استعادة الزخم والدور.. ملفات قمة جدة العربية
ارتبط انعقاد القمم العربية – العادي منها والاستثنائي – بتداعيات وقضايا عاجلة على المستوى العربي، تحول بعضها إلى ما يشبه “ملفات مزمنة” يتم تناولها بشكل دوري في هذه القمم التي تعاقبت بشكل شبه سنوي، منذ القمة العربية الأولى التي احتضنتها مدينة “إنشاص” المصرية عام 1946. من هذه الزاوية يمكن – من حيث المبدأ – النظر إلى القمة الثانية والثلاثين لجامعة الدول العربية، التي تحتضنها مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، في التاسع عشر من شهر مايو الجاري، لكن حقيقة الأمر أن قمة جدة – أو بالأحرى الظروف العربية والإقليمية والدولية المحيطة بموعد انعقادها – تختلف بشكل كبير عن معظم القمم العربية السابقة، بشكل يجعل لهذه القمة أهمية خاصة لا تقتصر فقط على ما سيتم بحثه خلالها من ملفات عاجلة، لكن أيضًا ما يرتبط بالمخرجات التي ستطرأ نتيجة للمناقشات التي ستتم خلال هذه القمة، والتي سيكون لها انعكاسات آنية على الوضع العربي والمشهد الإقليمي خلال المرحلة القادمة.
المقارنة “السريعة” بين المشهد الإقليمي والدولي العربي عشية قمة جدة، وبين القمم السابقة التي احتضنتها المملكة العربية السعودية، بداية من قمة “الرياض” عام 1976 والتي تم إفرادها بشكل شبه كامل لمناقشة الوضع في لبنان عشية اندلاع الحرب الأهلية، والقمة العربية التاسعة عشرة، التي احتضنتها مدينة الرياض في مارس 2007، ثم قمة الدمام في أبريل 2018، التي انعقدت في ظل احتدام الموقف في عدة ملفات عربية مهمة مثل الملف السوري والملف اليمني والملف الليبي، واستمرار حالة التأزم في ملفات أخرى مثل الملف الفلسطيني والملف اللبناني، وهو ما استمر خلال القمة الاستثنائية التي احتضنتها مكة المكرمة في مايو 2019، بعد الهجمات الصاروخية التي نفذتها جماعة الحوثي في اليمن على الأراضي الإماراتية والسعودية.
بطبيعة الحال يختلف المشهد الإقليمي والدولي والعربي عشية قمة جدة المرتقبة، عن المشهد الذي صاحب القمم العربية السابقة التي احتضنتها المملكة العربية السعودية، ولفهم خصوصية هذه القمة بشكل أكبر، لا بد من النظر من زاوية أكبر للمشهد العربي والإقليمي والدولي الحالي، حيث تنعقد هذه القمة في ظل توسع وتطور لافت في مسار ونطاق العلاقات العربية مع القوى الدولية الأساسية، انعكس على مقاربتها للقضايا الدولية، ولجوئها إلى “ضبط” وتيرة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما ظهر في عدة قضايا على رأسها الأزمة الأوكرانية، حيث حرصت معظم الدول العربية على إبقاء علاقاتها مع روسيا في مستويات مرتفعة، رغم أنها في نفس الوقت أدانت بشكل مباشر أو غير مباشر، العمليات العسكرية الروسية هناك.
المشهد الدولي والإقليمي والعربي عشية قمة جدة
حقيقة الأمر أن هذا التطور في العلاقات العربية على المستوى الدولي، قد تم تدشينه عمليًا خلال الفترة الماضية عبر عدة قمم – احتضنتها المملكة العربية السعودية أيضًا – على رأسها الحدث الأساسي والأبرز في الجولة الأولى للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، ألا وهي قمة “الأمن والتنمية”، التي احتضنتها مدينة جدة السعودية في يوليو الماضي، وتضمنت لقاءات ثنائية جمعت الرئيس الأمريكي – بعد لقائه ولي العهد السعودي – بكل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، تلتها قمة موسعة حضرها قادة الدول الخليجية بجانب قادة مصر والعراق والأردن، بحضور الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، نايف الحجرف.
هذه القمة انضوت على “انطلاقة جديدة”، للعلاقات العربية – الأمريكية عامة، والعلاقات الخليجية – الأمريكية خاصة، بعد فترة من “عدم اليقين” الذي شاب هذه العلاقات، حيث تم تأطير هذه العلاقات بإطار يراعي في الأساس المصالح العربية، وهو ما انعكس على عدة استحقاقات تزامنت مع هذه القمة مثل ملف حجم الإنتاج النفطي الحالي والسابق لدول منظمة الدول المصدر للنفط “أوبك”، والذي قاومت فيه المملكة العربية السعودية الضغوط الأمريكية في ذلك التوقيت التي كانت تستهدف رفع حجم الإنتاج لتعويض النقص الذي طرأ على إمدادات النفط إلى أوروبا بفعل الوضع في أوكرانيا. كذلك تركزت الضغوط الأمريكية على الدول العربية في قضايا أخرى منها ملف “الناتو العربي” الذي كان تشكيله مطروحًا بشكل كبير خلال أشهر خلت، لكن لم يلق هذا المقترح تجاوبًا من الدول العربية، نظرًا لعدم توافقه مع الرؤى العربية بشأن التعاون الأمني والعسكري بين دول المنطقة لمكافحة الإرهاب والتدخلات الخارجية.
تلت هذه القمة قممًا أخرى تم من خلالها وضع مزيد من الأسس للرؤية العربية الجديدة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، تتمثل في ثلاث قمم صينية – عربية، احتضنتها المملكة العربية السعودية في ديسمبر الماضي، برئاسة العاهل السعودي وولي عهده، والرئيس الصيني، وحضور نحو 30 رئيس دولة، ومسؤولين رفيعي المستوى من عدة منظمات إقليمية ودولية. بدا من هذه القمم الثلاث، أن الدول العربية قد شرعت بالفعل في التعاطي مع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، سواء كان هذا الدور متعلق بالتعاون السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، من منظور أكثر “ندية”، يفتح الباب بشكل أوسع أمام التعاون مع كافة الدول الكبرى في النطاق الدولي، بشكل يتوخى التوازن والحرص على المصالح العربية، وفي نفس الوقت لا يضع في اعتباره بشكل كبير التطورات التي تطرأ على العلاقات بين بعض القوى الدولية الكبرى وبعضها الأخر.
بالتالي كانت القمم العربية – الصينية، بمثابة “إعادة تقييم” العلاقات العربية مع قطب دولي آخر، وهو جمهورية الصين الشعبية، لكن من الأخذ في الاعتبار حقيقة أن عملية إعادة التقييم هذه لا تعني بأي حال من الأحوال أن الدول العربية باتت توجهاتها الدبلوماسية والاقتصادية تتجه بشكل كامل نحو الشرق، بل إنها تعني بشكل أدق أن الدول العربية أصبحت تضع ميزان “المصلحة العربية” كأولوية أساسية تحدد مسارات علاقاتها مع القوى الدولية، بشكل يجعلها أبعد ما تكون عن الدخول في دوامات الصراعات بين هذه الدول، وفي نفس الوقت يمكنها من مواكبة التغيرات الحالية في موازين القوى الدولية، بشكل تضمن من خلاله الحفاظ على القدر الأكبر من المكتسبات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهو ما يفسر انفتاح الدول العربية على الانضمام والمشاركة في المنظومات محدودة العضوية مثل “بريكس” و”شنغهاي”.
على المستوى العربي والإقليمي، مهدت القمم السالف ذكرها، إلى مقاربة عربية جديدة لا تتعلق فقط بالعلاقات العربية مع بعض الدول الإقليمية – مثل إيران وتركيا – بل أيضًا تتعلق بالعلاقات العربية – العربية، بداية من “المصالحة” التي تمت بين الدول الخليجية ومصر من جهة – ودولة قطر من جهة أخرى، مرورًا بعودة التواصل السياسي بين تركيا وعدة دول عربية على رأسها مصر، وصولًا إلى عودة العلاقات بشكل كامل بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكذلك بدء مباحثات بين القاهرة وطهران في بغداد من أجل رفع مستوى العلاقات.
في هذا الصدد يمكن الإشارة إلى القمة الثانية لدول الجوار العراقي، والتي تعرف باسم “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، المنعقدة في ديسمبر الماضي في العاصمة الأردنية عمان، والتي شاركت فيها كل من العراق والإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر وإيران وفرنسا، بجانب البحرين وسلطنة عمان. مشاركة كل من تركيا وإيران كانت لافتة، بالنظر إلى أن هذه القمة تضمنت بحث ملف التدخلات العسكرية التركية في كل من العراق وسوريا، بجانب بحث مسار تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو المسار الذي تلقى دفعات قوية خلال الأشهر السابقة واللاحقة لهذه القمة، وصولًا إلى إعلان السعودية وإيران يوم 10 مارس الماضي، التوصل إلى اتفاق مشترك برعاية صينية، يقضي باستئناف العلاقات بين البلدين وتبادل السفراء في غضون شهرين، وهو ما مثل اختراقًا مهمًا وتعديلًا واضحًا في التوجهات العربية نحو إيران.
قمة عمان تضمنت أيضًا مناقشة الملف السوري، وإن كانت هذه المناقشة من زاوية قضية اللاجئين، خاصة أن العاصمة الأردنية احتضنت خلال الفترة الأخيرة لقاءات عربية وغربية مع ممثلي المنظمات الأممية كالمفوضية السامية لشؤون النازحين والأونروا، لمقاربة بعض الملفات المتعلقة بهذه القضية لا سيما القضايا المعيشية والاقتصادية الخاصة بالنازحين السوريين والعراقيين، لكن كانت هذه المناقشة بمثابة تمهيد مهم لتحول عربي آخر فيما يتعلق بالعلاقات العربية – العربية، ألا وهو إعادة الجمهورية العربية السورية إلى المنظومة السياسية والاقتصادية العربية، وهو تحول تم إطلاقه بشكل مبدئي عبر الجولة الخليجية لوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، العام الماضي.
بدأ بحث هذا الملف بشكل جدي في الأروقة العربية بمجهود مشترك بين مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، وصولًا إلى تفعيل هذا التحول عبر ثلاثة اجتماعات متتالية، أولها كان اجتماعًا تشاوريًا احتضنته مدينة جدة السعودية في أبريل الماضي، وثانيها كان اجتماع عمان، الذي أسفر عن إصدار ما يمكن اعتباره “خارطة طريق” تعتبر بمثابة أول مبادرة عربية “خالصة” لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، وتشمل الأبعاد الثلاثة للأزمة السورية، وهي البعد السياسي والبعد الأمني والبعد الإنساني، وصولًا إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أوائل الشهر الجاري، والذي شكل حجر الزاوية في المفاوضات التي تستهدف إعادة الجمهورية العربية السورية إلى الجامعة العربية، وهي مفاوضات تمحورت حول كيفية إيجاد سبل واضحة لتسوية كل تداعيات وانعكاسات الأزمة على الداخل السوري والمحيط الإقليمي، وما تعلق بها من مخاطر موجات النزوح وتصاعد الهجمات الإرهابية.
ملفات وقضايا تناقشها قمة جدة العربية
بالنظر للمشهد السابق، يمكن اعتبار عودة الجمهورية العربية السورية لتبوأ مقعدها في الجامعة العربية بعد غياب قرابة 12 عامًا، أحد أهم التطورات التي تكسب هذه القمة قيمة مضافة، ليس فقط لأن سوريا سوف تعود بشكل نشط إلى المنظومة العربية، لكن أيضًا بسبب أن هذا التطور يعتبر دليلًا واضحًا على عودة الروح للتضامن العربي والعمل العربي المشترك، خاصة أن عودة سوريا للجامعة العربية كان حصيلة جهود مشتركة قامت بها مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، وتحركات حثيثة قام بها خلال الفترة الماضية وزراء خارجية مصر والسعودية والإمارات.
ولعودة الزخم للعمل العربي المشترك في هذا الملف دلائل أخرى مهمة، من بينها لجوء الدول العربية للفصل بين طبيعة علاقاتها الثنائية وبين التعاون بين الدول داخل جامعة الدول العربية، لذلك كان مفهومًا حضور ثلاثة عشر عضوًا فقط من أعضاء الجامعة العربية اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أوائل الشهر الجاري، بهدف عدم إعاقة الموافقة على قرار عودة سوريا للجامعة العربية، نظرًا لأن بعض الدول العربية ما تزال تعارض عودة سوريا لمقعدها في الجامعة.
العودة السورية للمنظومة العربية، والمشاركة المتوقعة للرئيس السوري بشار الأسد في فعاليات قمة جدة، تحمل دلالات أخرى على مستوى المقاربة العربية الحالية للأزمات التي تعاني منها الدول المنضوية تحت لواء الجامعة العربية، فبعد أن كانت الأمانة العامة للجامعة العربية عامي 2013 و2014، على وشك منح مقعد سوريا لـ “المعارضة السورية”، تحولت مقاربتها في هذا الملف لتصبح فعالة أكثر تجاه دمشق بهدف خلق مساحة أكبر للدور العربي في الأزمة السورية، والتحجيم – قدر الإمكان – من التدخلات الخارجية في هذا الملف، وبالتالي اللجوء إلى استراتيجية “الاحتواء” وتقديم الدعم الإنساني والإغاثي لسوريا، ودعمها ضد أي مساس بسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها.
لكن رغم هذا التحول المهم، إلا أن استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية ينطوي على تحديات مهمة ستحاول قمة جدة إيجاد مقاربات واقعية لها، من بينها استمرار تواجد قوات أجنبية على الأراضي السورية، ووجود مناطق واسعة في شرق وشمال البلاد خارج سيطرة دمشق، وكذلك ضرورة مناقشة الملف الإنساني والإغاثي والتنموي في سوريا من منظور متعدد الاتجاهات، وكذا تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين السوريين خاصة في الدول المجاورة، وتحديدًا في بعض الدول التي تعاني بشكل كبير اقتصادي مثل لبنان، وهو ما يطرح مجتمعًا قضيتي إعادة إعمار سوريا وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وإيجاد التمويل اللازم لتحقيق هذه الأهداف، وهو ما يتوقع بحثه خلال قمة جدة.
الأكيد أن قادم الأيام ستمثل اختبارًا جديًا لمدى حرص الجمهورية العربية السورية، على استدامة المناخ الإيجابي الحالي من الدول العربية تجاهها، فمن ناحية لا يمكن أن يتم اعتبار عودة سوريا للجامعة العربية بمثابة نهاية كاملة للأزمة السورية، بل بالأحرى يمكن اعتبارها بمثابة “نافذة للتواصل” بين الجانبين تم فتحها بين طول إغلاق، وتحتاج إلى أن يتم استغلالها من جانب كلا الطرفين لإيجاد حلول للقضايا العالقة داخل ثنايا هذه الأزمة وفق مبدأ “خطوة بخطوة”، وهو ما يعني بالضرورة تدشين توجه جديد نحو تشكيل آلية عربية لتسوية الصراعات داخل المنطقة العربية، بشكل لا يتيح فرصة لأي طرف خارجي أو عربي، لاستغلال هذه الصراعات من أجل تحقيق مآرب خاصة كما حدث في الملف السوري على سبيل المثال.
الملف الرئيس الثاني الذي يتوقع تناوله في قمة جدة العربية، هو الملف الفلسطيني، الذي كان دومًا ضيفًا دائمًا على ساحة النقاش في القمم العربية المتلاحقة، ويمكن القول إن قمة جدة ستحاول البناء على مخرجات قمة الجزائر في نوفمبر الماضي، والتي تم خلالها الاتفاق على دعم القضية الفلسطينية والسعي لضمان عضوية دولة فلسطين في جمعية الأمم المتحدة، وهو ما أعاد الزخم بشكل أو بآخر لهذا الملف، خاصة أن الجزائر سعت خلال هذه القمة لإعادة إحياء مبادرة السلام العربية، التي أعلنت عنها المملكة العربية السعودية في القمة العربية ببيروت عام 2002، والتي تنص على “الأرض مقابل السلام”، وهو ما يتوقع أن يشهد تطورات لافتة خلال قمة جدة، خاصة في ظل التوترات الأخيرة التي شهدها قطاع غزة، والتوجهات المتطرفة للحكومة الإسرائيلية الحالية.
يتوقع أيضًا أن تعتمد قمة جدة المقبلة قرارًا بتعريف النكبة قانونًا للمرة الأولى، بحيث تتم إدانة من ينكرها وأن يكون يوم 15 مايو من كل عام يوم عربي ودولي للتعريف بهذه القضية، ناهيك عن انعقاد أول اجتماع للجنة الوزارية العربية مفتوحة العضوية لدعم دولة فلسطين بالتزامن مع فعاليات قمة جدة، وتهدف هذه اللجنة التي أنشئت باقتراح من الجزائر، إلى نيل اعترافات دولية بدولة فلسطين والحصول على عضوية كاملة لها في منظمة الأمم المتحدة. وهنا لا بد من التنويه بالجهود العربية المشتركة التي تصدرتها مصر، لوقف الهجمات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي جهود تحتاج إلى تطوير أكبر بحيث يتم تلافي حدوث مثل هذه الهجمات مجددًا، وإيقاف الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وتوفير الدعم المالي والإغاثي للشعب الفلسطيني، عبر طرق تضمن استمرار تأمين الدعم المستدام لكافة المناطق الفلسطينية.
الملف الرئيس الثالث المتوقع مناقشته في هذه القمة هو ملف التطورات الأخيرة في السودان، وهو ملف مهم على الصعيد العربي، ويعتبر بمثابة اختبار مهم للقدرة العربية على إيجاد مقاربة نهائية وشاملة للوضع الحالي في السودان، سواء على المستوى السياسي والميداني، تجنبًا لتوسع حالة عدم الاستقرار في السودان بشكل يؤثر على استقلاله وعلى وحدة أراضيه، وهنا لا بد من التنويه بالجهود العربية التي نجحت في صياغة موقف عربي موحد وواضح تجاه الأزمة، من بين بنوده تشكيل مجموعة اتصال عربية تضم مصر والسعودية والأمين العام لجامعة الدول العربية، للتواصل مع الأطراف السودانية والدولية والإقليمية للتوصل إلى تسوية سياسية والسعي إلى وقف دائم لإطلاق النار بالتوازي مع جهود الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
لذا يتوقع أن تتجه القمة إلى تشجيع وتحفيز طرفي الصراع “الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع” إلى الالتزام بمخرجات المفاوضات الجارية بينهما في مدينة جدة، برعاية سعودية – أمريكية، خاصة أنه قد تم بالفعل تحقيق اختراق في هذه المفاوضات، بعد توقيع ممثلي الجيش وميليشيا الدعم السريع على اتفاق متدرج لإيقاف النار على ثلاث مراحل، وأصبحت المفاوضات بينهما الآن تدور في فلك تحديد كيفية تنفيذ خطط إيصال المساعدات الإنسانية، وسحب القوات من المناطق المدنية، كذلك من المتوقع أن تبحث القمة أيضًا كيفية رصد مساعدات لدعم البنى التحتية والقطاع الطبي في السودان.
يضاف إلى ما سبق من ملفات رئيسة، ملفات أخرى مهمة يتوقع أن تحظى بنصيبها من المناقشات في قمة جدة، من بينها الأوضاع الحالية في اليمن والصومال، وكذلك التطورات الأخيرة في الملف الليبي، والفراغ الرئاسي الحالي في لبنان، وهو ملف يتوقع أن يشهد تطورات إيجابية خلال الأسابيع التالية لقمة جدة.
كذلك يتضمن جدول أعمال القمة، ملفات تتعلق بالتعاون في المجال الأمني وتعزيز التنسيق والتعاون بين الدول العربية لمكافحة الإرهاب والتطرف الأصولي، وتبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية العربية حول الجماعات المتطرفة، كما يتوقع أن تتناول القمة ملفات اقتصادية عديدة، أهمها تعزيز التعاون والتنسيق العربي لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي أثرت على المنطقة، خصوصًا بعد أزمة كورونا ومن بعدها الأزمة الروسية – الأوكرانية، والتركيز على ملف الأمن الغذائي، وتفعيل منطقة التبادل التجاري الحر بين الدول العربية، فضلًا عن أزمة الطاقة والتغيرات المناخية، وكذلك فتح ملف إعادة الإعمار في عدة دول عربية، وتنشيط التنسيق وبلورة المواقف العربية من قضية إدارة مصادر المياه في المنطقة، خاصة في ظل التهديدات التي تواجه إمدادات المياه الخاصة بعدة دول عربية من بينها مصر والعراق وسوريا.
مما سبق، نصل إلى خلاصة مفادها أن قمة جدة تعتبر فرصة ثمينة لإعادة التوازن للعمل العربي المشترك والتعاون العربي في كافة المجالات، وفتح آفاق أرحب للعلاقات العربية – العربية والعلاقات العربية مع المحيط الإقليمي والدولي، وستمنح الدول العربية التي تواجه أزمات سياسية أو اقتصادية فرصًا إضافية لإنهاء حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها، وصياغة رؤية جماعية تستفيد من أخطاء السنوات الماضية وتعيد بلورة آليات العمل العربي المشترك في ظل التحديات القائمة. حجم المشاركة الرئاسية في هذه القمة ومدى قوة القرارات التي ستطرأ عنها، ستكون الفيصل في تحديد ما إذا كانت هذه القمة ستمثل نقطة انطلاق جديدة للعمل العربي المشترك والدور العربي على المستوى الإقليمي والدولي، أم أن الوقت ما زال مبكرًا للوصول إلى هذه النقطة، وأن المسار ما زال طويلًا كي تصل الجامعة العربية إلى الدور المأمول على المستوى العربي والدولي.