مصر

الطعام المصري وعاداته.. تراث وطني بحاجة إلى التسجيل

ترتبط مختلف المناسبات الاجتماعية والدينية في مصر في أذهان المصريين على مدار التاريخ بتناول العديد من أصناف الطعام الذي لا تكتمل فرحة أي مناسبة منها الا بوجودها. لذلك تعد مصر واحدة من أشهر دول العالمين العربي والإسلامي التي تعقد أحداثًا اجتماعية متكاملة، احتفالًا بذكرى معينة أو احتفاءً بشخصية عامة معروفة، وتقرنها بصنع أصناف من المطبخ الشعبي. 

لكن على الرغم من تلك الشهرة الواسعة للمناسبات المصرية وما يرتبط بها من أصناف الطعام الشعبي، فإنه لا يوجد على قائمة التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” أي من تلك الأطعمة المميزة، وهو ما يؤدي إلى تأخر مصر في تسجيل جزء من تراثها العريق.  

قائمة دولية زاخرة

دُشنت قائمة التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونيسكو عام 2008 كنتاج لما توافقت عليه الدول الأعضاء بمنظمة اليونيسكو بعد التوقيع على اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي للعام 2003. ولقد نجحت تلك القائمة على مدار أربعة عشر عامًا (من 2008 إلى 2022) في تسجيل ما مجموعه 676 نشاطًا ثقافيًا تنتمي إلى 140 دولة حول العالم. وتتنوع تلك الأنشطة ما بين: الصناعات اليدوية والتقليدية، والعروض الفلكلورية والموسيقات الشعبية، و الفنون القديمة مثل الكتابة والنقش والرسم، بخلاف ممارسة المنافسات الرياضية التي تنتمي إلى حضارات محلية سابقة.

وتسيطر الأنشطة المتعلقة بتحضير الأطعمة الشعبية على ما عدده 76 عنوانًا من إجمالي الأنشطة والفنون المدرجة في قائمة التراث الثقافي غير المادي، وهو ما تمثل نسبته 11% من مجمل محتويات القائمة. وتنتمي تلك الأنشطة المتعلقة بالأطعمة الشعبية لـ62 دولة موزعة على أقاليم العالم الخمس التي تعتمدها المنظمة في تقسيمها الجيوسياسي للكرة الأرضية، وهي: إقليم أفريقيا، وإقليم الدول العربية، وإقليم آسيا والمحيط الهادي، وإقليم أوروبا وأمريكا الشمالية، وإقليم أمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي.

ولقد تلاحظ نجاح 11 دولة من المنطقة العربية في تسجيل أنشطة محلية متعلقة بتحضير وتناول ألوان مختلفة من الطعام الشعبي على قائمة اليونيسكو للتراث غير المادي –انظر الجدول التالي- مثل الأردن الذي استطاع في عام 2022 أن يسجل عملية إعداد وتناول طبق “المنسِف” الوطني الذي يعد ضيفًا أساسيًا على الموائد الأردنية بمختلف المناسبات الاجتماعية والدينية، وسوريا التي سجلت في 2019 عملية استخدام الورود الدمشقية في تصنيع عدد من المواد الغذائية ذات الشهرة المحلية والدولية كالمربي والشربات ومياه الورد، وقام العراق بتسجيل عمليات الضيافة التي ينفذها المتطوعون سنويًا لإطعام الآلاف من زوار أربعينية الإمام الحسين بكربلاء.

الأنشطة المدرجة على قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي، والمتعلقة بتحضير وتناول الأطعمة الشعبية بالدول العربية… المصدر: الموقع الرسمي لمنظمة اليونيسكو

ويُلاحظ من الجدول أعلاه حرص بعض الدول العربية على تكوين تكتلات هدفها تسجيل التراث المشترك المتعلق بصناعة وتناول الطعام أو المشروبات، وأولها تكتل دول المغرب العربي للعام 2020 والذي ضم: تونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا؛ بهدف تسجيل عمليات صناعة وتناول طبق الكسكس الذي لا يُستغنى عنه تقريبًا في كافة المناسبات الاحتفالية بتلك الدول الأربع. وثانيها تكتل دول الخليج العربي للعام 2015 والمكون من: السعودية، والإمارات، وعمان، وقطر؛ بهدف تسجيل عملية صناعة وتقديم وتناول القهوة العربية الشهيرة. فيما عمدت المغرب إلى الدخول ضمن تكتل آخر غير عربي يضم ستة دول أوروبية متوسطية لتسجيل العادات الغذائية التقليدية لسكان دول البحر المتوسط. 

تراث وطني غني

تمتلك مصر العشرات من الأطباق المحلية الخالصة والتي لا تقوم أي دولة أخرى بإعدادها. ويتميز كل إقليم جغرافي داخل البلاد، سواء في: الدلتا، أو الوادي والصعيد، أو الصحراوان الشرقية والغربية، أو شبه جزيرة سيناء؛ بتحضير أصناف محددة من الأطعمة، لكن على الرغم من هذا التنوع الغذائي، فإن المراجع البحثية التي توثق وتسرد تاريخ تطور الطعام المصري بصورة شاملة لا يزال عددها محدودًا.

هذا ما يدفع الباحثين إلى الاعتماد على المصادر التاريخية الواردة من مختلف العصور، وذلك للوقوف على مسيرة صناعة وتناول الطعام في مصر، بداية من جدران المعابد والمقابر التي تمتلئ بصور من الطعام الذي اعتاد المصري القديم على تناوله، مرورًا بكتب الرحالة العرب الذين زاروا مصر ووصفوا مأكل ومشرب أهلها إبان العصر الاسلامي، وصولًا إلى العصرين الحديث والمعاصر واللذين تميزا بوجود حالة من التسجيل الكثيف لعادات الشعب المصري اليومية، ومنها ظروف صنع وتناول الأغذية. 

وبالنظر إلى العصرين الحديث والمعاصر، نجد أن المجتمع المصري طور من عاداته المرتبطة بعمليات إعداد وتناول الطعام حتى أصبحت جزءًا من تقاليده الاجتماعية، ونجد من الأمثلة في هذا الصدد موائد الإفطار الرمضانية التي تتميز باحتوائها على عدد من الأطعمة والمشروبات المقترنة بالشهر الفضيل مثل: “القطائف”، و”الكنافة”، و”قمر الدين”، و”التمر الهندي”.

بالإضافة إلى ذلك، جرى استخدام الموائد الرمضانية في صورة من صور التضامن المجتمعي عن طريق تحويلها إلى مسمى “موائد الرحمن”، والتي تركز جهدها على تحضير وتقديم وجبة الإفطار الرمضاني للمحتاجين وعابري السبيل، وهو ما يتلاقى مع الهدف الثاني والهدف السادس عشر من اهداف الأمم المتحدة السبعة عشر للاستدامة، وهما الخاصين بالقضاء على الفقر وتحقيق العدالة المجتمعية. 

ونجد أيضًا من التقاليد المجتمعية الشهيرة عملية إعداد وتناول “الكحك” المصري و”البسكويت”، والتي اعتاد الكثير من الأسر المصرية حتى وقت قريب على التعاون فيما بينها أو التشارك مع جيرانها الأقربين لإعداد كميات كبيرة منها، ومن ثَم تناولها خلال فترة الاحتفال بعيد الفطر الإسلامي أو عيد الميلاد المسيحي.

ذلك علاوة على تقليد تناول الأسماك المدخنة والمملحة خلال يوم الاحتفال بعيد شم النسيم الذي يعد واحدًا من أقدم الأعياد في العالم؛ فلقد كان المصريون القدماء أول من احتفلوا به. وبالنظر إلى أهداف الأمم المتحدة للاستدامة، نجد أن هذين التقليدين يتوافقان بشكل كبير مع الهدفين الثاني عشر والسادس عشر، وهما الخاصين بترشيد الاستهلاك وتدعيم السلام والعدل المجتمعي.     

والي جانب الاحتفالات والمناسبات التي ترتبط بتحضير أصناف الطعام، نجد أن هناك أطعمة معينة تحتاج إلى المزيد من تسليط الضوء على تنوعها داخل مصر، وفي مقدمتها الخبز الذي يصل عدد أنواعه في مختلف أنحاء البلاد إلى نحو 100 نوع ومنها: “البتاو”، و”الدوكة”، و”الكماج”، و”البلدي الأسمر”، و”المصبوبة”، و”البتاكين”، و”الكابد:، و”المرحرح”، و”الفطير المشلتت”، و”الرقاق”، بالإضافة إلى “العيش الشمسي” الذي يعد من أقدم أنواع الخبز الباقية في العالم إلى اليوم، وتتم عملية تخميره وخبزه حتى الآن بذات الطريقة التي ابتكرها المصريون القدماء.

وأخيرًا، نذكر الأطعمة التقليدية -السريعة- التي يعتمد عليها الملايين من الموظفين والعمال والطلبة بشكل يومي في عملية تغذيتهم، ومنها عربات الفول والفلافل التي توفر وجبات الإفطار المتنوعة للمواطنين من الطبقات المتوسطة ومحدودة الدخل، وعربات ومحال الكشري التي تقدم الطبق المصري الاشهر على الاطلاق، وأيضا محال الحلويات التي تبيع تشكيلات من الحلوى مصرية الأصل والمنشئ، مثل: “البسبوسة”، و”الكنافة”، و”الأرز باللبن”، و”المهلبية” وغيرها.

وتعد عملية إعداد وتقديم تلك الأطعمة السريعة من أكثر العوامل المساعدة على توافق المجتمع مع مبادئ الاستدامة العالمية؛ إذ تساعد على توفير فرص العمل اللائقة للآلاف من العاطلين، وهو ما يقلل من نسب الفقر. وتسهم الأطعمة الشعبية السريعة كذلك في توفر الطعام الرخيص والمغذي؛ لتحارب بذلك بقاء الجوع وتساعد على دعم الصحة الجسمانية للمواطنين، فضلًا عن دفع مبادئ التنافس الشريف وتفضيل السلم المجتمعي على أفكار العنف والجريمة. 

في الختام، يمكننا القول إن الدولة المصرية بدأت في اتخاذ خطوات فعلية لتوثيق تراثها المتعلق بالطعام، وما يرتبط به من فعاليات ومناسبات، ويتجلى ذلك في المبادرة التي أطلقها متحف الحضارة المصري في فبراير الماضي تحت اسم “طبلية مصر”، لكن تلك الخطوات تحتاج إلى أن يتم تطويرها للمرحلة التالية؛ من خلال تعاون الجهات الرسمية والأكاديمية في إعداد دراسات حول تاريخ وأصل الأطعمة المصرية والظروف المحيطة بعملية تحضيرها وتناولها، لتتحول تلك الدراسات فيما بعد إلى ملفات تُعرض على منظمة اليونيسكو بهدف إدراج أكبر قدر من التراث الغذائي المصري على قائمة التراث الثقافي غير المادي للمنظمة.

ولعل التوجه المصري في هذا الصدد لن يكون بالأمر العسير؛ إذ تتمتع الدولة المصرية بخبرة متراكمة في إعداد مثل تلك الملفات، وهو ما ساعدها من قبل على النجاح في إدراج سبعة أنشطة في قائمة التراث غير المادي، ومنها: لعبة التحطيب، ورواية السيرة الهلالية، وصنع الفخار، والنسج اليدوي. ومن المتوقع أن تحظى عملية إدراج الأطعمة المصرية على قائمة التراث المادي بقبول دولي واسع بين الدول الأعضاء بمنظمة اليونيسكو؛ لتماشي كل نشاط من الأنشطة المتعلقة بتحضير وتناول الطعام التقليدي في مصر مع هدف واحد على الأقل من بين أهداف الأمم المتحدة السبعة عشر للاستدامة.

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى