ضربة جديدة… قراءة في الإعلان التركي عن مقتل زعيم تنظيم داعش
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 30 أبريل الماضي- خلال مقابلة تلفزيونية مع عدد من القنوات التركية- مقتل زعيم تنظيم داعش الإرهابي أبو الحسين القرشي في عملية للمخابرات التركية في شمال سوريا. مشيرًا إلى أن المخابرات التركية كانت تتعقب الزعيم المقتول منذ وقت طويل حتى تمكنت من استهدافه في إطار عملية نفذتها في سوريا يوم السبت 29 أبريل 2023. ويطرح الإعلان التركي عن مقتل “أبو الحسين القرشي” الزعيم الرابع لتنظيم داعش جملة من التساؤلات حول تفاصيل عملية استهدافه، وما يحمله توقيت تنفيذها من دلالات- بالنظر إلى تزامنه مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقرر عقدها في 14 مايو الجاري- فضلًا عن تداعيات مقتل “أبو الحسين القرشي” على نشاط التنظيم بمفارزه المختلفة خلال الفترة المقبلة.
جهد استخباراتي نوعي
على الرغم من أن الرئيس التركي اكتفى بالإعلان عن مقتل زعيم داعش والتأكيد على جهود دولته في مواصلة حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ولم يستطرد في تفاصيل مقتله، إلا أن ثمة معلومات حول تكتيك تنفيذ عملية الاستهداف يمكن استنباطها من تصريحات بعض مسؤولي الأمن الأتراك، والتي كشفت عن “عملية استخباراتية” استمرت قرابة 6 أشهر وانتهت بتنفيذ مداهمة مدتها 4 ساعات بقيادة المخابرات التركية قرب بلدة جندريس في ريف عفرين شمال غرب حلب؛ حيث اقتحمت القوات الخاصة التركية طريقها عبر سياج محيطي وباب خلفي وجدران مخبئه في مبنى من طابقين، يزعم أن الزعيم المستهدف كان مقيمًا به، وظلت المخابرات التركية تراقبه منذ فترة من خلال عملية سرية تأكدت من خلالها أنه سيترك موقعه قريبًا. وأثناء المداهمة طلبت القوات التركية من أبو الحسين القرشي الاستسلام بعد أن طوقت المنطقة لكنه رفض وقام بتفجير سترته الانتحارية تجنبًا لإلقاء القبض عليه، ولم تسفر العملية عن وقوع إصابات في صفوف القوات التركية أو المدنيين.
ويتبين من التفاصيل سالفة الذكر أن عملية استهداف أبو الحسين القرشي كانت استخباراتية بالدرجة الأولى، وهو التكتيك الشائع الذي دأبت القوى الدولية بشكل عام وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على استخدامه في استهداف قادة التنظيمات الإرهابية؛ إذ إن عملية استهدافهم يمكن تقييمها كـ “أهداف عالية القيمة” تحتاج في تنفيذها إلى جهود استخباراتية نوعية ودقيقة كي تؤتي أُكلها، بالنظر إلى أن التنظيمات الإرهابية تحرص على اتخاذ كافة إجراءات الحماية لضمان الحفاظ على حياة وسلامة زعيمها ومحاولة إبعاده عن المناطق التي باتت مكشوفة أمام جهود مكافحة الإرهاب، ومنها على سبيل المثال محاولة إخفاء أية معلومات حول هويته ومكان إقامته، واعتماد قادة التنظيم في مراسلاتهم على الأساليب التقليدية بدلًا من الهواتف ووسائل الاتصالات الحديثة لضمان عدم وجود بصمة إلكترونية تستخدمها القوات الأمنية ضدهم. وعليه، تصبح عملية الوصول إلى هؤلاء القادة مسألة في غاية التعقيد يصعب تنفيذها من دون جهد استخباراتي دقيق.
وتشير التفاصيل المذكورة أيضًا إلى أن عملية استهداف أبو الحسين القرشي أدت إلى إقدامه على تفجير نفسه بسترته الناسفة سيرًا على نهج أسلافه من قادة التنظيم- أبو بكر البغدادي ومن بعده أبو إبراهيم القرشي وأبو الحسين القرشي- الذين قاموا بتفجير أنفسهم ومن برفقتهم قبل إتمام عملية القبض عليهم. وبشكل عام يلجأ قادة التنظيمات الإرهابية عمومًا وتنظيم داعش خصوصًا إلى تفجير أنفسهم في اللحظات الأخيرة تجنبًا لوقوعهم في قبضة القوات الأمنية، وهو ما يضمن عدم حصول الأخيرة على آية معلومات عن التنظيم إذا ما نجحت في اعتقال الزعيم، فضلًا عن أن سردية قيام زعيم التنظيم بتفجير نفسه مقابل القبض عليه أو قتله من قبل قوات الأمن، يكون لها مردود إيجابي يوظفه التنظيم بعد ذلك في جهوده الدعائية كنوع من أنواع الترميم النفسي لعناصره التي قد ترتبك معنويًا لمقتل الزعيم.
دلالات عديدة
تنطوي عملية استهداف الزعيم الرابع لتنظيم داعش أبو الحسين القرشي على جملة من الدلالات المرتبطة بالسياق والتوقيت الذي نفذت فيه عملية الاستهداف، والخسائر المتوالية التي تكبدها التنظيم في صفوفه القيادية مؤخرًا، ويمكن الوقوف على أبرز هذه الدلالات فيما يلي:
• تحقيق مكاسب انتخابية: لا يخلو الإعلان التركي عن مقتل زعيم تنظيم داعش أبو الحسين القرشي من الأبعاد والرسائل السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ فداخليًا يسعى الرئيس أردوغان إلى توظيف هذه العملية كانتصار كبير لإدارته على مستوى مكافحة الإرهاب داخل وخارج الجغرافيا التركية، لتحقيق مكاسب انتخابية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المرتقبة في 14 من مايو الجاري، والتي يواجه فيها منافسة شرسة مع مرشح المعارضة كمال كيليجدار أوغلو. وكانت السلطات التركية قد نفذت عدة عمليات ضد تنظيم داعش خلال الأشهر القليلة الماضية، تمكنت خلالها من تعقب والقبض على عدد من العناصر الموجودة على الأراضي التركية والمشتبه انتماءها للتنظيم.
وخارجيًا، تبعث تركيا برسائل إلى القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بأنها لاتزال تمثل رقمًا مهمًا في جهود محاربة التنظيمات الإرهابية ولا سيما تنظيم داعش، وهو ما يمكن قراءته في ثنايا الإعلان التركي عن استهداف أبو الحسين القرشي؛ حيث أكد الرئيس أردوغان على أن قوات بلاده تواصل مطاردة الإرهابيين داخل وخارج البلاد، وتلحق بهم ضربات موجعة للغاية، وإنه لا توجد دولة في حلف الناتو تتحمل مثل هذا العبء باستثناء تركيا. ويأتي هذا بعد قيام عدد من الدول الأوروبية في فبراير الماضي بإغلاق قنصلياتها في تركيا وإطلاق تحذيرات لرعاياها من خطورة وقوع هجمات إرهابية وسط إسطنبول يمكن أن تستهدف كنائس أو معابد يهودية أو بعثات دبلوماسية وغيرها من الأماكن التي يقطنها عدد كبير من الأجانب.
• تسارع وتيرة استهداف قادة داعش: تكشف عملية استهداف الزعيم الرابع لتنظيم داعش أبو الحسين القرشي- بعد نحو 5 أشهر من تنصيبه زعيمًا للتنظيم في 30 نوفمبر 2022 خلفًا لمقتل سلفه أبو الحسن الهاشمي القرشي- عن تناقص المدة الزمنية بين استهداف زعيم وآخر من زعماء التنظيم بمرور الوقت؛ لتصبح عامين (بين استهداف أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019 وخلفه أبو إبراهيم القرشي في فبراير 2022) ثم تسعة أشهر (بين استهداف أبو إبراهيم القرشي وخلفه أبو الحسن القرشي) وصولًا إلى قرابة 5 أشهر فقط بين (استهداف أبو الحسن القرشي والزعيم الأخير أبو الحسين القرشي). وهو ما يشي بأن عملية تعقب واستهداف قادة التنظيم من قبل الأجهزة الأمنية باتت أسرع من السابق، وأن مساحة الاختراق الأمني في صفوف التنظيم يتسع مداها بمرور الوقت وأن قدرته على ضمان معايير السلامة للحفاظ على حياة زعمائه لأطول فترة تراجعت بشكل كبير أمام العمليات الاستخباراتية النوعية التي تستهدف التنظيم بين الفينة والأخرى.
• فشل داعش في تأمين الزعيم: تعكس عملية استهداف زعيم داعش أبو الحسين القرشي عدم قدرة التنظيم على اتخاذ التدابير الكافية للحيلولة دون سهولة الكشف عن موقع زعيمه أمام قوات مكافحة الإرهاب. كذلك تعكس أيضًا فشل نهج “التعتيم” الذي انتهجه التنظيم مؤخرًا في عدم الإفصاح عن هوية الزعيم الجديد، وإخفاء آية معلومات عنه حتى بات يوصف في الدوائر البحثية والإعلامية المعنية بملف الإرهاب بـ “الزعيم المجهول لداعش”. على سبيل المثال إبان تسمية التنظيم للزعيم الأخير المقتول اكتفى بذكر اسمه الحركي المضاف إليه لقب “القرشي” والإثناء عليه ببعض مرادفات المدح الجهادية دونما الإفصاح عن هويته، لكن رغم ذلك نجحت الجهود الاستخباراتية في تعقبه واستهدافه. واستخدم التنظيم أيضًا نفس النهج في التكتيم عن الزعيم الثالث أبو الحسن القرشي إلا أن تلك الاستراتيجية فشلت أيضًا في إطالة فترة زعامته لأكثر من 9 شهور وتم استهدافه في منتصف أكتوبر 2022 في درعا بسوريا.
• زيادة الضربات التي يتلقاها التنظيم: تتصل عملية استهداف الزعيم الرابع لتنظيم داعش بسلسلة من الضربات التي تلقاها التنظيم مؤخرًا على المستوى القيادي؛ فخلال الربع الأول من العام الجاري نفذت الولايات المتحدة الأمريكية 44 عملية بارزة استهدفت كبار عناصر تنظيم داعش بزيادة قدرها 15% عن عام 2022. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: مقتل قيادي بارز بالتنظيم يدعى حمزة الحمصي في 17 فبراير الماضي خلال عملية أمريكية مشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في غارة بمروحية شرق سوريا. ومقتل أحد كبار قادة التنظيم ويدعى خالد الجبوري في 4 أبريل وقد كان مسؤولًا عن التخطيط لهجمات داعش في أوروبا وقام بتطوير الهيكل القيادي للتنظيم. وفي 17 من الشهر ذاته استهدف “عبد الهادي محمود الحاج علي” وهو أحد كبار قادة التنظيم بسوريا والمسؤول عن التخطيط لعملياته في الشرق الأوسط في غارة جوية شمال سوريا.
تداعيات محتملة
تنطوي عملية مقتل الزعيم الرابع لداعش على جملة من الارتدادات السلبية على التنظيم تتعلق بانخفاض معنويات عناصره جراء الوتيرة المتصاعدة الملحوظة في استهداف قادته من الصفين الأول والثاني، خصوصًا مع كون هؤلاء الزعماء مجهولي الهوية وتمت عملية استهدافهم بسرعة حتى قبل ممارستهم لأدوار قيادية مؤثرة يمكنهم من خلالها كسب مكانة معنوية ومصداقية كبيرة في صفوف التنظيم. وربما يشهد التنظيم أيضًا حالة من الاستنفار الداخلي بين صفوفه، لا سيما أن عمليات الاستهداف المتوالية لقادته تعتمد بالأساس على معلومات استخباراتية نوعية دقيقة، وهو ما قد يدفع التنظيم إلى إجراء مراجعة داخلية في صفوفه لكشف المتعاونين مع الأجهزة الأمنية للإدلاء بهذه المعلومات وتصفيتهم سواء من عناصره أو من المدنيين.
لكن على الرغم من أن خسارة داعش لزعمائه قد تؤثر سلبًا على قدراته التشغيلية ومنظومته القيادية ومعنويات مكونه البشري، إلا أن هذا التأثير قد يستمر على المدى القصير فقط بالنظر إلى أن داعش يتمتع بخبرة ومرونة كافية في التعاطي مع مقتل قادته، ولديه قدرة كبيرة على التكيف مع المتغيرات الميدانية، ويمتلك أدوات إعلامية تمكنه من تجاوز الأثر النفسي لمقتل زعمائه، من خلال صياغة سرديات بطولية حول بطولات وتضحيات وكاريزمية زعمائه ونكرانهم لذاتهم والإثناء عليهم بعبارات المدح والشهادة، بما يسهم في عمليات الترميم النفسي لعناصر التنظيم وجذب وتجنيد عناصر جديدة.
ومن المرجح أن تأخذ عمليات التنظيم في الفترة المقبلة منحىً تصاعديًا على مستوى أفرعه المختلفة كنوع من أنواع الثأر لمقتل زعمائه، وكذلك من المتوقع أن يلجأ التنظيم في المرحلة المقبلة في ضوء الضربات المتوالية التي يتلقاها في معاقله التقليدية بسوريا والعراق إلى التفكير في نقل مقر قيادة المركزية إلى مناطق جغرافية أخرى، وربما تكون وجهته في ذلك أفغانستان أو منطقة الساحل الإفريقي التي باتت مسرحًا لوجيستيًا رئيسًا لنشاط التنظيم.
ختامًا، تأتي عملية الاستهداف التركي للزعيم الرابع لتنظيم داعش أبو الحسين القرشي، بالتزامن مع تصاعد الضربات التي استهدفت تحييد العديد من قادة وعناصر التنظيم في سوريا والعراق مؤخرًا بفعل جهود مكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من أن هذه الضربات تنطوي على ارتدادات سلبية قد تؤثر على قدرات التنظيم، إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال زوال خطره وانهياره في ضوء ما يتمتع به داعش من خبرات تمكنه من تجاوز مرحلة مقتل زعيمه والاستمرار في نشاطه الميداني عبر مفارزه المختلفة.