
محدودية الدور.. هل تملك الولايات المتحدة أدوات التأثير في الأزمة السودانية؟
بعد ثمانية وستين عامًا من إعلان الاستقلال عن بريطانيا، شهد السودان سنوات صراع ودمار أكثر من سنوات السلام والاستقرار؛ ففي الحرب الأهلية السودانية الأولى (1955-1972) مات نصف مليون شخص، ولقي مليونا شخص حتفهم في الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005)، وقتل ما لا يقل عن 300 ألف شخص في حرب دارفور، فضلًا عن الاحتجاجات المتتالية منذ الإطاحة بعمر البشير في عام 2019. والآن، يسير السودان منذ 15 أبريل الماضي نحو حرب أهلية ثالثة لا طائل من ورائها سوى استنزاف طموحه نحو الحكم الديمقراطي، والعبث بمقدرات وأرواح شعبه. فهل من دور يمكن للولايات المتحدة أن تضطلع به لحل هذه الأزمة؟
من الخطأ أن تعتقد الولايات المتحدة أن تفكك السودان لا يشكل أي تهديد لمصالحها في المنطقة؛ فالسودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاجون، ولا يشترى أسلحة أمريكية سنويًا، ولا يوجد تبادل تجارى ذو شأن بين السودان والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن، ولا تتمتع الجالية السودانية داخل الولايات المتحدة بثقل انتخابي أو وزن اقتصادي ومالي كبير ليكترث به صانعو القرار في واشنطن. ولكن الأزمة الحالية في السودان تمثل تغييرًا أساسيًا في المشهد السياسي والأمني الذي يتطلب تغييرًا في نهج الولايات المتحدة، في ظل عدم وجود خطة متماسكة للتعامل مع السودان وأهميته في كل من القرن الأفريقي والشرق الأوسط.
سياسة الولايات المتحدة نحو السودان
منذ استقلاله في منتصف خمسينيات القرن الماضي، لم يحظ السودان بأهمية سياسية أو اقتصادية ذات حيثية للمصالح الأمريكية، أو حتى تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، وذلك مقارنة بالدول الأفريقية الأخرى. وتركزت العلاقات بين البلدين فقط على التعاون الإنمائي بشكل كبير، مقابل تطور العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بشكل محدود. في عام 1961، كان الرئيس الراحل إبراهيم عبود أول رئيس سوداني يزور البيت الأبيض بعد الاستقلال، والتقى بالرئيس جون كينيدي. وخلال السنوات الست التي أعقبت تلك الزيارة، استمرت العلاقة على وتيرة ثابتة.
بداية من عام 1990، دفع التكالب الدولي نحو السودان صناع السياسة الأمريكيين إلى العمل عن كثب مع حكومات الخرطوم لكبح النفوذ السوفيتي في القرن الأفريقي. وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان بشدة تحت حكم عمر البشير الذي دام ثلاثة عقود. وتمحورت استراتيجية الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاثين الماضية على مكافحة الإرهاب، وفرض العقوبات، والمساعدات الإنسانية. ونوجز تلك الاستراتيجية فيما يلي:
التضييق ومحاولات الإطاحة: طورت الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس بيل كلينتون (1993-2001) سياسة لعزل الحكومة السودانية المتشددة بقيادة عمر البشير، وعملت دبلوماسيًا مع حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين وهم “دول الخط الأمامي” (إريتريا وإثيوبيا وأوغندا) للضغط على الحكومة السودانية ومحاولة تقويض نظام الجبهة الإسلامية القومية. وعندما فشلت استراتيجية “دول الخط الأمامي” لانغماس الأطراف الإقليمية الرئيسة في حروب إقليمية (أوغندا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وإريتريا وإثيوبيا ضد بعضها البعض)، دعمت الولايات المتحدة المعارضة السودانية المحلية وأدرجت الخرطوم على قائمة الدول الراعية للإرهاب.
فرضت إدارة كلينتون عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على حكومة السودان المتشددة، وصادرت أصول الحكومة السودانية في الولايات المتحدة. وأدرجت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993 على اعتبار أن نظام البشير كان يوفر المأوى للجماعات المتشددة. وأدى ذلك إلى قطع الاستثمار والمساعدات المالية عن السودان، وعزله عن النظام المصرفي العالمي. كل هذا دفع الصين إلى اكتساب موطئ قدم لها في السودان، وفتحت العقوبات الأمريكية اللاحقة الباب على مصراعيه للاستثمارات الصينية في الدولة التي مزقتها الحروب ولم يكن لديها أي وسيلة أخرى لجذب الاستثمارات الأجنبية.
الضغط لاحتواء سلوك النظام: تغيرت السياسة الأمريكية تجاه السودان خلال فترة إدارة جورج بوش الابن (2001-2009)، وتحولت من السياسة الانعزالية للرئيس كلينتون إلى التفاعل المكثف في المشكلات والقضايا. في البداية، لم ينظر “بوش” إلى السودان كدولة ذات أولوية لعدم وجود مصالح وطنية أمريكية حيوية في خطر، ولم تكن لدى السودان القدرة على تهديد الولايات المتحدة. ومع ذلك، تقاربت التأثيرات من مختلف الدوائر الأمريكية لتغيير وجهة النظر في السنة الأولى من ولاية “بوش”، وأدت إلى تعيين السودان كدولة ذات أولوية للسياسة الأمريكية في أفريقيا، وتعيين مبعوث رئاسي للسلام في السودان في عام 2001″؛ لاستكشاف الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة في إنهاء الحرب الأهلية في السودان وتعزيز إيصال المساعدات الإنسانية.
بعد 11 سبتمبر، كثف “بوش” تعاونه في مكافحة الإرهاب مع المخابرات السودانية، وكذلك المشاركة الدبلوماسية لإنهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في البلاد، وقطع وعودًا للحكومة السودانية بتطبيع العلاقات معها ورفع اسمها من قائمة الدول الداعمة للإرهاب إن وقعت اتفاق سلام مع الحركة الشعبية التي تقود التمرد في الجنوب، مما مهد الطريق للانفصال السلمي لجنوب السودان. في الوقت نفسه، أدى تعامل الحكومة في الخرطوم مع الصراع الذي اندلع في منطقة دارفور إلى فرض عقوبات إضافية، وتوقيع “بوش” على تشريع يسمح لحكومات الولايات والحكومات المحلية بقطع العلاقات مع الشركات التي تتعامل مع السودان.
العصا والجزرة: كشفت إدارة الرئيس باراك أوباما (2009–2017) عن استراتيجية جديدة تجاه السودان؛ تقدم حوافز إذا عملت حكومة الخرطوم على تحقيق السلام لكنها ستواجه خطوات صارمة إذا فشلت في التحرك، وأعلنت إدارة “أوباما” عن تغيير في السياسة الأمريكية المتبعة منذ عقود، وتخفيف العقوبات المفروضة على السودان على الرغم من أن رئيس البلاد عمر البشير مطلوب من جانب المحكمة الجنائية الدولية بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
أدى تعاون السودان مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب ومعالجة النزاعات الإقليمية إلى رفع وزارة الخزانة الأمريكية بعض العقوبات المفروضة على السودان. ووقع أوباما أمرًا تنفيذيًا بإلغاء مجموعة واسعة من العقوبات بشكل دائم تهدف إلى ضمان عدم تراجع السودان عن تحسين الجهود لمكافحة التطرف الإرهابي. في غضون ذلك، سمحت وزارة الخزانة للأمريكيين بالقيام بأعمال تجارية في السودان وتصدير المنتجات إلى هناك، ورفعت التجميد عن أصول السودان في الولايات المتحدة.
وجاء هذا الإعلان بعد أكثر من عام من المحادثات الأمريكية السودانية لتعزيز التعاون في خمسة مجالات تثير قلق الولايات المتحدة، وهي: مكافحة الإرهاب، ووصول جماعات الإغاثة، وإنهاء الصراع في دارفور، والقضاء على الملاذات الآمنة لمتمردي جنوب السودان، ومحاربة “جيش الرب للمقاومة” (منظمة إرهابية في أوغندا). لا تزال بعض العقوبات الأمريكية المرتبطة بتصنيف السودان “دولة راعية للإرهاب” سارية، بما في ذلك حظر مبيعات الأسلحة والقيود المفروضة على المساعدات الأمريكية، وكذلك لا تزال العقوبات المتعلقة بدارفور سارية المفعول.
التقارب والتطبيع: قامت إدارة الرئيس دونالد ترامب (2017–2021) بتمديد تعليق “أوباما” للعقوبات على السودان، وبعد ذلك في أكتوبر 2017، رفع الحظر التجاري الذي دام عقدين، وفتح الطريق أمام الأفراد والشركات الأمريكية للتعامل مع نظرائهم السودانيين لأول مرة منذ زمن طويل. وشهدت العلاقات في أعقاب الإطاحة بنظام البشير في أبريل 2019 مرحلة جديدة؛ فقد أعلنت واشنطن تأييدها ودعمها للتغيير الذي حدث في البلاد، وتوجت تلك العلاقة بالبدء في إجراءات شطب السودان من قائمة الإرهاب والتي جاءت كورقة تكتيكية ربطها ترامب بمسألة إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل.
دعم التحول الديمقراطي: مارست إدارة جو بايدن (2021–) تحركًا عاجلًا باتجاه الخرطوم؛ لدعم الفترة الانتقالية وعملية التحول الديمقراطي، والتأكيد على أن أي تغيير في المعادلة السياسية الراهنة من شأنه أن يحرم السودان من دعم الولايات المتحدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي الذي يُعد بالتأكيد عرقلة عن عودة السودان إلى الاندماج في المجتمع الدولي، فضلًا عن حرمان السودان من دعم الكونجرس الأمريكي. وعندما اتخذ الجيش قرارات أكتوبر 2021 والتي تضمنت حل الحكومة، أدانت واشنطن هذه القرارات، وجمدت على الفور حوالي (700) مليون دولار من المساعدات غير الإنسانية، وسحبت دعمها لتخفيف الديون البالغ (50) مليار دولار الذي كانت الخرطوم تسعى إليه من الدائنين الدوليين.
أدوات واشنطن للتعامل مع الأزمة السودانية
تعاملت إدارة الرئيس بايدن وفريق الأمن القومي الأمريكي مع أزمة السودان على مرحلتين: الأولى كانت قبل تصاعد الأحداث في 15 أبريل من خلال الدعم والموافقة على الاتفاق السياسي الإطاري، في خطوة ستؤدي إلى تأسيس سلطة مدنية انتقالية تعمل على إنهاء أزمة البلاد. وخلال هذه الفترة كان التعامل الأمريكي مع الملف السوداني في إطار طبيعي، ويركز على ترتيبات متعلقة بـ: العدالة الانتقالية، والحكم المدني الديمقراطي، والمساءلة، وإصلاحات قطاع الأمن، وتقديم المساعدات الإنسانية.
والمرحلة الثانية هي في الفترة من 15 أبريل الماضي وحتى الآن، وتتعامل إدارة بايدن في هذه المرحلة باعتبار أن التطورات في السودان تمثل أزمة طارئة تتعلق بمصالح أمريكية، وتم التعامل مع الأزمة في هذا الإطار عبر عدة مستويات، شملت:
المستوى العسكري: بعد أن أعلنت واشنطن في بداية اندلاع القتال أنها لن تجلي رعاياها من السودان -في مؤشر على قدرتها على وقف إطلاق النار سريعًا والعودة إلى المفاوضات- قال الرئيس بايدن إن الجيش الأمريكي أجلى موظفين بالحكومة الأمريكية من العاصمة الخرطوم وأن واشنطن علقت العمليات في سفارتها هناك في ظل استمرار القتال. وركزت واشنطن في هذا المستوى على إدارة وتنفيذ عمليات إجلاء عسكرية سريعة من الخرطوم لرعاياها، والتأكيد على أن واشنطن لا تنوي إرسال أي قوات إلى السودان. وتمت إدارة هذا المستوى من قِبل “البنتاجون” الذي وفر الطائرات الأمريكية المسيرة التي ظلت تراقب طرق الإجلاء البرية لعدة أيام على طول نحو 800 كيلو متر إلى بورتسودان.
المستوى السياسي وركز على مجموعة من الأدوات:
الوساطة بين شقي الأزمة: تزامنًا مع طرح عدد من الوساطات لحل أزمة السودان، فإن موقف واشنطن من الصراع لا يميل إلى الدخول في ساحات دامية؛ إذ ينحصر موقفها على دعم مواقف وقوى دون الدخول المباشر في حرب بجنودها وأسلحتها. وطرحت الإدارة الأمريكية مقاربتها اعتمادًا على ثقل سياسي واستراتيجي، وتحسبًا لانفجار الموقف الأمني في أي لحظة، حيث تمضي التقييمات الأمنية والاستخباراتية بأن التوصل إلى تهدئة شاملة لن يكون سهلًا أو مطروحًا في المدى القصير.
وأعلنت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ست مرات التوصل إلى هدنة لوقف إطلاق النار. ومع ذلك، تتصاعد المعركة بين الأطراف المتحاربة دون توقف، مما يشير إلى أن هذه الجهود ليس لها تأثير أو قدرة كبيرة في الواقع، بسبب عدم انخراطها وتنسيقها مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأخرى المشاركة في الموقف. بالإضافة إلى تردد طرفي الصراع في إجراء محادثات سلام جادة لاعتقادهما أنهما قادران على الفوز في ساحة المعركة.
الهدف الأمريكي في مسارات التحرك الراهن هو استمرار طرح الوساطة عبر خط تدريجي يقوم على التهدئة أولًا، والعمل وفق هدن متتالية قبل التوصل إلى وقف تدريجي ومرحلي لإطلاق النار، خاصة أن التوقع باستمرار العمل العسكري والمواجهات الثنائية لا يزال قائمًا، ويمكن أن يكون مطروحًا في المدى القصير لحين التوصل إلى نقطة توازن.
وركزت الوساطة الأمريكية على التوصل إلى وقف إطلاق نار تكتيكي، مع تأكيد استئناف الخيار المدني لنظام الحكم وبناء التوافقات في شأن ما قد يجري من تطورات ميدانية قد تمس الاستقرار في القرن الأفريقي ودول حوض النيل، وقد تؤدي إلى مزيد من المواجهات التي قد تعصف، حال استمرارها، بالمصالح الكبرى للولايات المتحدة، ولحلفائها ولشركائها في المنطقة بأكملها.
بالإضافة إلى ذلك، قاد وزير الخارجية أنتوني بلينكن بالتنسيق مع مستشار الأمن القومي جاك ساليفان وبالتنسيق مع الاستخبارات المركزية مشاورات مع عدة أطراف إقليمية ودولية بشأن الوضع في السودان، وأكد وجود اتفاق على ضرورة وقف الأعمال القتالية فورًا والعودة إلى طاولة الحوار. واتجهت واشنطن كذلك إلى التنسيق المباشر مع الأمم المتحدة من جانب ومصر والسعودية من جانب آخر لطرح مقاربة للوساطة المباشرة عبر دبلوماسية الهاتف. ورغم كل هذا، لم يسفر أي من الجهود السابقة عن نجاح ملحوظ، وهو ما يزعج الولايات المتحدة التي تخشى من أن استمرار القتال لأمد بعيد ستكون له تأثيرات سلبية متعددة داخل السودان وخارجه.
تعاون المؤسسات الأمريكية: فقد كان البيت الأبيض على اتصال بالقادة العسكريين في السودان لحثهم على إنهاء العمليات القتالية فورًا، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان. أما وزارة الخارجية الأمريكية فقد أنشأت فريق عمل معنيًا بالنزاع العسكري في السودان للإشراف على تخطيط الوزارة وإدارتها واللوجستيات المتعلقة بالأحداث في السودان. ودعا مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى وقف فوري لإطلاق النار دون شروط. ودخل الكونجرس على خط المواقف الأمريكية من خلال إدان قادة لجنتي الخارجية في مجلسي الشيوخ والنواب العنف، ودعوتهم إلى وقف فوري لأعمال القتال، ودعوة إدارة “بايدن” إلى اتخاذ خطوات فورية لمعاقبة المنخرطين في الصراع.
فرض العقوبات: أصدر “بايدن” أمرًا تنفيذيًا يسمح بفرض عقوبات على بعض الأشخاص الذين يزعزعون استقرار السودان ويقوضون هدف التحول الديمقراطي، وفرض عقوبات على الأفراد أو الكيانات التي قررت وزارة الخارجية أنها شاركت أو حاولت الانخراط في أعمال تهدد السلام أو الأمن أو الاستقرار في السودان، عن طريق تقويض تشكيل أو تشغيل حكومة انتقالية مدنية. ويجيز الأمر فرض عقوبات على أولئك الذين يفرضون رقابة على حرية التعبير أو يشاركون في الفساد أو يشاركون في انتهاكات لحقوق الإنسان أو يعرقلون أنشطة بعثات الأمم المتحدة. ويسمح الأمر التنفيذي لمستشار الأمن القومي للبيت الأبيض بتنسيق المساعدة الدولية لدعم حكومة انتقالية مدنية في السودان.
تهديد المصالح الأمريكية في السودان
تتبلور مخاوف الولايات المتحدة من الأزمة السودانية في:
دور السودان في دعم موسكو: إن قدرة السودان على دعم المجهود الحربي لموسكو ستجعل الولايات المتحدة قلقة من أن تكتسب الدعم السريع اليد العليا في النزاع الحالي، ومد روسيا بالذهب السوداني الذي يمول تكاليف حرب موسكو في أوكرانيا. ولكن في ظل استعداد الطرفين المتحاربين استغلال مناجم الذهب مقابل المساعدة العسكرية من موسكو، وحسم النزاع فإن النتيجة الأفضل للولايات المتحدة دعم المكون المدني بعيدًا عن الحكم العسكري تمامًا.
وتشير التقديرات أن قوات فاجنر تستغل السودان لتمويل حربها في أوكرانيا، حيث تنفق هناك شهريا 100 مليون دولار؛ وذلك من خلال الاستثمار في مناجم الذهب بالتعاون مع قائد الدعم السريع حميدتي. وأعربت الولايات المتحدة عن قلقها من أن يفاقم دور مجموعة فاجنر الروسية النزاع في السودان، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الكيني: “نشعر بقلق بالغ لوجود مجموعة بريجوزين، مجموعة فاجنر، في السودان”.
بالإضافة إلى ذلك، عززت موسكو من تعاونها مع السودان؛ ففي نوفمبر 2020، أصدر الرئيس فلاديمير بوتين تعليمات إلى وزارة الدفاع الروسية بالدخول في اتفاق مدته 25 عامًا مع السلطات السودانية لإنشاء قاعدة بحرية روسية جديدة في بورتسودان تستضيف حوالي 300 جندي روسي. جاء ذلك بعد أن وقعت موسكو والخرطوم اتفاقية تعاون عسكري في عام 2019 لمدة سبع سنوات تسمح بزيارات السفن الحربية والطائرات الروسية، فضلًا عن تبادل المعلومات والخبرات العسكرية والسياسية، وفتح مكتب تمثيلي لوزارة الدفاع الروسية للتفاعل مع نظيرتها السودانية.
النفوذ الصيني: المصالح الصينية في السودان قد تلعب دورًا في ترك الولايات المتحدة على الهامش أثناء فترة التحولات التي تشهدها السودان، فقد أدركت بكين منذ مدة طويلة الأهمية السياسية والعسكرية والاقتصادية للسودان ضمن إطار أوسع لاغتنام الفرص لتوسيع نفوذها عبر القارة الأفريقية. وأصبح توغل النفوذ الصيني الاقتصادي في السودان مصدر قلق متزايد لصانعي السياسة الأمريكيين؛ فمن عام 2011 إلى عام 2018 ، منحت بكين السودان قروضًا تقدر بنحو 143 مليون دولار واستثمرت في مشاريع مثل: إنشاء خطوط أنابيب النفط السودانية، وجسور النيل، ومصانع النسيج، وخطوط السكك الحديدية.
تداعيات الأزمة على مكافحة الإرهاب: لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لواشنطن هو تأثير السودان غير المستقر على المنطقة. في السنوات الأخيرة، استفادت الولايات المتحدة من العلاقة الدافئة مع قادة السودان، وخاصة من خلال التعاون في مكافحة الإرهاب. وتخشى إدارة “بايدن” من عدم الاستقرار في السودان الذي يوفر نوعًا من الظروف التي قد تزدهر فيها الجماعات الإرهابية، مثل حركة الشباب، أو أن الوضع قد يؤدي إلى أزمة لاجئين على حدود السودان، خاصة في إثيوبيا وجنوب السودان وهي دول تحافظ على اتفاقيات سلام هشة. علاوة على ذلك، فإن السودان مليء بعدد لا يحصى من الجماعات المسلحة والمليشيات الأخرى، والتي يمكن لأي منها أو جميعها أن تراهن على أي من طرفي الصراع، مما يحول الحرب ذات الجانبين إلى حرب شاملة أكثر تعقيدًا للجميع، لا سيما في المناطق النائية.
تداعيات الأزمة على الجوار السوداني: عدم الاستقرار في السودان يعني عدم استقرار المنطقة، وقد يكون جنوب السودان، الذي انفصل عن السودان بعد عقود من الحرب الأهلية، أول المتضررين؛ إذ إن جنوب السودان الغارق في الحرب الأهلية والفساد منذ استقلاله عن السودان في عام 2011 يعتمد على حقول النفط التي توفر 90% من عائداته، ولا يمكن تصدير النفط إلا عبر خط أنابيب يمر عبر السودان إلى البحر الأحمر، ما يعني أن انتاج النفط والتجارة مع السودان يمكن أن يتضررا كثيرًا.
وكذلك يعد نفاذ السودان إلى البحر الأحمر أساسيًا للتجارة والتعاون الأمني الاستراتيجي على السواء، علمًا بأن السواحل السودانية تشكل حدودًا لدول مهمة في القرن الأفريقي تشمل إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي واليمن والسعودية، وهي منطقة تغرقها حاليًا المشاكل والتعقيدات الأمنية الماثلة والمحتملة. وكلها مخاطر تهدد المصالح الأمريكية. فضلًا عن ذلك، يمكن لنفاذ السودان إلى مضيق عدن والممر الحيوي لباب المندب وللتبادلات والتجارة الدولية عبر مضيق هرمز، حيث تتنامى التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، فيمكن للسودان أن يوفر مركزًا استراتيجيا مهمًا للولايات المتحدة.
أزمة إنسانية إقليمية: إن طول أمد الحرب، سينجم عنه كارثة إنسانية وإنمائية في منطقة تعاني من الجفاف وعدم الاستقرار، مما يجهد ميزانيات المساعدات الدولية والأمريكية ويزيد من أوجه الضعف والقصور في دول القرن الأفريقي. تكشف التقديرات، أن ثلث سكان السودان، أي أكثر من 15 مليون شخص، يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. ويقدر عدد المشردين داخليا بـ 3.7 مليون سوداني ويعتمدون إلى حد كبير على المساعدات الإنسانية، التي توقف الكثير منها بسبب العنف. وهناك ملايين آخرون معرضون للخطر، مع تقويض استراتيجيات قدرة المجتمع على الصمود بسبب الدمار الذي يحدث الآن.
ختامًا، على الرغم من أن الأزمة السودانية هي في المقام الأول صراع على السلطة، إلا أنها متعددة الأوجه وتزداد تعقيدًا بسبب تاريخ السودان مع النفوذ الخارجي والاهتمام المتزايد بالمنطقة من قبل القوى الإقليمية والعالمية. والهدن المتتالية التي توسطت فيها الولايات المتحدة، انهارت، وتواصلت المعارك بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع في مختلف أنحاء البلاد، ما يزيد التكهنات حول قدرة الولايات المتحدة على وقف المعارك قبل تحولها إلى حرب أهلية واسعة النطاق، تطال آثارها الدول المجاورة والقارة الأفريقية بأسرها.
وعليه يجب أن يزداد تعاون واشنطن مع الدول المؤثرة في الصراع لإقناع طرفي النزاع بالتوقف عن القتال، ويتم التحقق من ذلك من قبل مراقبي الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وأن تطلب إدارة “بايدن” تعهدًا من طرفي الصراع بدعم العدالة الانتقالية. وذلك بالتوازي مع دعم عملية تقييد وصول السلاح للجماعات المسلحة، والتركيز على المهام الإنسانية، ما سيؤدي إلى استقرار الأوضاع على المدى الطويل، وهو الأمر الذي فشلت فيه الولايات المتحدة في محاولاتها السابقة لدعم الاستقرار في السودان والدفع نحو حقبة جديدة من الديمقراطية.