الحوار الوطني

السياحة على طاولة الحوار الوطني: استباق موضوعي لمتطلبات المستقبل

تنطلق يوم الثلاثاء القادم الموافق 16 مايو، أولى جلسات اللجان الفرعية المنضوية تحت لواء المحور الاقتصادي بالحوار الوطني، حيث سيشهد هذا اليوم انعقاد جلستين للجنة العدالة الاجتماعية وجلستين للجنة السياحة، وذلك لمناقشة حال القطاع السياحي الوطني بشكل شمولي، وتحمل هاتان الجلستان عنوانين رئيسين، الأول “صياغة الخريطة السياحية لمصر ووسائل الجذب لها”، والثاني ” وسائل تحفيز الاستثمار السياحي بكل أشكاله”. 

وعلى الرغم من محدودية المعلومات المتاحة –حتى الآن- حول جداول الأعمال المنسقة للجلستين سالفتي الذكر، إلا أن الموضوعات النقاشية المتوقع تناولها، والتي سبق الإعلان عنها بتاريخ 12 يناير 2023، يتمثل في معرفة أسباب تراجع السياحة في مصر والآثار والنتائج المترتبة عليها، وكيفية تطوير وحوكمة البنية التحتية الخادمة للقطاع، فضلًا عن صياغة الخريطة السياحية المناسبة مع إمكانات وتطلعات السوق السياحي المصري. وكل هذه الموضوعات تعطينا إشارات إيجابية حول جدية حالة الحوار الذي تنتظرها جلستا لجنة السياحة المقررتان.

ومن المنتظر أن يتم استعراض مختلف التحديات التي واجهها ولا زال يواجهها النشاط السياحي في مصر، وكذلك استعراض مختلف الفرص الواعدة أمام القطاع، والتي ستمكنه من تقوية ميزاته التنافسية إقليميًا وعالميًا، ليُفضي كل ذلك في النهاية إلى الخروج بتوصيات ناجعة تسهم في تطوير الوضع الحالي للسياحة بمصر على المديين القصير والمتوسط. 

ارتباك شبه مزمن

لن تكون هناك أية بداية موضوعية للحديث عن تحديات القطاع السياحي المصري وفرصه المأمولة، دون التطرق إلى فترة العقد الماضي التي واجه فيها القطاع حالة من التذبذب والتباين الواضحين في مؤشراته العامة، فبعد وصول أعداد السائحين الأجانب القادمين إلى البلاد في 2010 إلى قرابة 14 مليون سائح، تقلصت تلك الأعداد في 2015 إلى 5.2 ملايين سائح، لترتفع ثانية في عام 2022 الماضي إلى 11.7، وبين تلك السنوات الثلاث المذكورة شهد القطاع صعودًا وهبوطًا لافتين في حجم الحركة السياحية – أنظر الشكل التالي-. 

تعزى حالة التغير وعدم الاستقرار الملاحظة في مسيرة القطاع السياحي على مدار السنوات الاثنتي عشرة الماضية إلى جملة من الظروف السياسية والاقتصادية المحلية والدولية التي كان لها تأثيرات عميقة على الاقتصاد الوطني بشكل عام، والسياحة بشكل خاص، فاندلاع التوترات السياسية والأمنية في البلاد مطلع عام 2011 كان له أثر مباشر على تقلص أعداد السائحين الدوليين الوافدين إلى البلاد بنسبة تجاوزت 30%، لكن القطاع السياحي شهد حالة من التعافي المتواضعة بعدما سرت التوقعات باحتمالية أن يسود المناخ الديمقراطي سياسة الدولة العامة، وهو ما سيحقق مطالب المتظاهرين والمحتجين بمختلف الميادين. 

إلا أن محاولات جماعات الإسلام السياسي للسيطرة على كافة مقدرات البلاد، كانت سببًا في انتفاضة الشعب في 30 يونيو 2013، وهو ما أدى إلى الإطاحة بحكم جماعة الإخوان الإرهابية، لتقوم كافة التنظيمات الإرهابية والتخريبية الموالية لها، أو المؤيدة لأفكارها الفاشية بشن موجة إرهابية غير مسبوقة على الدولة المصرية، لكن أجهزة الدولة المختلفة كانت على دراية ووعي بحجم هذا التحدي، لذلك واجهته بكل حزم، لتتسبب موجة الإرهاب من ناحية وعملية مواجهتها من ناحية أخرى في الإبطاء من وتيرة تطور حالة القطاع السياحي على مدار ثلاث سنوات متعاقبة هي: 2013، و2014، 2015. بعدها واجه القطاع واحدة من أسوأ أزماته التاريخية في عام 2016 بعد حادث سقوط الطائرة الروسية “متروجيت” فوق أرض سيناء، أواخر العام السابق عليه 2015، حيث أدى هذا الحادث إلى تقلص عدد السائحين الوافدين خلال أشهر معدودة بنسبة 42%. 

حالة الركود والتراجع لم تستمر كثيرًا، فقد أفضت مختلف مجهودات الدولة المصرية على المستويين الخارجي والداخلي إلى ترقية حال القطاع السياحي بشكل سريع، ونجحت الدولة خلال الفترة ما بين 2014 و2019 في تأصيل أواصر التعاون مع أغلب الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، وهو ما يسّر تخفيف ورفع قرارات الحظر التي فرضها الكثير من الدول المصدرة للسياحة الدولية إلى مصر. وكان لمجهودات الدولة في تطوير مختلف البنى التحتية الخادمة للقطاع كذلك دور في إتاحة الفرصة أمام استقبال أعداد إضافية من السائحين، وهو ما أدى في النهاية إلى استضافة مصر في 2019 أكثر من 13 مليون سائح. 

كانت المؤشرات للعام 2020 مبشرة جدًا؛ إذ سرت التوقعات باحتمالية زيادة أعداد السائحين الدوليين الوافدين إلى مصر بنسبة تقارب 15% وذلك بالزيادة عن العام السباق عليه، إلا أن جائحة كورونا كانت بمثابة العثرة غير المتوقعة في طريق نمو القطاع السياحي المصري؛ إذ أدى انتشار الفيروس حول العالم إلى قطع أغلب طرق المواصلات الدولية نتيجة عمليات الإغلاق التي فرضتها أغلب الدول، لذلك تقلص الطلب السياحي بواقع 72% خلال عام واحد. 

حاولت الدولة المصرية تجاوز أزمة كورونا بشكل سريع، وكان طريقها إلى ذلك هو استغلال مختلف المجهودات التي تم تنفيذها على مدار السنوات الست الماضية، بالإضافة إلى دفع منظومة الدعاية للمقصد المصري، وتنظيم مجموعة من الأحداث السياحية التي كان لها صدى عالمي واسع، مثل: افتتاح طريق الكباش، وموكب المومياوات الملكية، فضلًا عن اتخاذ أشد أنواع الإجراءات الوقائية الاحترازية وأكثرها صرامة، وهو ما كان سبب في رفع عدد السائحين الوافدين إلى البلاد عام 2021 إلى 8 ملايين سائح.

ولقد كان متوقعًا أن يصل القطاع السياحي المصري إلى حالة التعافي الكامل بحلول 2022، إلا أن الأزمة التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية كانت سببًا في تراجع هذه التوقعات بشكل جزئي، حيث وصل عدد السائحين الوافدين إلى البلاد أكثر من 11 مليون سائح، ولولا هذه الحرب غير المتوقعة لكان عدد السائحين الوافدين إلى مصر أكثر من معدلات عام 2010 التي شهد القطاع السياحي المصري فيها ذروة نشاطه السياحي من حيث عدد السائحين الوافدين. 

منافسة إقليمية حامية

لم يعد التنافس السياحي في المنطقة العربية وإقليم شرق البحر المتوسط على ما كان عليه قبل عقود خلت؛ إذ يسعى العديد من الدول السياحية الآن إلى زيادة حصتها السوقية؛ وذلك على اعتبار أن السياحة أحد روافد العملة الأجنبية التي تحتاجها تلك الدول في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة التي يمر بها العالم حاليًا. وبدأ عدد من اللاعبين الجدد في الظهور على الساحة الإقليمية خاصة دول الخليج التي تسعى خلال العشر سنوات القادمة إلى تنشيط القطاعات الإنتاجية غير النفطية، وذلك للاستعداد للمرحلة الاقتصادية والطاقوية العالمية الجديدة، والمعروفة باسم -مرحلة ما بعد النفط-.

ونجد من أبرز الأمثلة في هذا الصدد تركيا، والتي نجحت في اجتذاب قرابة 45 مليون سائح قبل أزمة كورونا، لكن العدد الإجمالي للسائحين شهد تراجع حاد خلال العام التالي عليه 2020 ليصل إلى 12.7 مليون سائح فقط، ولم يستطع العام التالي أن يسجل حالة التعافي الكاملة المرجوة حيث وصل إلى البلاد 24.7 مليون سائح فقط. لذلك عُدّ القطاع السياحي التركي المؤثرين والمتأثرين بالأزمة الاقتصادية التركية التي تأتي في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة. لذلك ركزت السلطات التركية على دفع القطاع السياحي بقوة خلال العام الماضي 2022، وهو هدف تمكنت من أن تحققه، فوصل عدد السائحين الدوليين إلى 44.56 مليون سائح، فيما تسعى أنقرة إلى أن يتخطى عدد السائحين الوافدين إليها خلال العام الحالي 2023 أكثر من 51 مليون سائح. 

تونس تعد هي الأخرى من النماذج الناجحة في إدارة قطاعها السياحي على المستوى الإقليمي؛ فلقد بذلت الدولة التونسية مجهودات متعددة لتعظيم أعداد السائحين الدوليين، وذلك على الرغم من التوترات السياسية والأمنية التي عانتها ولا زالت تعانيها منذ 2011، حيث شهد عدد السائحين الدوليين حالة من التصاعد المستمر خلال الفترة من 2011 إلى 2019 أي ما يقارب على العقد من الزمان -انظر الشكل التالي-. وعلى الرغم من أزمة وباء كوفيد التي قلصت من إجمالي أعداد السائحين الدوليين إلى أدنى مستوياتها خلال العامين 2020 و2021، إلا أن السلطات السياحية المحلية عملت بجهد لمضاعفة أعداد هؤلاء السائحين، وهو ما رفع عددهم الإجمالي إلى 6 ملايين سائح، ويُتوقع أن يتزايد عدد السائحين للعام الحالي 2023 بنسبة 15%. 

ونجد المملكة العربية السعودية من النماذج الإقليمية التي تستهدف إيجاد موطئ قدم لها في السوق السياحية الإقليمية والدولية، حيث وضعت المملكة ضمن استراتيجيتها للعام 2030 هدفًا يتلخص في استضافة أكثر من 50 مليون سائح دولي على أساس سنوي، وذلك بعد ان كان عدد السائحين لا يتجاوز 10 ملايين سائح، وهم من القادمين بهدف السياحة الدينية سواء لأداء فريضة الحج أو العمرة. لذلك بدأت المملكة منذ ما يقارب الخمس سنوات على تشييد مشروعات سياحية عملاقة على شواطئ البحر الأحمر، ومنها: مشروع البحر الأحمر، ومشروع املا، ومشروع جزيرة سندالة، والتي تستهدف جذب مليوني سائح على أساس سنوي، هذا إلى جانب تشييد العديد من المقاصد السياحية والثقافية بالداخل السعودي مثل: مشروع منتجع تروجينا بإقليم نيوم، ومشروع تطوير منطقة السودة، ومشروع تطوير منطقة الدرعية ومنطقة القدية.

ومن المتوقع أن تسهم المقاصد السياحية الجديدة بالمملكة في الارتقاء بمكانة السعودية الدولية في المجال السياحي، حيث تقوم المملكة ببناء وتطوير تلك المقاصد على أساس استخدام أحدث التكنولوجيات العالمية، وهي التي من شأنها مراعاة مختلف عوامل الاستدامة، بالإضافة إلى تحسين وتسهيل تجربة السائح الدولي عن طريق الاعتماد على التكنولوجيات في إدارة عمليات تشغيل تلك المقاصد السياحية، وهو ما يوفر أقصى درجات الرفاهية للزوار. 

إمكانات محلية قوية

يستند القطاع السياحي في مصر إلى العديد من عوامل النجاح، والتي يجب أن يأخذها المشاركون في أعمال لجنة السياحة بالحوار الوطني كمحل للاعتبار؛ فإلى جانب السمعة العالمية القوية عن المقصد المصري، تمتلك البلاد خبرات قوية متراكمة على مدار عقود في مجال العمل السياحي، خاصة في إدارة المرافق السياحية ذات الهوية الثقافية مثل المتاحف والمناطق التراثية، بالإضافة إلى إدارة المنتجعات والمنشآت الفندقية بالمناطق الشاطئية أو بأقاليم الداخل المصري بالوادي والدلتا، وأيضًا المرافق الترفيهية والخدمية المرتبطة بالعمل السياحي مثل المطاعم والأندية الصحية. وتمتاز البلاد كذلك بامتلاكها لشبكات واسعة من وسائل التنقل البري والجوي والبحري والنهري، والتي تسهم جميعها في تسهيل عملية انتقال السائحين من خارج البلاد إلى داخل البلاد، وحتى في الانتقال بين مختلف أقاليم الجمهورية أثناء وجودهم في مصر. 

وحرصت الدولة المصرية منذ عام 2014 على تطوير مختلفة البنى التحتية الخادمة للقطاع السياحي، وذلك في إطار مشروعها الشامل لتطوير كافة البنى التحتية بالدولة، لذلك عملت على تطوير العشرات من الطرق السريعة، التي تسهم في ربط المواقع السياحية والأثرية على امتداد البلاد، مثل الطريق الرابط بين نفق الشهيد أحمد حمدي ومدينة شرم الشيخ بجنوب سيناء على امتداد 342 كم، حيث جرت عمليات لتوسعة وإعادة رصف ذلك الطريق، بالإضافة إلى إنشاء عدد من البوابات والمحطات على امتداد الطريق لتوفير الخدمات التي يحتاجها مستخدموه، بالإضافة إلى توفير نقاط لخدمات الطوارئ في حال الاحتياج لها، وساهمت تلك المجهودات في تقليص الحوادث المرورية التي كانت تودي بأرواح المئات من المصريين والسائحين الأجانب سنويًا، وهو ما كان يضر بسمعة مصر السياحية بشكل كبير. 

وقامت الدولة كذلك بتطور أكثر من عشرين مطارًا دوليًا ومحليًا في عموم البلاد، وأبرز أمثلتها مطار القاهرة الدولي، الذي شهد خلال السنوات الأخيرة تطويرات جذرية على الحالة الفنية لصالات الركاب، وقرية البضائع، بالإضافة إلى حظائر الطائرات ومدرجات الهبوط والاقلاع، وهو ما كان سبب في ارتقاء مطار القاهرة للمرتبة الثانية أفريقيًا عام 2018 من حيث عدد الركاب، وذلك بعد مطار تامبو الدولي بجنوب أفريقيا، حيث نجح مطار القاهرة في هذا العام في أن يستضيف 17.55 مليون راكب محلي ودولي، وإلى جانب تطوير المطارات القائمة سعت الدولة إلى إنشاء مطارات جديدة، ومنها مطار سفنكس الدولي بمحافظة الجيزة، الذي بدأت عملية إنشائه في عام 2016، وذلك لخدمة الحركة السياحية بمنطقة هضبة الأهرام والمتحف المصري الكبير، وجرى تجهيزه لكي يستوعب 1200 راكب في الساعة الواحدة، بالإضافة إلى تدعيمه بمختلف المرافق التي من شأنها تسهيل وتأمين حركة الركاب والطائرات بالمطار. 

النقل البحري نال نصيبه من التطوير، حيث عززت الجهات المختصة مختلف المرافق الخادمة لحركة السفن السياحية، وسفن الرورو الناقلة للركاب الدوليين، لذلك قامت الدولة بتطور الأرصفة باثني عشر ميناء تجاريًا، حيث تخدم تلك الأرصفة سفن الشحن وسفن الركاب أيضًا، وقامت الجهات المختصة بتطوير صالات الوصول والسفر بتلك الموانئ البحرية، ومنها على سبيل المثال ميناء سفاجا الذي شهد تشييد صالتي ركاب جديدتين للسفر والوصل بطاقة إجمالية 4000 راكب في الساعة. وهو ما زاد عن طاقة الميناء الاستيعابية بنسبة قدرها 156%. 

لكن على الرغم مما سبق، يوجد تحديًا يواجه عملية تطوير المزيد من البنى التحتية الخادمة للقطاع السياحي، يتمثل في إحجام الاستثمار الأجنبي عن ضخ المزيد من رؤوس الأموال في الداخل المصري، وذلك بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، حيث أدى رفع الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لأسعار الفائدة إلى تفضيل المستثمرين للذهاب إلى مغادرة الاقتصادات الناشئة لصالح اقتصادات العالم الأول بهدف الاستفادة من نسب الفوائد المرتفعة، ويعتقد أن يكون ذلك الأمر هو أحد أهم وأخطر معوقات تطوير الملف السياحي المصري في الفترة الحالية. 

وفي الختام، يمكن القول إن الملف السياحي سيشهد مناقشات متعددة ومتشعبة، شأنها في ذلك شأن تحديات وفرص القطاع السياحي ذاته، فإلى جانب الوقوف على أبرز عثرات القطاع، والتطرق إلى تصاعد تنافسية المقاصد السياحية الإقليمية المحيطة، وتعدد إمكانات المقصد المصري، سيتم تناول مجهودات التسويق التي تجريها الأجهزة المختصة لزيادة تواجد الصورة الذهنية عن مصر لدى السائح الدولي، فضلًا عن مناقشة الخطط الاستراتيجية الحالية والمستقبلية التي تضعها وزارة السياحة لتطوير النشاط السياحي بالبلاد، ولن تخلو الجلستان من تسجيل العشرات من الأفكار الخلاقة التي ستفرزها حالة الحوار البناء بين المشاركين، سواء من التنفيذيين العاملين بالمجال السياحي، أو الخبراء الاكاديميين من المؤسسات العلمية ومراكز الفكر، أو من المشرعين وصانعي السياسات.  

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى