وتم تشكيل مجلس مشترك من التنفيذيين والشعبيين، يرأسه رئيس “بالتعيين” ووكيل المجلس من الشعبيين والذي يحل محل الرئيس ويمارس اختصاصاته أثناء غيابه. بالإضافة إلى تحديد اختصاصات ومهام محددة لتلك المجالس. 

وقد تم تعديل هذا القرار بقانون سبع مرات، أولها في عام 1971 حيث صدر قرار بقانون رقم 57 لسنة 1971، وكان بداية فصل التشكيل التنفيذي عن التشكيل الشعبي؛ حيث تقرر إنشاء المجالس الشعبية المحلية على مستوى المحافظات فقط برئاسة أمين عام الاتحاد الاشتراكي ولجنة تنفيذية برئاسة المحافظ. 

أما صدور القانون رقم 52 لسنة 1975، فكان بمثابة انفتاح كبير على الديمقراطية، حيث نص على إنشاء مجالس شعبية محلية منتخبة بشكل مباشر على جميع مستويات الإدارة المحلية في القرية والحي والمدينة والمركز والمحافظة. فكان أول قانون يفصل بين المجالس المحلية واللجان التنفيذية، ونظم انتخاب المجالس المحلية على كافة المستويات، وحدد اختصاصات المجالس المحلية واللجان التنفيذية بشكل أوضح مما كانت عليه في السابق.

وفي عام 1979، صدر قانون رقم 43 لسنة 1979 بإصدار قانون نظام الإدارة المحلية الحالي؛ حيث تم ألغى مسمى المجالس الشعبية المحلية وجعله “المجالس المحلية”، وأُلغي مسمى اللجان التنفيذية لوحدات الإدارة المحلية ليكون “المجالس التنفيذية”. وهذا القانون عُدِل فيما بعد أكثر من عشر مرات وهو الذي ظل معمولًا به في مصر حتى أعقاب ثورة 25 يناير 2011.

ويُذكر أن آخر انتخابات للمحليات كانت في عام 2008، وتم حلها بعد أحداث يناير وتحديدًا في 28 يونيو 2011 بحكم من القضاء الإداري والذي ألزم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل تلك المجالس، وهو ما حدث بالفعل بإصدار المرسوم بقانون رقم 116 لسنة 2011 في 4 سبتمبر 2011 بحل جميع تلك المجالس.

ومنذ 15 عامًا حتى اليوم لا تزال البلاد بلا مجالس محلية شعبية، على الرغم من أهميتها التي تنبع من تحملها لأعباء كثيرة عن الجهاز الإداري للدولة والتي تحملتها الدولة المصرية طيلة فترة غيابها؛ فطوال هذه المدة كانت الدولة المصرية تعمل بشكل مركزي في اتخاذ القرارات والتخطيط للمشروعات، باعتماد الدولة على تكوين لجان تشاورية وفرق عمل من المواطنين؛ للمساعدة في اقتراح المشروعات والمتطلبات التي تحتاجها المراكز والوحدات المحلية، ليتم تصعيدها لصانعي السياسات بشكل مركزي لاختيار الأولويات ووضع التكلفة المالية.

لذا فعند تشكيل المجالس المحلية فإنها ستقوم بإقرار السياسات العامة، ووضع ومتابعة تنفيذ خطط التنمية، ومراقبة الأنشطة المختلفة وإقرار موازنات المحليات؛ فأعضاء المجالس المحلية هم المسؤولون المنتخبون في الإدارة المحلية القائمون على الرقابة على المستوى المحلي، وكانت في الماضي سلطتهم مقيدة ودورهم استشاري إلى حد كبير، وكان يُنظر إلى المجالس المحلية على أنها مجالس للخدمات، إلى أن جاء دستور 2014 الذي تطرق لمفهوم يعتمد على اللا مركزية، ومَنح هذه المجالس قدرًا كبيرًا من الاستقلالية. ومن هذا يُعتقد أنه بمجرد انتخاب المجالس المحلية ستعد بمثابة برلمان في محيط نشاطها. وهذا يستلزم ضرورة البحث في ضرورات إجراء هذا الاستحقاق الدستوري الذي طال انتظاره، خاصة مع عدم دستورية غياب المجالس المحلية.

المجالس المحلية في دستور 2014

وفقًا للدستور، تُقسم الدولة إلى وحدات إدارية محلية تتمتع بالشخصية الاعتبارية وهي المحافظات والمدن والمراكز والأحياء والقرى، ويجوز “بموجب قانون” إنشاء وحدات إدارية أخرى تكون لها الشخصية الاعتبارية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.

وقد نصت المادة 180 من دستور 2014 على أن كل وحدة محلية تنتخب مجلسًا محليًا بالاقتراع السري المباشر لمدة أربع سنوات، ويجب ألا يقل سن المرشح عن 21 عامًا؛ ويخصص ربع المقاعد للشباب دون سن 35 سنة، وربعها للمرأة، على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين بالمائة من مجموع المقاعد، وأن تتضمن تلك النسبة تمثيلًا مناسبًا للمسيحيين وذوي الهمم، على أن ينظم القانون شروط الترشح الأخرى وإجراءات الانتخاب.

ونصت المادة (181) على استقلالية المجالس المحلية، وأن تكون القرارات الصادرة عن هذه المجالس في حدود اختصاصاتها نهائية، ولا يجوز للسلطة التنفيذية التدخل إلا لمنع المجالس من تجاوز هذه الحدود أو الإضرار بالمصلحة العامة أو بمصالح المجالس المحلية الأخرى.

في حين نصت المادة (176) على أن تتولي المجالس المحلية متابعة تنفيذ خطة التنمية، ومراقبة مختلف جوانب النشاط، وممارسة أدوات الرقابة على الأجهزة التنفيذية، ودعم الدولة اللا مركزية الإدارية والمالية والاقتصادية، وأن يكفل القانون السبل لتمكين الوحدات الإدارية من توفير المرافق المحلية وتطويرها وإدارتها بشكل صحيح، وتحديد برنامج زمني لنقل السلطات والموازنات لوحدات الإدارة المحلية.

ونص دستور 2014 كذلك على حق المجالس المحلية في مساءلة القيادات التنفيذية وممارسة أدوات الرقابة عليهم، بما في ذلك الاقتراحات وتوجيه الأسئلة وطلبات الإحاطة والاستجوابات وغيرها، وسحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية. ووفقًا للدستور أيضًا، لا يجوز حل المجالس المحلية بإجراء إداري شامل.

وكانت إحدى ثغرات قانون الإدارة المحلية الحالي رقم (43) لسنة (1979) هي إلغاء وغياب الاستجواب، مما أدى إلى تقييد صلاحيات المجالس المحلية في المساءلة، وبالتالي فإن عودتها تمثل خطوة مهمة من خطوات تمكين المحليات. وإحدى الثغرات الأخرى هي أن المدن الجديدة كانت غير مشمولة بالإدارة المحلية، مما أدى إلى حرمان قاطنيها من التمثيل في المجالس المحلية. ولذلك، يجب أن يؤكد القانون على أن الوحدات المحلية تغطي جميع أراضي الدولة، بما فيها المدن الجديدة وفقًا لما نص عليه دستور 2014.

وبناء على ذلك، ستتكون المجالس المحلية حسب الوضع الحالي من حوالي 1851 مجلسًا، وهي عدد الوحدات الإدارية، منها 27 تخص المحافظات، و198 للمراكز، و227 للمدن، و87 للأحياء، و1321 للوحدات القروية تقريبًا. ويختلف عدد أعضاء المجلس بسبب اختلاف طبيعتهم من حيث كونهم مجالس محلية محافظة أو مجالس محلية مدينة أو قرية وغير ذلك، وتختلف بسبب الاختلاف في عدد السكان بين الوحدات الإدارية (محافظة، مركز، قرية) وأيضًا يختلف عدد الأفرع المحلية المنبثقة عن الوحدة الإدارية المعنية. ويتفاوت أعضاء المجالس المحلية بسبب طبيعة مساحة المحافظات كونها حدودية أو غير حدودية.

ووفقًا لآخر انتخابات محلية أجريت في البلاد في عام 2008، بلغ عدد مقاعد المجالس المحلية 53010 مقاعد، وبلغ عدد الفائزين في الانتخابات 51204 أعضاء؛ إذ إن هناك عددًا من المقاعد لم يتم شغلها. وتتم الانتخابات المحلية في مصر وفقًا للوحدات المحلية، فالوحدة المحلية تمثل دائرة انتخابية، بجانب أن الأرقام محددة لكل وحدة محلية أو قسم إداري.

