تركيا

“حُلم ما بعد أردوغان”: كيف ترى أوروبا الانتخابات التركية؟

يترقب العالم بشغف الحدث الأبرز لهذا العام، وتحديدًا في الرابع عشر من مايو الجاري، ألا وهو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي تتشكل لتكون منعطفًا حاسمًا في بلد أصبح محوريًا للتطورات الجيوسياسية في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، والتي ستشعل المنافسة أيضًا بين الرئيس الحالي “رجب طيب أردوغان”، والذي تفضله موسكو العدو اللدود للغرب الذي يفضل أن يفوز منافسه “كمال كليجدار أوغلو”، ما يضع أعضاء الاتحاد الأوروبي تحت ضغط التفكير في عواقب الفوز والهزيمة ومستقبل العلاقات التركية الأوروبية التي تدهورت بشكل حاد خلال العقد الماضي.

ما وراء توتر العلاقات التركية الغربية

تجدر الإشارة إلى أن تركيا هي واحدة من أكبر جيران الاتحاد الأوروبي وأكثرها أهمية من الناحية الاستراتيجية، وهي عضو في الناتو ومرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. ومنذ تولى أردوغان السلطة في انتخابات 2003 ممثلًا عن حزبه القومي المحافظ “حزب العدالة والتنمية”، عُرف الرئيس التركي بمواقفه المؤيدة للغرب في حدود المصالح المشتركة، لكنها تراجعت بظهور مواقف أخرى حازمة تجاه السياسة الخارجية كشفت عن العداء الذي يقوض العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ولعل آخرها هو منعه انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي بعد اتهامه ستوكهولم بأنها توفر ملاذًا آمنًا للجمعيات الكردية المسلحة “حزب العمل الكردستاني” المصنفة إرهابيًا في تركيا، ليصبح أردوغان هو الشوكة في حلق الغرب لتوسيع الحلف المخصص للدفاع عنه.

وكانت أنقرة مستاءة أيضًا من الشراكة بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك وحدات حماية الشعب التي تقاتل تنظيم داعش في سوريا؛ إذ تنظر تركيا إلى وحدات حماية الشعب بوصفها ذراعًا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه واشنطن كذلك بالمناسبة جماعة إرهابية.

ومن قبل هذه الأزمة وإذا نظرنا إلى محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، نجد أن العلاقات التركية الغربية حينها بدأت تدخل في حالة من الجمود، فقد اتهمت أنقرة حينها “فتح الله جولن”، وهو حليف سابق لأردوغان يعيش في المنفى بالولايات المتحدة، بأنه العقل المدبر للانقلاب، ونفى “جولن” الاتهامات وسط حملة قمع شنتها الحكومة التركية على حركته، وامتدت لتشمل 80 ألف شخص.

ولكن أردوغان رأى أن ذلك غير كافٍ، واعتبر أن الغرب لا يدعمه بشكل كاف في أعقاب الانقلاب الذي لم ينجح، بل ويتهم بلاده بتدهور الحريات الديمقراطية، وهو الملف الذي سيسهم في استمرار التوترات ما لم يحسنه أردوغان إذا تم انتخابه مجددًا، خاصة وأن الوضع الحالي يسمح لأردوغان بالحكم بمرسوم، ويقلل من سلطات البرلمان، ويعزز الرقابة التنفيذية على المحاكم والخدمة المدنية. 

ولعل كل هذه المشاحنات كانت السبب وراء تقويض عملية انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي؛ فقد أدت إلى توقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد والتي بدأت في عام 2005، هذا بجانب الفشل في حل العداء المتجدد الناتج عن النزاع على الحدود البحرية لبحر إيجة عقب اكتشاف احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط عام 2010، وفرض الاتحاد عقوبات عليها نتيجة لذلك، فضلًا عن النزاع حول تقسيم قبرص خاصة وأن تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعترف بالجمهورية التركية لشمال قبرص التي نصبت نفسها بنفسها وتأسست بعد حرب عام 1974 التي قسمت الجزيرة.

ولكن هذا لا يمنع أبدًا أن العواصم الأوروبية ستراقب عن كثب وبعناية شديدة الانتخابات القادمة، وكيف سيكون رد فعل أردوغان في حالة الهزيمة، ومصير الانتقال السلمي للسلطة، وتيقنهم بأن حتى إعادة انتخابه لن تغير طريقة تعامله مع السياسة الخارجية، وأنه سيظل مترأسًا لعملية انجراف تركيا عن الغرب. ولكن بافتراض تحقق سيناريو فوز أردوغان، نحن هنا أمام عدة احتمالات؛ فإما بقاء مطلق في السلطة بنفس السياسات القديمة الاستبدادية من وجهة نظر الغرب، أو بقاء في السلطة بشكل مقيد إلى حد ما من قبل برلمان تسيطر عليه المعارضة.

إذا ظل أردوغان في السلطة بعد الانتخابات، فإن احتمالية حدوث اضطرابات في العلاقات مع أوروبا ستكون عالية؛ فبادئ ذي بدء، يمكن أن تكون الانتخابات نفسها مصدرًا رئيسًا للخلاف إذا كان هناك دليل على تزوير الأصوات على نطاق واسع من قبل الحكومة، أو إذا خسر أردوغان لكنه رفض المغادرة وشجع أنصاره على سيناريو العنف. وحتى لو لم يحدث ذلك وفاز في انتخابات نزيهة، تشير طريقته الحالية التي لا يرى الغرب أنها ستتغير إلى أنها ستكون مصدرًا رئيسًا لاستمرار الخلاف بين أنقرة وبروكسل على القضايا السابق ذكرها.

وعلى كلٍ، سيكون التحدي الرئيس للاتحاد إذا ظل أردوغان هو “الحفاظ على التعاون في القضايا ذات الاهتمام السياسي المشترك”، مع الحرص على أن يتم توجيه تركيا بعيدًا عن السياسات التي تقوض مصالح الاتحاد، وعدم الاضطرار إلى فرض أي عقوبات من شأنها معاقبة حليف رئيس في الناتو لم يشعل أي صدام عسكري.

ومع ذلك، قد يكون لدى أردوغان سبب لتهدئة التوترات مع الغرب؛ إذ يظل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكثر أهمية لتركيا، والذي يوفر حوافز قوية لها للحفاظ على علاقات لائقة مع أوروبا، وهناك توقعات بأن تكون هناك أيضًا فرصة جيدة لأن يرفع أردوغان حق النقض (الفيتو) عن عضوية السويد في الناتو إذا تيقن أنه لم يعد قادرًا على الاستفادة من عرقلة انضمام ستوكهولم.

العلاقات التركية الروسية تهدد إعادة ضبط العلاقات التركية الغربية

بالنظر إلى العلاقات التركية الروسية، نجد أنها وطيدة للغاية، ففي عام 2015، واجه البلدان أزمة دبلوماسية عندما أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية فوق سوريا، ولكن سرعان ما أنهى اعتذار رسمي من أردوغان عقوبات موسكو الانتقامية، مما أدى إلى تعميق سريع للعلاقات التي نجت بفضل دعم روسيا وتركيا للأطراف المتصارعة في حروب سوريا وليبيا وإقليم ناجورنو قرة باغ.

وبالعودة إلى ما قبل ذلك، وتحديدًا حقبة الحرب الباردة، نجد أن الاتحاد السوفيتي ساعد تركيا في تطوير البنية التحتية للصناعات الثقيلة في السبعينيات بعد أن رفضت الولايات المتحدة طلب تركيا للمساعدة، ولهذا نجد أن موسكو كانت دائمًا “الخيار الثاني” لتركيا حال رفض واشنطن المساعدة، في حين أن موسكو “لم تفوت أبدًا أي فرصة لزعزعة العلاقات بين تركيا والغرب”.

فعلى سبيل المثال، أدى تقارب أردوغان مع روسيا إلى قطيعة كاملة مع واشنطن في عام 2019، عندما وافقت تركيا على شراء نظام صواريخ أرض-جو “إس-400” من روسيا -وهو خط أحمر بالنسبة لأحد أعضاء الناتو- مما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على صناعة الدفاع التركية، واستبعادها من برنامج الطائرات المقاتلة F-35.

وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، دعمت أنقرة سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية، بما في ذلك بيعها لطائرات بيرقدار بدون طيار، ومنعت روسيا من تعزيز أسطولها في البحر الأسود من خلال التذرع باتفاقية مونترو لإغلاق مضيق الدردنيل، فضلًا عن استضافتها مفاوضات السلام وتوسطها في اتفاق في يوليو من العام الماضي لإلغاء حظر صادرات الحبوب الأوكرانية، وكل هذه جهود يقدرها حلفاء أنقرة الغربيون وأشادوا بها. ولكن مع ذلك، لم تفرض تركيا عقوبات اقتصادية على روسيا، بل تعمقت العلاقات الاقتصادية بينهما لدرجة أن اتخذت الشركات الروسية من تركيا واجهة للالتفاف على عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على روسيا، وهو ما أزعج بشدة الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. 

ومن هنا يمكن القول إن “أردوغان” و”بوتين” يستخدمان بعضهما البعض لتحقيق غاياتهما الخاصة؛ فروسيا تنظر إلى “أردوغان” كشخص يمكنهم التعامل معه، وكزعيم يضيق الخناق على قادة الغرب، وهذه أهم ميزة مفضلة لروسيا في سياسة أردوغان الخارجية. وعلى الصعيد الآخر، استفاد “أردوغان” من الدعم الروسي له قبل حملته الانتخابية، من خلال مِنَح المدفوعات المؤجلة على المشتريات التركية من الغاز الطبيعي، لتخفيف –نوعًا ما- الضغوط على البنك المركزي التركي، ولهذا ستظل العلاقات التركية المستمرة مع موسكو تثير قلق الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ولكن السؤال يبقى عالقًا، لو خسر أردوغان معركته الانتخابية، فهل ستخسر روسيا حليفها في الناتو الغربي؟ 

“الاستعداد لعالم ما بعد أردوغان”.. ماذا لو فاز أوغلو بالانتخابات التركية؟

بين الصمت الغربي والإفصاح بشأن دعم الحملات الانتخابية التركية بوضوح، يبدو أن أوروبا والولايات المتحدة سيرحبان بفوز كيليجدار أوغلو، خاصة وأن شعبية “أردوغان” الداخلية قد تلقت ضربة بسبب الحالة الاقتصادية الهشة، وتعرض حكومته لانتقادات لبطء الاستجابة للزلازل الكارثية التي ضربت تركيا في فبراير، حتى مع تعهده بإعادة الإعمار السريع إذا أعيد انتخابه.

ويرى الغرب أن كتلة المعارضة التركية “تحالف الأمة”، التي شكلتها ستة أحزاب سياسية والمتحدة خلف أوغلو زعيم الحلف الجمهوري، هي الأكثر وضوحًا فيما يتعلق بالتغيير الجوهري في السياسة الداخلية والخارجية لتركيا، وتحسين العلاقات مع واشنطن والغرب، حيث وعدت بأنها “ستعزز علاقة التحالف مع الولايات المتحدة على أساس الثقة المتبادلة” إذا فازت في الانتخابات، وتعهد الحلف بالالتزام بإعادة بدء عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية في حل النزاعات، واتباع أحكام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

