العالم العربي

تعريب الحلول: سياقات انعقاد القمة العربية في جدة والمأمول منها

في التاسع عشر من مايو الجاري، تنعقد القمة العربية الثانية والثلاثون لرؤساء الدول الأعضاء في الجامعة العربية في مدينة جدة، ضمن حالة الزخم الدبلوماسي التي تعيشها المنطقة العربية والتي كان لها العديد من الانعكاسات ليس آخرها عودة دمشق إلى مقعدها في جامعة الدول العربية. 

ويأتي توقيت انعقاد القمة في إطار يشهد سياقات ضاغطة على أكثر من صعيد، منها أن الغرب بشكل عام وعلى رأسه الولايات المتحدة غدت أقل التزامًا بالبحث عن ترتيبات أمنية في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تبنت مقاربة أخرى ثبت عدم دقتها إلى الحد الذي يمكن وصفه بالخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه واشنطن، وظهرت في الأفق قوى أخرى أثبتت جدارة في التعامل السياسي الفعال في المنطقة مع مقاربة جديدة تضمنت عدم التدخل في شؤون الدول، فاستطاعت بكين أن تحقق اختراقًا ضخمًا عبر التوصل لاتفاق بين السعودية وإيران وهو اختراق لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقه على مدى عقود أو أنها ربما كانت لا تريد تحقيقه. 

وهو ما خلق وعيًا عربيًا بضرورة أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا والأزمات في المنطقة. وفي هذا الإطار، يمكن رصد عدة سياقات أساسية (إلى جانب مسارات أخرى) للقمة العربية المرتقبة ومخرجاتها، حيث نبدأ بالسياق السياسي نظرًا لأهميته الآنية المرتبطة بالأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة.

أولاً) السياقات السياسية

لرسم صورة عامة للسياقات السياسية التي تنعقد فيها القمة العربية ينبغي التركيز على عدد من الزوايا؛ فالتوتر المتصاعد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع انسداد أي أفقٍ حقيقي أو واقعي لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم، مع ازدياد الاعتداءات المستمرة على الأماكن المقدسة والتداعيات المختلفة لأزمات: سوريا بعد عودتها للجامعة العربية، واليمن بعد جهود تثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار، وليبيا وضرورة تنظيم انتخابات شاملة فيها، والسودان مع نشوب الحرب بين الجيش والدعم السريع؛ كلها سياقات تجعل من العمل العربي خلال هذه القمة استثنائيًا مع التركيز على:

-حل العقدة السورية: كانت الإرهاصات التي مهدت للتعجيل بعودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية هي الكارثة الإنسانية التي ضربت سوريا وتركيا خلال فبراير الماضي وأدت إلى تحرك دبلوماسي عربي على مستوى رفيع، فجاءت زيارة وزير الخارجية سامح شكري لسوريا لتمثل اختراقًا ضخمًا في العلاقات بين مصر وسوريا وإن كانت الزيارة جاءت في إطار إنساني بالدرجة الأولى إلا أنها مهدت لإعادة دمج دمشق من الناحية السياسية. وبعد زيارة وزير الخارجية المصري، استمرت حالة الدعم العربي لسوريا ووصلت طائرة سعودية لسوريا للمرة الأولى منذ عام 201،  وتسارعت وتيرة حل الأمور بين سوريا والسعودية بعد الاتفاق الذي عقدته الرياض مع طهران والذي أخرج للعلن مقاربة سعودية جديدة في سياستها الخارجية.

ويضاف إلى إرهاصات عودة سوريا الاجتماعات التشاورية العربية، مثل الاجتماع التشاوري واسع النطاق الذي عقد بالجامعة العربية على هامش مجلسها على المستوى الوزاري، واختص بالشأن السوري وكان بمثابة امتداد لحالة استحدثتها القوى العربية الرئيسة، وأبرزها مصر، فيما يتعلق بالتنسيق ودعم العمل العربي المشترك.

وللحضور السوري أهمية بالغة في القمة العربية تتعلق بداية بحلحلة التشابك والتعقيدات التي لازمت الأزمة السورية منذ اندلاعها بسبب انفراد قوى إقليمية ودولية بالشأن السوري والسعي إلى تحقيق مصالحها, ومن هنا فإن تحرك قوى إقليمية وعلى رأسها مصر التي ترأست الاجتماع التاريخي الذي صدر عنه قرار عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، أسهم في إعادة توجيه “بوصلة” الحل إلى الدول العربية، بعيدًا عن محاولات الاستئثار الدولي بالقضية، والتي أدت إلى إطالة أمدها لسنوات طويلة دون جدوى. ومن ثم تم التركيز على أطروحة تعريب الحلول ليس للأزمة السورية فقط.

وعلى قدر الآمال المنعقدة على عودة سوريا للجامعة إلا أنه لا ينبغي النظر إلى ذلك بوصفه تسوية للأزمة السورية سواء على المستوى السياسي الذي تطلب الكثير من العمل من الحكومة السورية وكذلك القضايا الأمنية المتعلقة بإنهاء الوجود الأجنبي على الأراضي السورية وتسهيل عودة اللاجئين السوريين بعد توفير المناخ المناسب لعودتهم، وكذلك العمل على توفير الدعم الاقتصادي لسوريا في إطار إعادة إعمارها وتوفير مناخ ملائم للاستثمار. ومن هنا فإن العودة للجامعة هي خطوة على طريق إنهاء العزلة الإقليمية والدولية لسوريا.

-الأولوية الفلسطينية: يأتي انعقاد القمة العربية في جدة على بعد أيام قليلة من ذكرى نكبة فلسطين، وبعد الاعتداءات المتكررة لجيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة والمواجهات المفتوحة والمتزايدة في باحات المسجد الأقصى والمضي في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية. ومن هنا فقد أصبحت هناك ضرورة ملحة لإعادة تأطير الموقف العربي فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية، وعلى رأس هذه الأولويات إعادة صياغة الاتجاهات العربية ضمن مبادرة السلام العربية، وذلك بما يتوافق مع مستجدات الممارسات الإسرائيلية التي لم تلتزم بلقاءات شرم الشيخ والعقبة. 

وفي هذا السياق، فمن المهم أن تكون هناك لجنة متابعة على غرار لجنة الاتصال التي تم تدشينها للعمل على الأزمة السودانية، بحيث يكون من المهام الرئيسة للجنة الدفع في اتجاه جعل فلسطين عضوًا كاملاً في الأمم المتحدة. وكذلك فإنه من الأهمية القصوى -نظرًا لتكرر الاعتداءات الإسرائيلية- العمل العربي من خلال الجامعة لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني بكل السبل الممكنة.

وكإجراء تمهيدي لما يلزم من عمل، فإنه عقب اختتام مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين الدائمين للاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية، ومن ثم القمة العربية؛  تم تأسيس اللجنة الوزارية العربية مفتوحة العضوية برئاسة الدولة العضو التي تتولى الرئاسة الدورية للقمة، وعضوية كل من “الجزائر، ومصر، والأردن، وفلسطين، وقطر، ولبنان، والمغرب، وموريتانيا”.

-طريق الحل في السودان: انخرطت الدول العربية في الأزمة السودانية منذ اليوم الأول لاندلاعها، وأظهرت فهمًا واعيًا لأهمية الوجود الفاعل ليس فقط من خلال الجامعة العربية التي عقدت بالفعل دورة استثنائية دشنت فيه لجنة الاتصال ولكن حتى على مستوى أفريقي عن طريق دعم المبادرات التي طرحت من وسطاء أفريقيين سواء منظمة الإيجاد أو حتى بتحرك دول أعضاء بشكل فردي في دول الجوار الأفريقي للسودان والتي كان من أهمها الدور المصري الذي اشتبك على الفور مع دول الجوار السوداني في تشاد ودولة جنوب السودان.

على صعيد آخر، سيكون من المهم بالنسبة للأزمة السودانية أن تدعم الجامعة الدور السعودي الذي جاء ضمن الآلية الرباعية الخاصة بالسودان، والدفع بإعلان النوايا في جدة للأمام، وربما التعاون مع الرياض وشركاء إقليميين وأفريقيين لخلق آلية تتيح مراقبة تنفيذ إعلان جدة بما يضمن الذهاب للخطوة التالية باعتبار أن إعلان النوايا في جدة هو المحصلة التي يمكن البناء عليها الآن.