رؤى حول النظام الانتخابي لأعضاء المجالس المحلية

كانت مصر تتبع نظام الانتخاب الفردي في تشكيل المجالس المحلية، ولكن دستور ٢٠١٤ قد ترك للمشرع الحرية في الأخذ بأي نظام انتخابي يراه مناسبًا، سواء كان النظام الفردي أو نظام القوائم أو حتي الجمع بين النظامين. وتكمن المشكلة هنا في كيفية تحديد النظام الانتخابي الأمثل الذي يعطي المواطنين حرية الاختيار، وفي نفس الوقت يتيح اختيار أعضاء المجالس المحلية في مصر في ظل الضوابط التي حددها الدستور وبما يضمن تمثيل فئات معينة في المجتمع في ضوء المادة 180. وفي هذا الإطار توجد أربع رؤي هي: 

• الرأي الأول: يرى تطبيق نظام القائمة المطلقة؛ بحيث تقوم الأحزاب والقوى السياسية وحتى الأفراد المستقلون ممن يرغبون في خوض الانتخابات المحلية بتشكيل قوائم تراعي المادة 180 من الدستور. وبالتالي يتم وضع ترتيب للمرشحين في القائمة وفقًا لعدد المقاعد المقررة لكل فئة، وبهذا يتم مراعاة النص الدستوري في كل مجلس محلي.

• الرأي الثاني: يرى تطبيق نظام القوائم النسبية؛ بحيث تقوم الأحزاب منفردة أو مؤتلفة أو المستقلين بوضع قوائم أصلية للمرشحين وقوائم أخرى شبيهة احتياطية، يتلاءم كل منها مع عدد الأعضاء المطلوب انتخابهم للوحدة الإدارية. بحيث تضم ترتيبًا محددًا يضع الشباب والمرأة بشكل متوالية حسابية لنصف عدد المطلوب انتخابهم في القائمة. بمعنى أن تبدأ نصف القوائم بشاب ثم امرأة وهكذا. أما النصف الثاني فيفتح لكافة المرشحين.

هذا مع تمثيل المسيحيين وذوي الإعاقة بنسب لا تقل عن 10% من المترشحين تقريبًا؛ لكون الدستور قد أتى بكلمة تمثيل مناسب لكليهما، بمعنى أن يكون لدينا في القائمة مرشحًا مسيحيًا رقم 10 و20 و30 وهكذا، ومرشحًا من ذوي الإعاقة رقم 11 و21 و31 وهكذا. وبالنسبة للعمال والفلاحين، فيشترط القانون أن يكون كل رقم زوجي ممن ينتمون لتلك الصفة في كل القائمة، حتى لو كانوا من الشباب أو المرأة أو المسيحيين أو ذوي الإعاقة.

• الرأي الثالث: يرى تكوين قوائم لكل فئة؛ بحيث تتنافس فيما بينها بما لها من مقاعد، وأن تكون هناك قائمة ثالثة تضم الفئات الأخرى بحيث تتنافس قوائم الشباب فيما بينها وقوائم المرأة فيما بينها، مع مراعاة تمثيل كل من العمال والفلاحين والمسيحيين والأشخاص ذوي الإعاقة، وتضم القائمة الثالثة بقية الفئات بما يحقق النسب المطلوبة.

• الرأي الرابع: يرى الجمع بين كل من القائمة المطلقة والنسبية، فهو مماثل إلى حد ما للرأي الثالث 

وختامًا؛ فإن الظروف والأجواء حاليًا مجهزة ومهيأة لإجراء انتخابات المجالس المحلية، وها قد حان الوقت، ومن المقرر أن يُطرح قانون المجالس المحلية على طاولة الحوار الوطني للمناقشة؛ أملًا في إقرار قانون الإدارة المحلية، وإجراء انتخابات المجالس المحلية التي طال انتظارها منذ 15 عامًا؛ كونها الأقرب للمواطن والأكثر قدرة على فهم أفكاره واحتياجاته ومشاكله وفقًا لبيئته المحلية، ولما لها من دور مهم في صناعة السياسات على المستوى المحلي، والتدخل الفوري وسهولة التواصل والتوفيق بين المواطنين والوحدة المحلية، وإحداث تغييرات حقيقية وفاعلة في منظومة الإدارة والحكم المحلي بمصر. بجانب أن تطبيق الأدوات الرقابية التي أقرها الدستور والتي من المتوقع أن يوسعها القانون حال إقراره، من تشكيل لجان تقصي حقائق وطلبات إحاطة وتوجيه الأسئلة للأجهزة التنفيذية وتقييم وتقويم أدائها، ستؤدي إلى إصلاح منظومة المحليات وتحسين جودة حياة المواطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى