الأزمة الأوكرانية

الرحيل عن “باخموت”: مناورة “بريجوزين” مع اقتراب ذكرى يوم النصر الروسي

بعبارة “هؤلاء هُم الرجال الذين لقوا حتفهم اليوم، دماؤهم مازالت طازجة”، استهل “يفجيني بريجوزين” مؤسس مجموعة فاجنر شبه العسكرية حديثه في مقطع الفيديو ذي الطابع الثوري الذي تم بثه، ليلة 5 مايو، وتداولته وسائل التواصل عنه. وكان “بريجوزين”، يظهر في الفيديو ممسكًا في يده مصباحًا يدويًا ويلوح بأصابعه مشيرًا إلى عدد كبير من الجثث مُلقى على الأرض ويقدر بنحو 20 جثة، ثم يصيح بعبارات منها ما هو شائن موجهًا حديثه لوزير الدفاع الروسي، “سيرجي شويجو”، إلى جانب المسؤولين الآخرين عن مأساته، ويقول: “هؤلاء هُم آباء البعض وأبناء البعض، وأولئك المتسكعون الذين يمتنعون عن إعطائنا ذخيرة.. سيأكلون أحشاءهم في الجحيم”. 

واستطرد “بريجوزين” فيما بعد متحدثًا عما يُسمى بـ “جوع الذخائر” مؤكدًا أن قواته تفتقر إلى الذخائر بنسبة تصل إلى 70%، وأن نسبة القتلى بين صفوفه كانت لتصبح أقل بنسبة خمس مرات لو كان قد تم منحه ما يرغب فيه من الذخائر. وأعلن “بريجوزين” اعتزامه الانسحاب من باخموت يوم 10 مايو بسبب ما أطلق عليه “جوع القذائف” وأعلن أن مرتزقته سيذهبون إلى الخطوط الخلفية للعق جروحهم. وأشار إلى أن استمرار قواته في القتال في ظل هذه الظروف يعني موتًا محققًا. وفي الوقت نفسه، اعترف أن خسائر قواته تتزايد في تطور ملحوظ، ووعد بأن جنوده سيتسمرون في أماكنهم وصولًا إلى يوم 9 تكريمًا للنصر الروسي ومن ثم سينحسبون تاركين المدينة للجيش الروسي.

ورغم أن وجود أنباء عن خلافات بين “بريجوزين” و”شويجو”، كان أمرًا شائعًا في الصحافة الدولية خلال الآونة الأخيرة، فإن مقطع الفيديو المشتعل بدا وكأنه يحمل دلالات كثيرة ترتبط بسيناريوهات تطور الحرب في باخموت تحديدًا من جهة، وفي المشهد العام للمعارك من جهة أخرى، بشكل يسترعي الاهتمام والتوقف للنظر والبحث في احتمالات متعددة على غرار أن يكون ذلك المقطع مناورة أو جزءًا من خدع الحرب التي تم تصميمها بعناية، أو أن يتضح أنه مقطع حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.

تسلسل الأحداث

بعد نشر مقطع الفيديو الذي مثّل شرارة انطلاق لموجة من تصريحاته الغاضبة، استرسل “بريجوزين” في سيل تصريحاته التي كان من ضمنها قوله، في 6 مايو، إن باخموت لم تكن ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للاتحاد الروسي، وأن الاستيلاء عليها لم يكن هدفًا رئيسًا لموسكو. مؤكدًا أن الاستيلاء على كل من “كراماتورسك ودورزكيفكا وكوستيانتينيفكا” له أهمية استراتيجية تثبت تقدم الجيش الروسي، وكان الهدف من العملية برمتها استفزاز “زيلينسكي” لإرسال أكبر قدر ممكن من قواته في باخموت. 

وقدم “بريجوزين”، في اليوم نفسه مذكرة إلى وزير الدفاع الروسي يطلب فيها إعفاء قواته التي تشارك حاليًا في باخموت من العمل؛ بسبب نقص الذخيرة مع حاجتهم إلى الراحة وإعادة الإمدادات. فيما علق الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، من جانبه، على أنباء انسحاب فاجنر، في 6 مايو، قائلًا إن كتيبة “أخمات” كانت مستعدة للتقدم باتجاه باخموت، وزعم أن عدة وحدات قد تحركت بالفعل نحو الجبهة.

وعلى الجانب الأوكراني، لم تثر تصريحات “بريجوزين” أي شيء في نفوس الأوكرانيين سوى القلق حيث فسر المحللون الاوكرانيون التصريحات بأنها جزء من تلاعب وابتزاز يقوم به “بريجوزين” للقيادة الروسية من جهة وللجمهور الروسي من جهة أخرى للحصول على تأثير سياسي أكبر. وهو الرأي الذي أكدته، نائبة وزير الدفاع الأوكراني، “جانا ماليار”، في 5 مايو، والتي رأت أن روسيا لن تتخلى أبدًا عن فكرة وضع باخموت تحت سيطرتها. 

فيما صرح “سيرجي شيريفي”، المتحدث الرسمي باسم المجموعة الشرقية التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية، أن تصريحات “بريجوزين” لا علاقة لها بما يسمى بـ”مجاعة القذائف”، مشيرًا إلى أنه ليس من المعقول أن يتحدث “بريجوزين” عن معاناته من مجاعة قذائف في نفس اليوم الذي تتعرض له المنطقة الواقعة في باخموت ومحيطها فقط لقصف مدفعي مكثف من مختلف الأنواع وصل إلى 520 مرة في اليوم. وعزا تصريحات “بريجوزين” إلى سببين: أولاهما نفاد قوة فاجنر خاصة بعد مقتل 137 شخصًا في الأيام الأخيرة وإصابة 202 آخرين، وثانيها المواجهة الداخلية في القيادة العسكرية؛ فوفقًا له كان “بريجوزين” يحاول جذب الانتباه منذ شهر بمثل هذه “التصريحات الفظيعة” لأنه يدرك أنه لن يكون قادرًا بعد الآن على تبرير الإخفاقات واستحالة تحقيق الالتزام العسكري.

ورغم توالي التصريحات النارية التي لم يبخل بها “بريجوزين” على وزير الدفاع ومعاونيه، تغير المشهد برمته بين ليلة وضحاها؛ وفي 7 مايو، أعلن “بريجوزين” تخليه عن مخططاته بالانسحاب من باخموت بعد أن تلقى وعودًا بأنه سيحصل على كل الأسلحة اللازمة للسيطرة على المدينة المدمرة؛ إذ بثت قناته على “التليجرام” رسالة صوتية قال من خلالها: “لقد حصلنا على وعد بالذخيرة والأسلحة بقدر ما نحتاجه لمواصلة عمليات أخرى، لقد وُعدنا بالحصول على كل ما هو ضروري لمنع العدو من قطع الإمدادات عنها”. 

نظرة تحليلية

يوحي المشهد العام بين أيدينا بعدد من الدلالات والاحتمالات التي من الممكن اختزالها في النقاط التالية: 

1 – انطوى فيديو “بريجوزين” الثائر على العديد من العبارات التي نتوقف فيها عند الطريقة التي شرح بها التسلسل الزمني لمشاركة شركته في الحرب، وكان من أبرز عباراته: “في الخريف، تحصنت شركة فاجنر على القطاع الشرقي من الجبهة من أجل إنقاذ الجيش الذي فر بشكل مخجل من إيزيوم وكراسني ليمان”. واستطرد في تقديم شرح مفصل ومؤرخ لأزمته وصراعه مع الجيش الروسي وقياداته العليا. 

وقبيل الخوض في إعطاء تحليلات لنوايا “بريجوزين” من وراء هذا الفيديو نجد أنه من الضروري التعقيب على أن ما فعله “بريجوزين” هو شيء يُفسر في العقيدة العسكرية لأي دولة بوجه عام ولقائد استخباراتي من الطراز الأول مثل “بوتين” بوجه خاص بوصفه إفشاء سرية معلومات حساسة عن سير العملية العسكرية الروسية خلال الحرب. ذلك إلى جانب مخالفته للقانون الاتحادي الروسي الصادر بتاريخ 4 مارس 2022 بشأن التعديل على المادتين رقم 31 و151 من القانون الجنائي الروسي المعروف في وسائل الإعلام الروسية باسم “قانون الرقابة العسكرية”، وهو قانون يحظر نشر معلومات كاذبة عن القوات المسلحة الروسية، فضلًا عن تحديده للإجراءات العامة التي تهدف إلى تشويه سمعة الجيش وتحركات هيئات الدولة في الخارج والذي تصل فيه العقوبة إلى 15 عامًا بالسجن. 

وعليه، من الممكن أن يتم تفسير سلوك “بريجوزين” المبالغ فيه لإظهار العداء تجاه قائد الجيش الروسي، بأنه إما جزء من مناورة أو خدعة أكبر منها تحدث بعِلم من “بوتين”، أو -حتى وفي حال عُدّ عملًا حقيقيًا نابعًا من إرادة “بريجوزين”- فإنه من المؤكد خطوة تستجوب العقاب المؤجل من “بوتين” ولكن في وقتٍ لاحق نظرًا لحساسية الموقف والتوقيت الحرج الذي تمر به الحرب الروسية في انتظار الهجوم الأوكراني المضاد المنتظر.

2 – من اللافت للانتباه أيضًا اللقطات التي تُظهر جثث قوات “فاجنر”، جنبًا إلى جنب مع كلمات “بريجوزين” التي وصف فيها القيادة العسكرية الرسمية الروسية بالتخاذل. وجميعها أفكار تعمل على تحطيم معنويات جميع العناصر العسكرية المنتمية للصفوف الروسية، وهو ما يتنافى بطبيعة الحال مع محتوى جميع خطابات “بوتين” السابقة في هذا السياق، والتي كان يؤكد من خلالها مرارًا وتكرارًا تماسك قوات الجيش مع المتطوعين، ويثنى على المتطوعين في مرات متكررة، مؤكدًا لشعبه أن الجيش الروسي لا يحارب وحده بل يحارب أيضًا إلى جانبه كل المتطوعين من جميع أنحاء العالم من هؤلاء المعترضين على السلوك الغربي المتطفل. 

3 – بمتابعة وسائل الإعلام والصحافة الروسية التي تناولت الأنباء عن محتوى مقطع الفيديو الخاص بـ “بريجوزين”، تبين أن الفيديو حصل على تغطية جيدة وتم تناول محتواه بشكل محايد؛ بمعنى أن أغلب الصحف الروسية تناولت محتواه بدون إضافة تعليق بالإدانة أو بالتأييد، وهو شيء يثير الشبهة ويضفي المزيد من الاحتمالات حول إمكانية أن يكون هذا المشهد برمته عبارة عن تمثيلية متعمدة تم ترتيبها بعناية لتحقيق أغراضٍ ما. 

وذلك نظرًا إلى أن الإعلام الروسي بوجه عام يعتمد على قاعدة الصوت الواحد والرأي الواحد، وغني عن الذكر بالتأكيد أن هذا هو صوت الكرملين نفسه وما يتصل به من أصداء. فالسؤال هنا، لو كان ما أعلنه “بريجوزين” بالفعل يتنافى مع إرادة القائد الأكبر في الكرملين لما حصل مقطعه على هذا الكم من التغطية! وهو الأمر الذي من الممكن أن يفسر أيضًا على نحو تهيئة وإعداد الرأي العام الداخلي الروسي بإمكانية وجود خسائر أو انسحابات روسية جديدة، وأن هذه الانسحابات -حال وقوعها مستقبلًا- ستكون معلقة على كاهل القيادات الروسية وليس القائد الأكبر “بوتين”. 

وختامًا، بغض النظر عما إذا كانت تصرفات “بريجوزين” الأخيرة من الممكن إدراجها في إطار خدعة أم لا، فإنه، وبالنظر للمشهد العام، توجد هناك احتمالات متزايدة تؤكد وقوع خلافات جمة بين قطبي القيادة العسكرية العليا في روسيا “شويجو” و”بريجوزين”، لاسيما وإن كان الرجل –بريجوزين- صاحب علاقات معقدة تعج بالخلافات مع أعمدة أخرى من النخب الروسية المقربة كذلك لبوتين؛ على غرار خلافاته السابقة مع “سيرجيي كيريينكو” النائب الأول للإدارة الرئاسية، و”يوري كوفالتشوك”، المالك الرئيس لبنك روسيا في مدينة سانت بطرسبرج.  

غير أن ثمة معضلة بالنسبة لخلافه الأكثر شهرة مع “شويجو”، تتمثل في تبرير خروج هذه الخلافات للعلن بهذه الطريقة الفجة التي تلقي بالمزيد من الشكوك على نوايا الكرملين الحقيقية مستقبلًا تجاه واحد من قطبي القيادة العسكرية العليا في روسيا اليوم، “شويجو” أو “بريجوزين”، وهو الشيء الذي سيكون الوقت وحده كفيلًا بالبرهنة عليه. 

أما بالنسبة لمسألة قبول روسيا بالهزيمة في باخموت من عدمها، فإنه من المستبعد الذهاب إلى هذا الاحتمال، خاصة مع اقتراب يوم النصر 9 مايو، وهو اليوم الذي سيكون “بوتين” فيه بحاجة إلى الخروج لإعلان نصرٍ ما، أي نصر، خاصة وأن معارك باخموت الضارية استمرت لفترة تكاد تقترب من العام، بجانب أنه لم يعد يبقى منها سوى 2.42 كيلو متر مربع من المدينة، وهي مساحة ضئيلة ولن تمثل مشكلة كبيرة أمام الروس –الشيشانيين أو مرتزقة فاجنر أو حتى الجيش النظامي- لذلك من المتوقع أن يتم التعجيل بالاستيلاء التام على باخموت قبل حلول يوم النصر.

لكن عدا ذلك، يظل الرهان الأكبر في مسرح العمليات العسكرية خلال الفترة المقبلة معلقًا على حجم وطبيعة الاتجاه الذي ستقوم فيه القوات الأوكرانية بتنفيذ الهجوم المضاد واسع النطاق الذي كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة؛ إذ أن نصر باخموت سيكون مجرد شيء رمزي يحتاجه القائد للحديث أمام شعبه ليس أكثر، لكنه بكل تأكيد لن يكون ذا طبيعة حاسمة. 

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى