
“الهِوية المصرية” على أجندة الحوار الوطني: وجوه كثيرة لحضارة ممتدة
الإنسان كائن فريد، كُل يتفرد ويتنوع وفقًا لشخصيته. فرغم كثرة البشر، يظل كل إنسان يحمل في نفسه كيانًا نادر الوجود، من الصعب، بل من المستحيل، أن يتخيل أحدهم أن يتطابق كيانه مع آخر حد التماثل. وعليه، فالشخصية الإنسانية تتشكل وتتكون لدى كل فرد وفقًا لعوامل كثيرة، يندرج من ضمنها: الأفكار، والمعتقدات، والميول، والاتجاهات، والقيم، والعادات، والتاريخ، والتقاليد، والبيئة المحيطة. مما ينتج عنه الخُلاصة النهائية التي تتجسد أمامنا في سمات وسلوك ومشاعر وأفكار كل شخص، والطريقة التي يتوجه بها الإنسان ويتفاعل مع العالم.
والبلاد بالمِثل، كُل يتفرد وفقًا لشخصياته وما تحمله له مكوناته الخاصة التي يأتي على رأسها التاريخ وتأثيره على مسيرة الأمم. وفي ظل المحاولات المستمرة التي تقودها جماعات المصالح الخارجية لسرقة تاريخ مصر وحضارتها وتشويه هويتها. وعند هذه النقطة، نعود إلى مقولة المفكر المصري، جمال حمدان، في كتابه شخصية مصر، “لقد قيل بحق أن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان“. إذًا، وعلى هذا الأساس، نُدرك أنه للبحث في إشكالية الهوية المصرية يجب أن نعود بالنظر للوراء، والبحث في مراحل تشكل وتطور الحضارة الأقدم في التاريخ الإنساني. خاصة بينما نحن بصدد بدء انعقاد جلسات الحوار الوطني، لجنة “الثقافة والهِوية الوطنية”، والتي من المقرر أن تبدأ أعمالها يوم 18 مايو 2023.
عندما عاش العالم في العراء: عرفت مصر الحضارة الفرعونية
امتدت الحقبة الفرعونية من التاريخ المصري إلى نحو ثلاثة آلاف عام، بدأت من العام 3200 ق.م، وصولًا إلى عام دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر في العام 323 ق.م. ويُقسم المؤرخون هذه الحقبة إلى ثلاثة أقسام: “الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة”. ولقد حكمت مِصر خلال هذه الحقبة ثلاثين أسرة؛ شهدت خلالها مِصر، إبان العصر العتيق الذي حكمت فيه الأسرتان الأولى والثانية، تحقيق الوحدة السياسية للأقطار المصرية على يد الملك “مينا” الذي أقام فيما بعد عاصمة البلد وأطلق عليها اسم “ممفيس”. فيما دخلت مِصر في عهد بناة الأهرام العظيمة خلال فترة حكم الأسرات من 3 إلى 6، وشهدت هذه الفترة ازدهارًا ملحوظًا في شتى مناحي الحياة.
وظلت الدولة الفرعونية المصرية، خلال مشوارها، في ازدهار مطرد، وقد كان عهد الملك العظيم “امنمحات الأول” والذي حكم خلال فترة “الدولة الوسطى- الأسرات 11 و12″، في عام 2000 ق.م، عهدًا شديد الازدهار يُعزى له الفضل في بناء النهضة التي اشتهرت عن هذه الحقبة الزمنية. فقد حاز ملوك وملكات الأسرة الثانية عشر شهرة عالمية لما حققوه من إنجازات في شتى الميادين: السياسية، والعسكرية، والثقافية، والدينية، والحضارية، على غرار؛ “أحمس” بطل حرب التحرير، و”أمنحوتب الأول” الحاكم العادل الذي يعود له السبق في قوانين حقوق الإنسان في العالم فكان هو أول من أصدر قانونًا بمنع السخرة وأرسى معايير عادلة للأجور والحوافز، و”تحتمس الأول” الملك المحارب الذي كان بتوسعة الحدود المصرية شمالًا وجنوبًا ونشر التعليم، وتوسع في فتح المناجم وصناعة التعدين.
هذا بالإضافة إلى أصحاب العبقرية العسكرية الفذة الملوك “تحتمس الثاني” و”تحتمس الثالث”، و”تحتمس الرابع” الذي كان هو أول من اهتم بتدوين وتسجيل المعاهدات الدولية، “وأمنحوتب الثالث” الذي أنشأ مدارس لنشر التعليم والفنون والتشكيلية والتطبيقية، وغيرهم من ملوك مصر القدامى الذين من الممكن القول إن أقل ما قدموه للبشرية هو آثارهم الخالدة الباقية حتى يومنا الراهن، لأن حضارتهم بكل ما كانت تحتويه من علوم فذة يعجز التقدم التكنولوجي حتى يومنا الراهن عن إيجاد تفسيرات تبرر وصولهم لكل هذه المعارف في تلك الفترة المبكرة من التاريخ. كانت بحد ذاتها حضارة معجزة بشكل يعجز العقل عن وصفه أو تفسيره، بما يشتمل على تطور المصريين القدماء الملحوظ في كافة مجالات الحياة، بما في ذلك: العمارة، والعلوم المختلفة، والفلك، والفيزياء، والطب، والأدب الديني، والحياة الروحانية، والموسيقى، والكتابة، والتدوين، والملابس، والزينة.
مصر فيما بعد انزواء الحقبة الفرعونية
عاشت مصر في ظل الحضارة “اليونانية- الرومانية” لفترة امتدت نحو ثلاثة قرون بعد أن نجح “الإسكندر المقدوني” في هزيمة الفرس في آسيا الصغرى وقام بفتح مصر عام 332 ق.م، وطرد منها الفرس، وتوج نفسه ملكًا عليها ووضع أساس مدينة الإسكندرية. وتلا ذلك، حكم البطالمة لمصر والذي بدأ بعد وفاة الإسكندر الأكبر وتولي أحد قادته “بطليموس” حكم مصر الذي استمر حتى عام 20 ق.م. وقد احتفظت هذه الدولة بقوتها خلال فترة حكم ملوكها الأوائل فقط، لكن تخللها الضعف فيما بعد إثر احتجاجات المصريين ضدهم، مما أدى إلى استغلال روما لهذه المنازعات ونجاحها في بسط نفوذها على مِصر حتى قضت عليهم تمامًا.
والجدير بالذكر، أن هذه الحقبة كانت فترة زمنية حضارية ثرية للغاية، فقط عرفت البلاد العديد من المظاهر التطور لامست شتى مناحي الحياة كذلك. فقد بنى البطالمة في الإسكندرية القصور والحدائق، وأصبحت المدينة في عهدهم مركزًا للحضارة بفعل الدور التنويري الذي لعبته كُل من جامعة ومكتبة الإسكندرية، حتى ذاع صيت المدينة في مجالات: الفنون، والعلوم، والصناعة، والتجارة. وأصبحت الميناء الأول في البحر المتوسط بفضل منارتها الشهيرة التي عدّها الإغريق إحدى عجائب الدنيا السبع.
دخلت مِصر بعد ذلك الحقبة القبطية، والتي بدأت من منتصف القرن الأول الميلادي بالتزامن مع دخول القديس مرقس للإسكندرية عام 65م، عندما تأسست أول كنيسة قبطية في مِصر. وحتى في مسيحيتها، كانت مِصر متميزة متفردة بحد ذاتها، فقد كان من أبرز مظاهر هذا العصر هو انتشار نزعة الزهد بين المسيحيين والتي نتج عنها قيام الرهبة وانتعاش حركة بناء الأديرة في ربوع مصر. ونهضت العمارة القبطية التي كانت لا تخلو من روعة فنية تمزج بين اللمسة القبطية والفرعونية واليونانية والمصرية. حيث من الممكن القول إن الكنائس التي شيدت خلال القرن الخامس الميلادي تُمثل برهانًا على هذا النموذج المتميز من العمارة والفن القبطي. علاوة على ذلك، نشأ في مصر فن موسيقي كنسي كان يساير النزعة الفنية الموسيقية للأنغام المصرية القديمة.
وبحلول الحضارة الإسلامية على مِصر، فُتحت صفحة جديدة من تاريخها بمجرد أن تم لعمرو بن العاص فتح مصر عام 642 م. وكانت هذه الحقبة هي الأخرى، فترة ثرية بالإسهامات: الفنية، والفكرية، والفقهية والحضرية الخاصة بها. فقد شهدت هذه الفترة مراحل سياسية متعددة حملت كل منها سماتها وطموحات أصحابها الخاصة؛ مثل حقبة الخلفاء الراشدين والصحوة الثقافية التي رافقتها، والعصر الأموي، ومن ثم العصر العباسي. وصولًا إلى الحروب الصليبية التي انحاز فيها الأقباط إلى جانب المسلمين، وأخيرًا وصولًا إلى الحقبة العثمانية. وقدمت مِصر للعالم الأزهر الشريف، المؤسسة الدينية ذات التأثير الممتد، والذي أصبح يمثل المرجعية الدينية الأولى للطائفة السنية حول العالم.
لمِصر وجوه عديدة: أيهما وجهها الحالي؟!
ليس ثمة شك في إن لمِصر شخصيتها الخاصة ولونها الفريد وكيانها الوحيد وتاريخها المديد ومكونها الحضاري المجيد. ولا خلاف كذلك على أنه كما يتباين الأشخاص فيما بينهم ويتدرجون في سمات تتدرج بين القوة والضعف، والأصالة والحداثة، فإن الدول كذلك تحمل بين جنباتها نفس الاختلافات، حتى أننا لننظر إلى الخريطة فنجد أن هناك دولًا فقيرة -ليس المقصود هنا الفقر المادي- ليس لها أدنى شخصية؛ ودولًا أخرى فقيرة، وهي خير من يدرك حقيقة فقره، لذلك آثرت سرقة حضارة الآخرين ونسبتها لنفسها؛ ودولًا حبيسة ليس جغرافيًا فحسب، بل ثقافيًا ومعرفيًا وتاريخيًا كذلك؛ ودولًا وليدة، حديثة النشأة، مهما طال بها الأمد ستظل حضارات مختلطة تحمل سمات اختلاط الأقوام الساكنين فيها وامتزاجهم بأرضها، ولن يعود الفضل في مجدها إلى تاريخها الأصيل الممتد، لأنه ببساطة غير موجود.
إذًا، نعرف أن مِصر لها فضل على سائر البلاد، وليس هناك اقتباس أفضل من كلمات المؤرخ ابن الكندي، تصلح لوصف هذا الفضل الذي اختص الله به مِصر: “فضل الله مصر على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض، والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضل على ضربين: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعًا، وقد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه؛ بالكرم وعِظم المنـزلة، وذكرها باسمها، وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم، تنبئ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية، والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيدًا، ومع ذلك رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مصر وفي عَجَمها خاصة -أي القبط- وذكره لقرابته ورحمهم، ومباركته عليهم وعلى بلدهم، وحثه على برهم ما لم يُرو عنه في قوم من العجم غِيرهم … مع ما خصها الله به من الخصب والفضل، وما أنزل فيها من البركات، وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب بما لم يخصص الله به بلدًا غيرها، ولا أرضًا سواها . فإن ثَرّب علينا مُثّرِّب بذكر الحرمين، أو شَنّع مُشنع، فللحرمين فضلهما الذي لا يُدفع، وما خصهما الله به مما لا ينكر، من موضع بيته الحرام، وقبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس ما فضلهما الله به بباخسٍ فضلَ مصر، ولا بناقص منزلتها، وإن منافعها في الحرمين لبينة، لأنها تُميرهما بطعامها وخصبها وكسوتها وسائر مرافقها، فلها بذلك فضل كبير، ومع ذلك فإنها تطعم أهل الدنيا ممن يرد إليها من الحاج طول مقامهم يأكلون ويتزودون من طعامها من أقصى جنوب الأرض وشمالها ممن كان من المسلمين في بلاد الهند والأندلس وما بينهما، لا ينكر هذا منكر، ولا يدفعه دافع، وكفى بذلك فضلًا وبركة في دين ودنيا.”
أما عن السؤال الذي بات يتردد مؤخرًا على الألسن بإلحاح، بأي هوية من الممكن أن نميز مِصر؟ هل هي عربية أم فرعونية، أم إغريقية وقبطية أم إسلامية؟! نعود هنا لنستشهد مرة أخرى بقول المفكر المصري الجليل، جمال حمدان، وقوله عنها في كتابه شخصية مِصر “فرعونة هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدمًا في الأرض وقدمًا في الماء. وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسًا أكثر من ضخم.
وهى بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط.”
وختامًا، ليس غريبًا أن يكون لمِصر وجوه عديدة: فرعونية، ورومانية، وقبطية، وإسلامية وغيرها، لكن ليس من المنطقي محاولة تشويه هوية مِصر أو حصر تاريخها على واحد فقط من هذه الوجوه؛ فهذه الهوية المصرية هي الخليط الناتج عن مزج كل ما سبق ببعضه البعض. بحيث تصبح مِصر فريدة من نوعها، وذات هوية مركبة، لكونها مِصر بحد ذاتها. ويكون شعبها بطبيعية الحال، أصيلًا لوصفه بأنه مِصري بمعنى يترتب عليه أنه هو بحد ذاته يكون كذلك الخلاصة الناتجة عن امتزاج كل مركبات التاريخ وما حملته معها من حضارة ببعضها البعض. وعلى هذا الأساس، يجتمع أطراف الحوار الوطني لمناقشة أبعاد المحاولات المتكررة لسرقة وتزوير التاريخ المصري، وتشويه الهِوية الوطنية؛ لأجل التوصل لأفضل الطرق المناسبة لمجابهتها.
باحث أول بالمرصد المصري