-سد النهضة وقضية الأمن المائي: هناك حاجة ملحة لتنسيق المواقف العربية وبلورتها تجاه قضية إدارة مصادر المياه في المنطقة، وليس الأمر متعلقًا فقط بالتعنت الإثيوبي في قضية سد النهضة والتي تؤثر على الأمن المائي في مصر والسودان، فدول عدة تعاني الفقر المائي وعلى رأسها سوريا والعراق والأردن؛ نظرًا إلى ممارسات بعض الأطراف الإقليمية غير المسؤولة فيما يتعلق بإدارة الموارد المائية التي تنبع من أراضيها، وهو أمر يتطلب اتخاذ موقف عربي أوسع وأقوى، وطرح مبادئ للتعاون الإقليمي الشرق أوسطي في هذا الصدد تدعم ولا تنتقص من القواعد الدولية.

وعلى صعيد التعنت الإثيوبي من قضية السد فإن كثيرًا من الدول لديه إدراك واضح لأهمية موقف مصر، وهناك دول تشارك مصر موقفها وتتفهم موقفها كدولة مصب، ويضاف إلى ما تقدم أن نشوب الأزمة في السودان يصعب من مسألة الحل لأن انشغال السودان بالأوضاع الداخلية المتفجرة سيسمح لإثيوبيا بالمزيد من التمادي. وهو ما يتطلب دعمًا عربيًا حقيقيًا لمصر والسودان في هذه القضية، يراعي  تحقيق التنمية والازدهار لجميع شعوب المنطقة، ويخفف حدة التوترات والصراعات القائمة، بما يسمح بالتركيز، بصورة أكبر، على مسيرة البناء والتطوير وتحقيق المنفعة المتبادلة والتنمية المستدامة التي تنشدها شعوب المنطقة.

ثانيًا) السياقات الاقتصادية والأمنية

-السياق الاقتصادي: تنعقد القمة الحالية في وقت تستمر فيه الحرب الروسية – الأوكرانية للعام الثاني على التوالي، خالقة الكثير من الانعكاسات السيئة على مسألة الأمن الغذائي في دول عربية وفي شمال أفريقيا. وقد نما تحدٍ جديد تمثل في الأزمة الطاحنة التي يعيشها السودان والتي من المتوقع أن تترك حوالي ثلث سكانه بدون الاحتياجات الغذائية الأساسي،  فضلًا عن تأثر دول أخرى من الناحية الغذائية بالأزمة السودانية لأنها تعد مصدرًا مهمًا للحوم والثروة الحيوانية في المحيط العربي. ومن ثم فإن هناك حاجة ملحة للتعاون العربي في هذا الإطار عن طريق تطوير آليات وشراكات تختص بمسألة الأمن الغذائي.

وتعد القمة كذلك فرصة لإرساء ممارسات عربية أكثر فاعلية وعقلانية وتصد للطموح الغربي الذي يضر بمصالح الدول العربية الاقتصادية وعلى وجه التحديد في مجال الطاقة، فضلًا عن أنها تمثل فرصة لدعم دمج دول عربية في منظومات اقتصادية غير غربية مثل البريكس ومنظمة شنجهاي، وتشجيع الدول العربية على الاشتباك مع هذه الكيانات الاقتصادية. ومن هنا فإن الظروف العالمية التي فرضتها الجائحة في 2020 وما تلاها من حرب أوكرانية يخلق حالة من الإلزام للدول العربية لمراجعة أنظمتها الاقتصادية بما يحقق الاستدامة والتوازن الاقتصادي.

-السياق الأمني: مع وجود حالة واضحة من الانكماش الغربي من الناحية الأمنية بحيث أصبح أكثر ظهورًا فقط في حالة وجود تهديد وجودي حسب التقديرات الأمريكية، أصبحت الدول العربية مطالبة أكثر من أي وقت آخر ببلورة مقاربة أمنية تعتمد على خلق آليات لحلحلة المنازعات والتعامل معها بحلول عربية، بما يتضمن أهمية تأمين المنطقة من أخطار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، فضلًا عن تأمين ممراتها المائية الاستراتيجية بمختلف الطرق التي تتطلب تعاونًا عربيًا على مستوى عال وتصدير مدى أهمية ذلك للقوى الكبرى التي تتأثر بلا شك بالأوضاع الأمنية المضطربة في منطقة الشرق الأوسط. مع الأخذ بالحسبان أن خلق موقف عربي موحد يضيف ثقلًا إلى التحرك العربي مثلما كان الحال من الموقف العربي الموحد من الأزمة الأوكرانية، وهو ما يتيح للدول العربية لعب دور عالمي مؤثر.

ثالثًا) المأمول من القمة:

تنعقد الآمال على قضيتين أساسيتين تتضمن أعمال اللجنة الوزارية العربية المفتوحة العضوية لدعم فلسطين، والتي تضم الجزائر رئيسًا وعضوية كل من: الأردن، والسعودية، وفلسطين، وقطر، ولبنان، ومصر، والمغرب، وموريتانيا بالإضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية؛ وتعنى بمتابعة التحرك العربي على الساحة الدولية لنصرة القضية الفلسطينية، والعمل على حصول فلسطين على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، ودعم فلسطين سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا على الساحة الدولية. أما القضية الثانية فتتعلق بالمقترح الجزائري بشأن تطوير جامعة الدول العربية وآلياتها بما يتيح لها فاعلية في الدور الذي تقوم به على أصعدة مختلفة في إطار مواكبة التغيرات على الساحة العربية والإقليمية والدولية.

هناك حاجة ملحة إذًا لتكامل الدور العربي عن طريق رفع وتيرة التنسيق المشترك، وكذلك ضرورة الانفتاح على شركاء آخرين من خلال موقف عربي موحد يتقارب مع الصين دونما إخلال بالعلاقات مع الغرب. ويتطلب ذلك من القمة الحالية العمل على ترجمة هذه المعطيات إلى قواعد وأسس يُتفق عليها عربيًا، من خلال ابتكار مبادرات تقوم على انخراط عربي مباشر في عملية تسوية الصراعات القائمة والمستجدة في الدول العربية؛ لصيانة المصالح العربية دون تجنيب الدور الأممي والدولي.

كذلك تركز الطموحات على بناء العلاقات العربية على أسس من الشبكات والتفاعلات الاقتصادية الأكثر استقرارًا من المصالح السياسية التي تواجه بالكثير من التناقضات والتباينات. وقد ناقش الاجتماع التحضيري بالفعل مسائل اقتصادية مهمة، منها الجانب المتعلق باتفاقيات النقل العربية، حيث تمت مناقشة تفعيل العديد من الاتفاقيات المتعلقة بالنقل البري والبحري والجوي، وذلك لاعتبار قطاع النقل أحد أهم القطاعات الخدمية المؤثرة في التكامل الاقتصادي العربي. وفيما يخص الجانب المتعلق بالسياحة في الدول العربية، فقد تم اعتماد الاستراتيجية العربية للسياحة التي تهدف إلى تنمية التعاون العربي البيني في مجال السياحة وتعزيز ثقة السائح العربي وتطوير الابتكار السياحي خلال الاجتماع التحضيري.

وفيما يتعلق بالجانب المتعلق بتكنولوجيا الاتصالات، فتم اعتماد الاستراتيجية العربية للاتصالات والمعلومات التي تهدف إلى تطوير البنية التحتية الوطنية والإقليمية في الدول العربية لتشكل إطارًا عربيًا جامعًا لتنسيق الجهود الهادفة إلى صياغة السياسات والاستراتيجيات الوطنية والإقليمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المجتمع العربي خلال السنوات القادمة. وفيما يتعلق بمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى والاتحاد الجمركي العربي، تم بحث أحدث مستجدات اللجان المعنية مما يعني أن التعاون في الإطار الاقتصادي يسير في الاتجاه الصحيح. 

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى