الاقتصاد الدولي

الخلفيات السياسية لأزمة الديون الأمريكية

بلغت الولايات المتحدة سقف الدين الذي حدده الكونجرس في يناير الماضي، مما أثار القلق من عدم قدرة واشنطن على تسديد مستحقاتها في المواعيد المحددة، وهو ما سيؤثر سلبًا ليس على الاقتصاد الأمريكي ولكن من شأنه أن يؤثر أيضًا على الاقتصاد العالمي. تخوض الحكومة والكونجرس معركة منذ بداية العام وحتى الآن على الطريقة الأسلم لحل مثل هذه الأزمة، مما أثار غضب الشعب وانقسام الآراء بينهم. وقدم كيفين مكارثي المتحدث باسم الكونجرس إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في اجتماعهم يوم 16 مايو اقتراحًا برفع سقف الديون حتى تستطيع الدولة تسديد ديونها في شهر يونيو المقبل، في مقابل تقليل النفقات الحكومية كما يرغب الحزب الجمهوري. وقد أعطى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذه الأزمة طابعًا سياسيًا وليس اقتصاديًا فقط، أدى إلى تعقيدها.

الأبعاد الأساسية للأزمة

 شهدت الديون الأمريكية معدلات ارتفاع كبيرة خلال العقود الماضية، حيث نمت من 1989 إلى 2021 بأكثر من 800%. وكان للعديد من العوامل دور مهم في ارتفاع هذه الديون، مثل: حرب أفغانستان، وحرب العراق، والأزمة المالية العالمية 2008، وجائحة كورونا في عام 2020 والتي أدت إلى ارتفاع الإنفاق الأمريكي في الفترة 2019 حتى 2021 بنحو 50%.. 

وشهد الدين القومي ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات العشر الماضية، حيث ظلت نفقات الفائدة خلال هذه الفترة مستقرة إلى حد ما بسبب أسعار الفائدة المنخفضة وتقدير المستثمرين أن الحكومة الأمريكية لديها مخاطر منخفضة للغاية من التخلف عن السداد. ولكن منذ ديسمبر 2022، تم إضافة نحو 210 مليارات دولار للدين الأمريكي، وهو ما يمثل 15% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي.

وأدت سياسات زيادة الإنفاق الحكومي التي تبنتها بعض الإدارات الأمريكية إلى تفاقم الديون بشكل كبير، فعلى سبيل المثال قدرت وزارة الدفاع الأمريكية العام الماضي أن التكاليف المباشرة للحروب في العراق وسوريا وأفغانستان قد تجاوزت 1.6 تريليون دولار، في حين وجد باحثون أضافوا تكاليف غير مباشرة -لا سيما رعاية قدامى المحاربين في تلك الحروب والفوائد على الأموال المقترضة لتمويل الجيش- أن التكلفة الإجمالية كانت في حدود 6 تريليونات دولار لكل جهود أمريكا في الحرب على الإرهاب في منذ 11 سبتمبر 2001. 

وقد أسهمت أيضًا برامج الإنفاق الدائم الجديدة، التي تنفق الأموال على البرامج والخدمات لضمان رفاهية المقيمين في الولايات المتحدة، في تزايد الديون، كمثال ساهم برنامج التأمين الصحي للأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكبر في رفع العجز الأمريكي بشكل واضح، فكلف أكثر من 100 مليار دولار في عام 2022 فقط.

بالإضافة إلى ذلك، فاقم تراجع الإيرادات الضريبية من الأزمة؛ إذ أشارت الإحصائيات إلى أنه منذ عام 2001 حتى عام 2018، أضافت التخفيضات الضريبية ما يصل إلى 5.6 تريليونات دولار للدين الأمريكي. وذكرت وزارة الخزانة الأمريكية، يوم 12 ديسمبر 2022، أن الحكومة الأمريكية سجلت عجزًا شهريًا في الميزانية قدره 249 مليار دولار في نوفمبر الماضي، بزيادة قدرها 30% عن العام السابق وسط زيادة الإنفاق وانخفاض الإيرادات. وبحسب بيانات الوزارة زادت نفقات الميزانية 6% في نوفمبر الماضي، وانخفضت عائدات شهر نوفمبر بنسبة 10%، مع حدوث انخفاضات في مجالات مثل الإيرادات الحكومية من ضرائب الرواتب.

الخلفيات السياسية للأزمة

لم تكن إدارة جو بايدن للدولة محط إعجاب الشعب الأمريكي خصوصًا إدارة أزمات مثل جائحة كورونا ومن بعدها الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. وظهر هذا الاتجاه بشكل أوضح مع حصول الحزب الجمهوري على الغالبية في انتخابات الكونجرس الأمريكي في 2022، وهو ما اعطى الجمهوريين فرصة إبراز مساوئ إدارة بايدن لترجيح كفة الحزب الجمهوري بشكل أكبر في الانتخابات الرئاسية المقبلة. يأتي هذا في ظل رؤية بعض المحللين بأن فوز الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكنه أن يكون خطوة كبيرة في حل الأزمة الروسية الأوكرانية بسبب علاقة الحزب الجمهوري وعلى رأسهم ترامب القوية بالرئيس الروسي بوتين.

استغل أيضًا الحزب الجمهوري وصول الديون الأمريكية إلى السقف الذي حدده الكونجرس لإبراز مساوئ إدارة بايدن بشكل أكبر، حيث رفض الكونجرس رفع سقف الديون بشكل أكبر لرؤيته أن هذا الحل سيحل الأزمة بشكل مؤقت وأن المشكلة الرئيسة هي في إدارة الحكومة، وأن الحل الأفضل للأزمة هو خفض الإنفاق الحكومي لقدرة الدولة على تسديد فواتيرها في مواعيدها المحددة، وهو ما يجعل الحزب الجمهوري يظهر بشكل الإدارة الحكيمة في مقابل طيش إدارة الحزب الديمقراطي من جهة، ومن الجهة الأخرى تنفيذ حل خفض الإنفاق الحكومي يقلل الخدمات الرفاهية للشعب الأمريكي مما سيرفع غضب الشعب من إدارة بايدن. 

من جهته، رفض البيت الأبيض هذا الحل بشكل قاطع أكثر من مرة وما زال يطالب الكونجرس برفع سقف الديون، وقد يؤدي هذا الخلاف إلى أزمة تخلف عن سداد الديون الأمريكية. وفي هذا الصدد، طالبت وزارة الخزانة الأمريكية الكونجرس برفع سقف الدين الأمريكي، محذرة من أن التخلف عن السداد سوف يلحق أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الأمريكي، وربما يتسبب ذلك في خفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة؛ إذ إن خطر التخلف عن سداد الديون السيادية أدى في عام 2011 إلى التخفيض الوحيد في تاريخ التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة. وأكد صندوق النقد الدولي أيضًا أن الفشل في رفع سقف الدين الأمريكي قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي.

بالرغم من ذلك، ليست هذه الاستراتيجية جديدة على الحزب الجمهوري، وهي استراتيجية خطرة؛ إذ استخدم الجمهوريون نفس الأسلوب في أزمات مشابهة في عام 1995 في الفترة الأولى لرئاسة بيل كلينتون وأيضًا في عام 2011 في الفترة الأولى لرئاسة باراك أوباما. وفي المرتين، واجه الحزب الجمهوري رد فعل عكسي، حيث رأى الشعب أن السبب الرئيس للأزمة والآثار السلبية لها هو تعنت الجمهوريين وليس سوء إدارة الديمقراطيين، وساعد هذا في كل من الحالتين السابقتين في فوز الرئيس الديمقراطي بفترة رئاسية ثانية. 

تداعيات محتملة

من أخطر التداعيات المحتملة لهذه الأزمة هو عدم قدرة الولايات المتحدة على تسديد الديون وهو ما سيترتب عليه خفض التصنيف الائتماني السيادي من قبل وكالات التصنيف للولايات المتحدة مع توضيحات بضعف القدرة على التنبؤ في صنع السياسة الأمريكية والمؤسسات السياسية. وسيطلب العملاء أسعار فائدة أعلى بكثير على سندات الخزانة للتعويض عن المخاطر الإضافية. بالإضافة إلى ذلك، سترتفع تكاليف الاقتراض للشركات وأصحاب المنازل على حد سواء، بجانب أن انخفاض ثقة المستهلك قد يصدم السوق المالية الأمريكية ويدفع الاقتصاد الأمريكي إلى الركود. بالإضافة إلى ذلك، سيدفع تراجع الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة وأسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال المستثمرين في المدى القصير بعيدًا عن الاستثمارات الفيدرالية التي تشتد الحاجة إليها في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.

ولا نقتصر خطورة خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة على الجانب الداخلي فقط، فقد يؤثر تخلف الولايات المتحدة عن السداد سلبًا على الأسواق المالية العالمية بسبب عدم يقين تلك الأسواق بقدرة واشنطن على سداد الديون، حيث لطالما عززت الجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأمريكية الطلب على الدولار الأمريكي، ما أسهم في ارتفاع قيمة تلك السندات وتصنيفها الائتماني، وتعزيز مكانة الدولار الأمريكي. لكن في حال تخلف الولايات المتحدة عن السداد سيتم الإضرار بقيمة الدولار؛ حيث يقوم المستثمرون ببيع سندات الخزانة الأمريكية فيضعف الدولار. 

لذا فإن الانخفاض المفاجئ في قيمته يمكن أن ينتشر في سوق سندات الخزانة مع انخفاض قيمة الاحتياطيات الدولية لدى تلك الدول التي تحتفظ بالدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي.  وفي الوقت الذي تكافح فيه البلدان المنخفضة الدخل المثقلة بالديون لسداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية، يمكن أن يؤدي ضعف الدولار إلى جعل الديون المقومة بعملات أخرى أكثر تكلفة نسبيًا ويهدد بدفع بعض الاقتصادات الناشئة إلى أزمات ديون.

ختامًا، من غير المرجح الوصول إلى مرحلة عدم قدرة واشنطن على سداد ديونها، فبمجرد اتخاذ الكونجرس قرار برفع سقف الديون سيكون هذا بمثابة حل –ولو مؤقت- للأزمة. ولن يكون من المنطقي استمرار الحزب الجمهوري في الضغط على الحكومة عن طريق رفض الكونجرس لهذا القرار؛ بالنظر إلى أن تداعيات عدم تسديد الولايات المتحدة للديون ضخمة. وستؤثر هذه الأزمة وما تفضي إليه على المشهد السياسي الأمريكي، كما أثرت الخلفيات السياسية في تفاقمها، فبالرغم من أن أزمة سقف الديون الأمريكية يثار بها الجدل بين الحين والآخر إلا أن تفاقمها هذه المرة يهدد بالكثير من المخاطر خصوصًا مع ارتفاع شعبية الين الصيني، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية، ووضع كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خططهم للفوز بها وبالتالي تكون كل خطوة مؤثرة في مستقبل المشهد السياسي الأمريكي.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى