
نموذج “كليوباترا”: قراءة في الأبعاد السياسية لتزييف التاريخ
لا يمكن حصر الأمثلة التي توضح سلطة التاريخ على السياسة، ومن هنا برزت أهمية التلاعب بما هو متفق عليه في التاريخ لتحقيق مكاسب سياسية. وربما تعد الدراما التسجيلية والتاريخية هي الوسيلة الأبرز في عصرنا الحالي “لجمهرة المعلومة التاريخية”، أو بعبارة أخرى أحد “الموصلات التاريخية” الأكثر تأثيرًا. بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك باعتبار الدراما التاريخية والتسجيلية والوثائقيات أصبحت مرجعًا تاريخيًا أو نوعًا يواكب العصر من التأريخ والتدوين.
ونظرًا لهذه الأهمية المطلقة، جاءت ردود الفعل مستنكرة ومنددة بما أعلنت عنه ” شبكة نتفليكس” من إنتاج فيلم -لا تزال تصر على أنه “وثائقي”- عن الملكة “كليوباترا السابعة”. وتحت عنوان عريض، يمكن القول إن المنصة استندت في معلوماتها على ما يمكن وصفه “بتأريخ الجدات”؛ فالعرض الترويجي للسلسلة كان كافيًا لإثارة الجدل في مصر؛ إذ تظهر فيه مؤرخة وهي تقول: “أتذكر أن جدتي قالت لي: لا يهمني ما يقولونه لك في المدرسة.. كليوباترا كانت سوداء”، ليطرح تساؤلًا بديهيًا حول كيف يمكن لمنصة كبرى أن تستند إلى مثل هذه التصريحات في سردها لتاريخ ملوك وملكات مصر، في حين تتجاهل مصادر تاريخية موثوقة. وللإجابة على هذا التساؤل سنطرح مجموعة من الزوايا على النحو التالي:
–وثائقيات التزوير: حسب دراسة للمستشار المصري الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة المصري فإنه حتى القضاء الأمريكي يطعن في مصداقية شبكة ” نتفليكس”. ووفقًا لدراسة أمريكية، على صانعي الأفلام الوثائقية الأمريكية توخى الحقائق دون زيف ومراعاة المعايير الأخلاقية، حيث يشير الدكتور محمد خفاجي إلى أنه في أحدث دراسة أمريكية لاستطلاع الرأي بين منتجي ومخرجي الأفلام الوثائقية في الولايات المتحدة الأمريكية قامت بها الدكتورة “بيتر جايزى” أستاذة القانون بكلية الحقوق بالجامعة الأمريكية بواشنطن بالمشاركة مع الدكتور “بات أوفديرهيد ” مدير مركز التأثير الإعلامي والاجتماعي بالجامعة؛ تم إخراج خريطة للتحديات الأخلاقية المتصورة التي حددها صانعو الأفلام الوثائقية -المخرجون والمنتجون- في الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة مهنتهم من خلال نتائج 45 مقابلة مطولة.
وانتهت الدراسة إلى أنه في مجال صانعي الأفلام الوثائقية خاصة الشخصيات التاريخية في الحضارات المختلفة، يجب أن يتم تطوير مدونة أخلاقية وثائقية تتمتع بالمصداقية باحتوائها على مجموعة واسعة من الممارسات التي تعتمد على فهم مشترك للقيم والمعايير والممارسات الإبداعية.
ووفقًا للدكتور محمد خفاجي أيضًا، فإن الصعوبات التي يواجهها صناع الأفلام الوثائقية ليست مبررًا للقيام بتغيير الحقيقة من حيث استعراض صفات جوهرية غير حقيقية لشخصية تاريخية أضافت للإنسانية، أو تزييف الأحداث بما يعرض الحضارة لطمس الهوية. خصوصًا أنه حسب خفاجي – فإن عددًا من صناع الأفلام الوثائقية الأمريكيين أشاروا إلى أن كليوباترا كفيلم “عمل يقوم على سوء النية المباشرة والخداع الصريح، بعدم قول الحقيقة كاملة وإخفائها”، وذلك بالاستناد إلى دوافع سياسية؛ إذ يطغى الضرر الذي يقع على أصحاب الحضارة التي تم تزويرها على حقوق البث ويتعداه بمراحل تصيب الأجيال السابقة والمعاصرة واللاحقة.
ومن هنا، فإنه يجب مقاضاة الشبكة الأمريكية بوصفها تمارس التنميط والتلاعب العرقي لأخر ملكات مصر كليوباترا. وليست هذه السابقة الوحيدة لمحاولة تلاعبها بالتاريخ المصري والترويج لادعاءات “الأفروسنتريك”، فهناك فيلم آخر يعرض على المنصة تحت عنوان “you people” تظهر فيه البطلة وهي سوداء البشرة طوال الفيلم وهي ترتدي رموزًا فرعونية من مصر القديمة؛ في محاولة للإيحاء بأنها ترتدي رموز جدودها، مما يعد مدخلًا آخر لتنميط طرح أن مصر القديمة كانت حضارة سوداء.

وفي عام 2018، أعلنت نفس المنصة عبر قنواتها الرسمية عن إذاعة فيلم “الملاك” والذي يجسد قصة المصري أشرف مروان، سكرتير الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وزوج منى جمال عبد الناصر ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. حيث صنف عدد كبير من المهتمين بالقضية أن الفيلم يأتي في إطار سعي إسرائيل المستمر إلى تشويه صورة رجل الأعمال المصري، والذي توفى في لندن والذي قام بمد جهاز المخابرات المصرية بمعلومات مهمة عن إسرائيل والتي ساعدت في انتصار أكتوبر المجيد، وبالمناسبة فقد كان الفيلم من إنتاج إسرائيل والولايات المتحدة.

ردود علمية على “الأفروسينترك”
-شهادة المؤرخ اليوناني” سترابو”: ولدت كليوباترا في أوائل عام 69 قبل الميلاد، وهي من سلالة من الملوك المصريين البطالمة، ومن أسرة أسسها جدها بطليموس الأول رفيق الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. وكان بطليموس من أصل يوناني مقدوني نشأ في البلاط الملكي لوالد الإسكندر في مقدونيا –وهي الجزء الشمالي من شبه الجزيرة اليونانية- وأثبت نفسه ملكًا لمصر في السنوات التي تلت وفاة الإسكندر، وانحدر نسبها من ملك بطلمى لآخر حتى وصل إلى والدها، لذلك فإن كليوباترا يونانية مقدونية خالصة.
و”سترابو” هو عالم جغرافيا وفيلسوف ومؤرخ يوناني، عاش في آسيا الصغرى خلال الفترة الانتقالية للجمهورية الرومانية إلى الإمبراطورية الرومانية، أطلق العرب عليه اسم “اسطرابون”. كان من أهم أحد المصادر المعاصرة القليلة لحياة كليوباترا. وقد كتب “سترابو” أن جميع زوجات بطليومس الثاني عشر والد كليوبترا كن من “النساء ذوات المكانة العالية المهمة”، مما يستبعد احتمال وجود أي محظيات تكون أصولهن أفريقية، ويؤكد أن تكون والدة كليوباترا من أصل يوناني مقدوني تقليدي.
وحسب ” سترابو” أيضًا فإن “كليوباترا” كانت الحاكم الوحيد في سلالتها الذي عرف، بالإضافة إلى لغتها الأم اليونانية، اللغة المصرية، ولذلك دلالته العميقة الدالة على ارتباط وثيق بمصر ولغتها وليس أية لغة أفريقية أخرى. ومن ناحية أخرى، فإن الفن اليوناني والروماني والعملات المعدنية جاء خاليًا من أي شيء بخلاف العرق المقدوني الممتزج بالحضارة المصرية، على الرغم من أن الفنانين في ذلك الوقت كانوا قادرين تمامًا على إظهار مجموعات عرقية أخرى، وهو ما لم يحدث في حالة الملكة كليوباترا.
وفي هذا تفنيد لطرح آخر مفاده أن تاريخ مصر القديمة إضافة إلى التاريخين اليوناني والروماني لم يتم تناقلها عن طريق “النقل الشفهي” لأنه منهج حضارات أخرى في التدوين والتأريخ، ولا شك ان النقل الشفهي يتعرض للكثير من المؤثرات التي يعد من أحد أوجهها ارتفاع نسبة حدوث خطأ في النقل بالاعتماد على: شخص الراوي وأيديولوجيته، والفترة التي عاش فيها، ومدى قرب الناقل من الذي نقل عنه. ولكننا لا نجد هذا في الحضارات المصرية واليونانية والرومانية التي اعتمدت على الكتابة بشكل كبير، ومن ثم فنسبة الخطأ في أن تكون كليوباترا ليست “مقدونية” هي نسبة توازي في احتماليتها ” الصفر”.
بل إن المصري القديم حرص حتى على تدوين حياته اليومية، فعند الاتجاه شمالًا في وادي الملوك بمدينة الأقصر عند جبانة طيبة نجد هناك مدينة متكاملة تسمي دير المدينة، والحقيقة أن المدينة لم يكن لها اسم سابقًا في العصر الفرعوني، ولكن سميت بهذا الاسم حديثًا. والمدينة هي عبارة عن مجتمع متكامل من بيوت فرعونية ومقابر مزخرفة والعشرات من التفاصيل الصغيرة المبهرة، وقد بنيت لتكون مقر إقامة متكامل للعمال والفنانين الذين أبدعوا وادي الملوك.

وقد اكتشف بها بئر قديمة جفت مياهها بالطبع فتحولت إلى مساحة لإلقاء الرسائل حيث وجد فيها الفخار المنقوش عليه تفاصيل الحياة اليومية، فقد تم اكتشاف أكثر من 5000 “شقافة” من الفخار نقشت عليها: خطابات عائلية، ومشاكل نفسيه، ورسومات، وحسابات، بل نصوص لمحاكمات، وتفاصيل المداولات. وهكذا عرف العالم كل شيء عن طبيعة الحياة الاجتماعية للمواطن المصري، مما يفصل في أن التدوين كان طريقة التأريخ في مصر القديمة. ولفظ “شقافة” معروف لدى الأثريين المصريين بأنه قطع الفخار “المكسورة”، ونجد مثيلًا لها في مقابر “كوم الشقافة” في الإسكندرية حيث أطلق على الموقع هذا الاسم نظرًا لأنه قد عثر فيه على العديد من قطع الفخار المكسورة.
-دراسات الأنثروبولوجي: أشارت د. سامية الميرغني مدير عام مركز البحوث وصيانة الآثار بالمجلس الأعلى للآثار سابقًا إلى أن دراسات الأنثروبولوجيا البيولوجية ودراسات الحامض النووي التي أُجريت على المومياوات والعظام البشرية المصرية القديمة أكدت أن المصريين لا يحملون ملامح أفارقة جنوب الصحراء سواء في: شكل الجمجمة، وعرض الوجنات، والأنف واتساعه، وتقدم الفك العلوي، ولا في الشكل الظاهري للشعر، ونسب أعضاء الجسد، وطول القامة، وتوزيع وكثافة شعر الجسد. وأن ما نراه من تنوع كبير بين ملامح المصريين يرجع إلى قدم إعمار هذه الأرض واستقرار سكانها وإذابتهم لكل غريب داخل بوتقتهم.
هذا علاوة على أن جميع النقوش والتماثيل التي خلفها لنا المصريون القدماء على المعابد والمقابر صورت المصريين بملامح أقرب ما يكون بالمصريين المعاصرين من حيث لون العين والشعر والبشرة ودرجة نعومة وكثافة الشعر لدى الرجال والنساء، وحتى لون الجلد ووجود نسبة من العيون الملونة، وهي مصورة في بعض تماثيل الدولة القديمة. وحتي حين تغيرت بعض تقنيات التحنيط في الأسرة 21 وبدأوا في طلاء جلد المومياء ليبدو كما في حياتها الأولى، قاموا بطلاء جلد الرجل باللون الطوبي، وطلاء جلد المرأة باللون الأصفر الفاتح، الأمر الذي يؤكد أن ما تم رسمه وتأكيده على الجدران هو حقيقة سجلها المصري القديم عن نفسه.
فيما قالت د. كاثرينا مارتينيز رئيس بعثة الدومينيكان والعاملة بمعبد تابوزيريس ماجنا بغرب بمدينة الإسكندرية أن أصول “كليوباترا” تظهر بجلاء في التمثال النصفي المصنوع من الرخام والمحفوظ في متحف برلين من القرن الأول قبل الميلاد، وتظهر فيه وهي ترتدي إكليلًا ملكيًا وذات عينين لوزيتين، والأنف مسحوب، والشفاه رقيقة، بالإضافة إلى تمثال نصفي آخر محفوظ في الفاتيكان يظهرها بملامح ناعمة، ورأس من الرخام، تظهر فيها وهي ترتدي غطاء الرأس، فضلًا عن عدد من العملات التي تظهرها بنفس الهيئة.

وحسب دراسة منشورة على موقع سي إن إن، فإنه عند تحليل العينات التي تمتد على مدى ألف عام، كان الباحثون يهدفون إلى الوصول إلى الاختلافات الجينية مقارنة بالمصريين اليوم. ووجدوا أن مجموعة العينات أظهرت ارتباطًا قويًا بمجموعة من السكان غير “الأفارقة” القدامى المتمركزين في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وفي نفس السياق، يتشارك المصريون المعاصرون 8٪ فقط من الجينوم الخاص بهم مع سكان أفريقيا الوسطى. ووفقًا للدراسة التي نُشرت في مجلة “Nature Communications” لم يحدث تدفق الجينات الواقعة جنوب الصحراء الكبرى إلا خلال الـ1500 عام الماضية. يمكن أن يعزى ذلك إلى تجارة الرقيق عبر الصحراء، أو فقط من التجارة العادية طويلة المسافة بين المنطقتين؛ إذ يشير الباحثون إلى أن تحسن التنقل على نهر النيل خلال هذه الفترة أدى إلى زيادة التجارة مع الداخل.
وبالنظر إلى أنه قد تم غزو مصر على مدى العصور القديمة عدة مرات، فقد أراد الباحثون معرفة ما إذا كانت هذه الموجات المستمرة من الغزاة تسببت في أي تغييرات جينية كبيرة في السكان بمرور الوقت. وحول ذلك، قال رئيس المجموعة البحثية في معهد “ماكس بلانك” في ألمانيا في بيان صحفي: “لم تخضع العوامل الوراثية لمجتمع أبو صير -وهو موقع أثري مصري- لأي تحولات كبيرة خلال الفترة الزمنية التي درسناها والتي تبلغ 1300 عام، مما يشير إلى أن السكان ظلوا غير متأثرين وراثيًا نسبيًا بالفتح والحكم الأجنبي”.
وحسب عالم الآثار يوهانس كراوس -وهو أيضًا من معهد ماكس بلانك-، فقد جمع العلماء أيضًا بيانات عن التاريخ المصري والبيانات الأثرية لشمال أفريقيا؛ لإعطاء اكتشافاتهم مصداقية حيث أرادوا معرفة التغييرات التي حدثت مع مرور الوقت. لمعرفة ذلك، قارنوا جينومات المومياوات بجينوم 100 مصري و125 إثيوبيًا. قال كراوس: “على مدى 1300 عام، نرى استمرارية جينية كاملة للجين المصري”.
التزوير الممنهج لجماعة الأفروسنتريك
يمكننا أن نقسم عمليات تزوير التاريخ لفرعين رئيسين: أولهما تغيير الحقائق التاريخية المثبتة لصالح مجموعة معلومات وأخبار كاذبة تصنع في عقول مدعيها، وثانيهما حجب كامل للحقائق والمعلومات في أحداث معينة ما يسبب تشوهًا في المعلومات المتاحة، فيؤدي بالضرورة إلى قراءة خاطئة للوقائع التاريخية. وتكمن الخطورة في أن من يتحكم في الماضي يستطيع التحكم في المستقبل.
وحسب المحاضر الدولي الدكتور بسام شماع، فإن أسطورة “الأفروسينتريك” لا ترجع في إنشائها إلى عناصر من أصول أفريقية فقط، وإنما من عدة دول تتربص بالحضارة المصرية. وحسب “شماع”، فإن ظاهرة “الأفروسنتريك” بدأت بتنظيم الكثير من الأفارقة “السود” رحلة إلى مدينة أسوان المصرية، حيث استهدفوا الاختلاط بأهلها للبحث عن تاريخ بطلهم الأفريقي “مالكم إكس”، الذي تم تهريبه منذ الصغر من أفريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك تم تغيير اسمه ولم يستدل على أصوله، واعتبر أيقونة الأفارقة السود الذين ظلوا يبحثون عن أصله.
وحسب “شماع” أيضًا، فإنه بسبب بشرة “النوبيين” السمراء اعتقد الأفارقة أنهم ينتمون إلى هذا الأصل، أي الأصل المصري صاحب الحضارات، وبالتالي روجوا زورًا أنهم بالتبعية أصحاب أقدم حضارة عرفها التاريخ. وشدد المؤرخ والمحاضر الدولي على أن “جميع الأدلة والبراهين تثبت أن معتقدات قادة الأفروسنتريك خاطئة شكلًا ومضمونًا”، مشيرًا إلى أن “العلم أثبت أن الجين النوبي يختلف تمامًا عن جين الزنج”. ويمكننا أن نرى هذا التفسير المغلوط مصورًا في الفيديو الموسيقي لمايكل جاكسون عام 1991 لـ “Remember the Time” من ألبومه “Dangerous”، ومن المعروف أن “جاكسون” “كان” ذا بشرة سوداء.

الأبعاد السياسية لتزييف التاريخ
لقد أبهرت الحضارة المصرية القديمة العالم، وقدمت منجزات علمية وفنية وإنسانية يتداعى أمامها الخيال والحقيقة. ولذلك فقد تكررت المحاولات اليائسة والبائسة عبر التاريخ في محاولة لنسب هذه الحضارة لغير أصحابها، وكثرت الألاعيب المسمومة لخلق توجهات سياسية وتمييع حقائق تاريخية معلومة بالضرورة؛ ليس فقط رغبة في الانتساب إلى تلك الحضارة، ولكن أيضا للتعبير عن مطامع دفينة في هذه الأرض، وخلق حقوق لغير المصريين في أرضهم، وهو البعد السياسي الأهم في مسألة العبث بتاريخ الأمم.
وعلى الرغم من أن القارة الأفريقية قد أسهمت إسهامات مهمة في الحضارة الإنسانية فإن محاولة السطو على التاريخ المصري تقلل من هذه الحضارة لأن أصحاب الحضارة لا يسطون على حضارات الآخرين.
وللتدليل على أهمية البعد السياسي كذلك، فإن العالم لا يزال شاهدًا على الأفلام الأمريكية الوثائقية أو الدرامية التي تم إنتاجها حول سقوط الفلوجة إبان الغزو الأمريكي للعراق في 2003، ومن خلال هذه الأفلام عمدت الولايات المتحدة إلى تشويه الوجه الحضاري للعراق واستعراض مقتل أربعة من موظفي شركة الأمن “بلاك ووتر” في الفلوجة. ومؤخرًا، نقل موقع “ذي إنترسبت” الأمريكي عزم وزارة الدفاع الأمريكية تسمية سفينة ستبنيها باسم “يو إس إس الفلوجة”، الأمر الذي أثار تساؤلات لدى الداخل الأمريكي والخارج، لما للمدينة من مدلول تاريخي ومحوري في الغزو الأمريكي للعراق. وهكذا، تتحول الحقيقة من خلال أعمال درامية إلى واحدة من أكبر الخدع البصرية، بما يذكرنا بما سبق أن صرح به وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد -أثناء غزو العراق- بأن المعركة هي معركة العقل والوجدان و”الصورة”.
ومن هنا فإن علاقة الأعمال الفنية بالتاريخ ليست بريئة دائمًا، بل ليس تجاوزًا القول إن الأغراض السياسية والصراعات على السلطة بكل أنواعها تؤثر على مضامين الأعمال التاريخية، وتوجه الأعمال الفنية عما حدث في الماضي لما يخدم أهدافها في الحاضر.
في الرد على الادعاءات
ردًا على ادعاءات “نتفليكس”، أعلنت قناة الوثائقية عقد جلسات عمل مع عدد المتخصصين في التاريخ والآثار والأنثروبولوجي؛ للتحضير لإنتاج فيلم وثائقي عن الملكة كليوباترا السابعة Cleopatra VII، ابنة بطليموس الثاني عشر، المعروفة باسم كليوباترا، آخر ملوك الأسرة البطلمية التي حكمت مصر في أعقاب وفاة الإسكندر الأكبر؛ لضمان توثيق الحقائق والتصدي لجميع محاولات التشويه والتحريف للشخصيات التاريخية المصرية.
وسيسهم هذا الفيلم الوثائقي المنتظر إنتاجه في توثيق تاريخ الملكة كليوباترا بصورة صادقة للأجيال الحالية والقادمة بمصر والوطن العربي والعالم أجمع، فضلًا عن أنه سيمثل خطوة مهمة للترويج للسياحة الداخلية والخارجية، سواء للآثار الرومانية أو غيرها من الآثار المصرية المتنوعة. ومن المفترض أن يُترجم الفيلم للغات متعددة؛ حتى يصل للجمهور المستهدف.
خلاصة القول، إن كليوباترا شخصية أيقونية بالنسبة لمصر، وهنا تكمن الخطورة المتعلقة باللعب على وتر هويتها أو تغييرها لأنها تعني الطعن في التاريخ المصري ككل من خلال الأعمال الوثائقية والدرامية التي يتم توظيفها كوسيلة من وسائل القوة الناعمة؛ بهدف خلق تأثيرات سياسية. وربما تكون هذه الحملة المستعرة ردًا على إحياء الهوية المصرية عن طريق أحداث تركت أثرًا كبيرًا مثل موكب المومياوات الملكية.
ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن البشرة البيضاء في مواجهة البشرة السمراء، ولا علاقة للأمر بأي فكر عنصري، فالمصريون مقسمون بين ألوان البشرة المختلفة والعيون الملونة والسوداء، ولكن أفريقيا ليست سوداء فقط، وإلا فأين “شمال أفريقيا”. هذا بجانب أن الحضارة المصرية هي “حضارة المصريين”.
على أي حال، ربما يكون للفيلم مردود إيجابي؛ فالدراما -وخصوصًا التاريخية- منها تحث المشاهد على القراءة عن الموضوع بعد انتهائها، وهو ما يعني أن حتى من يشاهد كليوباترا “الزائفة” سيدفعه فضوله إلى القراءة عن هذه الملكة العظيمة، وهنا سيعرف الحقيقية التي سجلتها كتب التاريخ الموثوق وليس الأهواء والجماعات العنصرية. ومن المفهوم أنه من المستهدف من الفيلم منطق إثارة الجدل التاريخي بهدف جني الأرباح، إلا أنه لا ينبغي تسطيح هذه المحاولات والتهاون في التعامل معها.