ولكن حتى إن فاز “أوغلو”، فلا يعني ذلك أن تعميق العلاقات مع الغرب سيكون بهذه السهولة التي تصل إلى انضمام تركيا للكتلة الأوروبية كما تطمح؛ فالأمر سيتطلب الكثير من العمل طويل الأجل، خاصة مع تضاؤل زخم توسع الاتحاد خلال السنوات الأخيرة، والموقف الغربي من تركيا، وفي ظل استمرار وعود “تحالف الأمة” بالحفاظ على موقف تركيا الراسخ بشأن تقسيم قبرص، عازمًا مواصلته تحقيق أهداف حماية الحقوق المكتسبة للجمهورية التركية لشمال قبرص. يبدو أن هذا ما سيشكل عقبة لا شك، حتى وإن استوفت جميع المعايير الأخرى لعضوية الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ملف حقوق الإنسان.

ولكن لا يمكن إنكار أنه بفوز “أوغلو”، ستنخفض التوترات بين تركيا والاتحاد الأوروبي- ولو قليلًا- حيث ستكون تركيا حينها أقل عزلة وستستخدم الدبلوماسية بدلًا من التهديد المستمر بغزو اليونان. ووسط كل هذه القضايا، تجدر الإشارة إلى أن فوز المعارضة قد يسمح بتصديق تركيا على انضمام السويد للناتو، وهو ما سيراه الغرب مكسبًا قصير المدى لكلا الجانبين.

أما عن العلاقات الأمريكية، فبغض النظر عن الفائز في الانتخابات التركية، سيكون هناك حاجة ملحة إلى إعادة ضبط العلاقات المتوترة بين الطرفين، خاصة فيما يتعلق بأزمة شراء نظام الدفاع الجوي الروسي. وبفوز “أوغلو” تحديدًا، قد يكون هناك مجال للتوصل إلى حل؛ فقد أعلن تحالف أنه سيتخذ “مبادرات” لإعادة تركيا إلى برنامج الطائرات المقاتلة F-35، ويمكن حينها أن تضع الولايات المتحدة شروطًا على أي استخدام تركي محتمل لأنظمة S-400.

وعن مصير العلاقات الروسية، قد لا تتغير سياسة تركيا الخارجية تجاهها بالقدر الذي يأمله شركاء أنقرة الغربيون، فلا يزال يتعين على تركيا العمل مع موسكو في سوريا، خاصة وأن سياسة تحالف المعارضة غير واضحة بهذا الشأن، لكن من المحتمل أن تستمر العلاقات مدفوعة بالرغبة في تجنب المزيد من اللاجئين القادمين إلى تركيا، والحاجة إلى احتواء التهديد من حزب العمال الكردستاني، مع الأخذ في الحسبان أهمية التجارة مع روسيا التي لن تتغير، واستمرار اعتماد أنقرة على الطاقة الروسية. 

عمومًا، لا ينبغي أن ترتفع توقعات الأوربيين بأن يعود نجاح مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية بتغيير جذري يعيد العلاقات المتوترة مع أوروبا بسهولة كما كان قبل عهد حزب العدالة والتنمية، خاصة في ظل اختلاف الأوضاع على مدار عشرين عامًا، والتي رسخت بعمق مبدأ انعدام الثقة التركية في الغرب، وتفضيل النجاح خارج الاتحاد الأوروبي. 

خلاصة القول، تحمل الانتخابات التركية في طياتها العديد من المفاجآت، وهذا يثير إما احتمالية إعادة ضبط محتملة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا أو استمرار التوتر، ويجعلنا نترقب الإجابات عن أهم ثلاثة أسئلة: ما مدى اتساع وجوهر أجندة السياسة التي يمكن أن تغير بشكل مستدام زخم واتجاه العلاقات بين أنقرة وبروكسل؟ وهل ستجعل المصالح الفردية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والهياكل السياسية الراسخة في تركيا أي إعادة ضبط حقيقية صعبة؟ وإلى أي مدى ستكون الحكومة التركية المقبلة قادرة فعليًا على تغيير مسار نهج أنقرة الحالي في العلاقات مع موسكو؟

كاتب

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى