روسيا

الدب الروسي وموقف ما بعد انضمام فنلندا إلى الناتو

إن انضمام دولة بحجم فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، “الناتو”، يطرح تساؤلًا افتراضيًا حتميًا عما كان سيحدث لو كانت الحرب الجارية بالفعل هي حرب تقتصر على طرفيها فقط “روسيا وأوكرانيا”؟! وهو السؤال الذي ليس ثمة شك في أن الإجابة عليه كانت ستتلخص في القضاء على أوكرانيا بالكامل خلال فترة لا تتجاوز السبعة أيام. وانطلاقًا من حقيقة أن الحرب الجارية هي حرب بين روسيا والغرب ممثل في الولايات المتحدة والناتو، نرى أن التوسع الأخير للحلف -وهو بدوره جزء لا يتجزأ من الحرب التي نجد أنفسنا الآن في غنى عن التمعن في أسبابها التي كانت توسعات الحلف واحدًا منها- يتطلب إلقاء نظرة أكثر تفصيلًا على الموقف الروسي منه، مرورًا على ما يفصل بين أوكرانيا وفنلندا تاريخيًا وسكانيًا. 

فنلندا والسويد في أيديولوجية الدب الروسي

يُدرك الجميع كيف أثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، 24 فبراير 2022، على وضع نقطة تحول في مسار دولة حيادية مثل فنلندا، ودفعها نحو التقدم بطلبات الانضمام إلى الناتو، وصولًا للحظة دخول هذه الطلبات حيز التنفيذ في أبريل من العام الجاري. إذًا، نعرف أنه كانت هناك مخاوف تختلج صدر الفنلنديين بخصوص نوايا روسيا الاستعمارية في دول الجوار من بحر البلطيق، مثل فنلندا والسويد، لاسيما وإن كان هذا الجوار يجمعه تاريخ مشترك شأنه في ذلك شأن الوضع بالنسبة لأوكرانيا. 

وهذه المخاوف من الممكن إيجازها بما ورد في أحد تصريحات وزيرة الخارجية الفنلندية، “بيكا هافيستو”، 4 إبريل، خلال لقاء صحفي لها: “نحن الفنلنديون مهتمون جدًا بالأمن، وكلما حدث شيء هناك، خاصة في أوروبا، نسأل أنفسنا أولًا: ماذا لو حدث لنا؟ كيف نحمي أنفسنا، وكيف نتصرف إذا استخدمت الأسلحة النووية ضدنا؟ والأسلحة الكيماوية: نفس الأسئلة، كيف نحمي أنفسنا من الأسلحة الكيماوية؟ ما الذي يمكننا فعله أيضًا لتحسين أمننا؟ لذا فإن حماية المواطنين جزء لا يتجزأ من العقلية ومن الفكر الفنلندي”.

وبالانتقال إلى الجانب الروسي، نجد أن ما ذكره الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، في 9 يونيو 2022 خلال لقاءٍ له مع مجموعة من رواد الأعمال الشباب في موسكو يحمل دلالة بارزة لما يختلج صدره تجاه مسألة انضمام البلدين؛ وذلك عندما أعاد “بوتين” إلى الأذهان ذكرى تاريخ الأرض التي تأسست عليها مدينة سانت بطرسبرج الروسية، والتي كانت فيما مضى جزءًا من الأراضي السويدية. وقال “بوتين”: “عندما تأسست مدينة سانت بطرسبرج، عندما أسس العاصمة الجديدة، لم تعترف أي دولة أوروبية بهذه المنطقة على أنها روسية، الجميع اعترف بها على أنها السويد، وعاش السلاف هناك منذ زمن سحيق مع الشعوب الفنلندية الأوغرية. وكانت هذه المنطقة تحت سيطرة الدولة الروسية”. 

واستطرد “بوتين”: مُتابعًا: “لم يكن يستولي على أي شيء بل كان يستعيدهم”. وأشار “بوتين” في حديثه إلى معركة “نارفا”، وهي المعركة الافتتاحية التي وقعت في إستونيا الحديثة، 30 نوفمبر 1700. ثم طرح تساؤلًا حول “لماذا ذهب إلى هناك؟ لماذا؟ لقد ذهب إلى هناك لاستعادتها وتقويتها، هذا ما كان يفعله”. وقال، “لقد تحتم علينا أن نستعيدها ونقويها، وإذا أخذنا هذه القيم على أنها أساسية لوجودنا فسننتصر في القضايا التي نواجهها”.

وكنتيجة لتصريحاته التي اعتبرها الغرب ترقى إلى مستوى تهديدات، كان الرئيس الفنلندي “سولي نينيستو” وزوجته في نفس الوقت الذي يلقي فيه بوتين تصريحاته في زيارة إلى جزر الآلاند -وهي جزر ناطقة بالسويدية وتقع في فنلندا- بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية للحكم الذاتي. وكان من المقرر أن يتناول الزوجان الرئاسيان العشاء مع الملك “كارل جوستاف” السادس عشر ملك السويد والملكة “سيلفيا”، لكن أُلغي الميعاد على وجه السرعة وطار الرئيس وزوجته عائدين إلى العاصمة، وهو تصرف يعكس مدى ما تسببه الأزمة في أوكرانيا من مخاوف وقلق لدى قادة دول بحر البلطيق. 

فيما عاد “بوتين” بعد ذلك مصرحًا بشكل أكثر وضوحًا، عقب قمة بحر قزوين في تركمانستان، 30 يونيو 2022، بأنه “لا يوجد شيء يمكن أن يزعجنا بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، إذا كانوا يريدون الانضمام، فقط يجب أن نفهم بوضوح ودقة بينما لم يكن هناك تهديد من قبل، في حالة نشر وحدات وإقامة بنية تحتية عسكرية هناك، سيتعين علينا الرد بشكل متماثل وإثارة نفس التهديدات في تلك الأراضي التي نشأت منها التهديدات بالنسبة لنا”.

إذًا بالنظر إلى ما تقدم، نجد أن “بوتين” أدلى بتصريحات يتناقض كل منها مع الآخر؛ في الحالة الأولى تنطوي تصريحاته على إشارات بوجود طموح استعماري لديه تجاه دول بحر البلطيق، وفي الحالة الثانية نجد أنه يقول صراحة بعدم انزعاج بلاده من فكرة انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو. إذا، يطرح السؤال نفسه، كيف يرى “بوتين” دولتي فنلندا والسويد؟ أو بمعنى آخر، هل ينتظرهم مصير مماثل لما يجري في أوكرانيا؟! 

الإجابة باختصار ستكون، بالتأكيد لا، لأن أوكرانيا ليست فنلندا وليست السويد. لكن لشرح ذلك تفصيليًا، ينبغي العودة أولًا إلى جذور المشكلة الأوكرانية ومناقشة الطريقة التي يفسر بها “بوتين” أحقيته في أراضيها. وحقيقة الأمر، لم يبخل “بوتين” في الاستطراد بشرح وجهات نظره في هذه المسألة من قبل، والتي من الممكن إيجازها في النقاط التالية: 

● قرر “فلاديمير لينين”، إبان تأسيس الاتحاد السوفيتي عام 1922، منح أوكرانيا صفة إحدى الدول المشاركة له، ومنحها إقليم الدونباس الروسي بوصفه جزءًا من أراضيها. 

● نجح الاتحاد السوفيتي في عام 1939 في استعادة أراضي جديدة من بولندا، وأصبح جزء كبير من هذه الأراضي يخضع إداريًا لسلطة أوكرانيا. 

● قامت جمهورية أوكرانيا تحت لواء الجمهورية السوفيتية، عام 1940 باستعادة أجزاء من “بيسارابيا” و”بوكوفينا الشمالية”، من رومانيا. 

● حصلت أوكرانيا على جزيرة “زيميني” ذات الأهمية الاستراتيجية في البحر الأسود في عام 1948.

● شهد عام 1954 نقل تبعية شبه جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا تحت إطار الاتحاد السوفيتي.  

وبالعودة بالمثل لإلقاء نظرة على التاريخ المشترك الذي لعبت فيه فنلندا دورًا كجزء من أجزاء الإمبراطورية الروسية، نجد أن: 

● الإمبراطورية الروسية ضمت إليها فنلندا عقب الحرب في 1809، وتمتعت دوقية فنلندا الكبرى بالحكم الذاتي الموسع حتى نهايات القرن التاسع عشر. 

● آلت محاولات الترويس لاستيعاب فنلندا بالفشل، وترتب عليها تعزيز ميولها الانفصالية، ومن ثم حصلت فنلندا على استقلالها بموجب حق تقرير المصير في عام 1917، واعترفت روسيا فيما بعد بالحكومة الفنلندية الجديدة. 

وبالنظر إلى الحقائق السابقة جنبًا إلى جنب مع ربطها بالحقائق الديموجرافية حول شعبي أوكرانيا وفنلندا والربط بين العرقية السكانية للأوكرانيين التي تتخللها نسبة ليست هينة من الروس بينما لا نجد نظيرًا للأمر نفسه بالنسبة للشعب الفنلندي؛ نستطيع أن نفهم كيف تختلف نظرة “بوتين” لكل منهما، وكيف ليس من الممكن لروسيا -حتى في حالة توافرت لديها بالفعل الإمكانات لذلك- أن تغزو فنلندا في محاولة لضمها بأي شكل من الأشكال.

والأمر ببساطة، أن “بوتين” يرى أن أوكرانيا ليست دولة، ويعتقد أنها حتى وإن رغبت في الانفصال عن روسيا فكان ينبغي عليها أن تنفصل تاركة خلفها كل الأراضي التي انضمت إليها على حساب روسيا. لكن فنلندا كانت بالفعل دولة بحد ذاتها أثناء وجودها تحت لواء الإمبراطورية الروسية، وظلت على هذا الحال وصولًا إلى لحظة انفصالها. 

الإطار العام الحاكم للموقف الروسي من توسعات الناتو

لا جدال على أن انضمام فنلندا فرض واقعًا جديدًا على الخريطة فيما يتعلق بالمسافة العازلة بين النقيضين، روسيا والناتو. ومن البديهي معرفة أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام فنلندا كبوابة نحو الوصول إلى روسيا؛ فقد شهد القرن الثامن عشر أربعة حروب بين البلدين لطالما لعبت فيها فنلندا دورًا كمنفذ يفتح الطريق للوصول إلى روسيا. 

وبالنظر إلى الموقف الراهن، نجد أن انضمام فنلندا إلى الناتو تسبب في مضاعفة خط التماس بين روسيا والناتو من 1215 كيلو مترًا إلى 2600 كيلو مترًا، مما يعني أن المسافة العازلة بين الناتو وروسيا قد انخفضت بشكل كبير، بما يضع مدينة سانت بطرسبرج، وهي أكبر مدينة حدودية روسية، تحت وطأة تهديدات غربية متزايدة. ذلك بالإضافة إلى تقلص المسافة بين حدود الناتو والمرافق الاستراتيجية الروسية، مثال على ذلك، قاعدة الغواصات النووية “جادييفو”، التي باتت اليوم تقع على مسافة تزيد قليلًا على 100 كيلو متر من أراضي الكتلة الغربية. وباتت الاتصالات الروسية مع “مورمانسك” وقواعد الأسطول الشمالي في شبه جزيرة كوالا أيضًا مهددة. 

وبمراجعة الموقف العسكري الفنلندي، نجد أن فنلندا دولة قوية حتى بالنظر إلى كونها دولة صغيرة، فهي الدولة الوحيدة في أوروبا التي أخذت تنمية قدراتها الدفاعية على محمل الجد منذ نهاية الحرب الباردة؛ فقد أقبل الفنلنديون بعد مرور عام واحد فقط على انهيار الاتحاد السوفيتي على شراء مقاتلات أمريكية جديدة من طراز ” F \ A-18 “، ولحقوا ذلك بشراء دبابات “ليوبارد” من هولندا، ومن ثم أنظمة مدفعية صاروخية وغيرها. 

وكنتيجة منطقية لذلك، أصبحت فنلندا هي أول دولة في الناتو بعد الحرب الباردة يمكنها القتال بالفعل. مما نفهم منه أن الدرجة العالية من الاستعدادية للحرب التي تملكها فنلندا تعكس بطبيعة الحال عدم وجود رغبة مُلحة لديها باستضافة قوات تابعة لحلف الناتو بأي شكل من الأشكال على أراضيها. وتجعل من رغبتها المُلحة للانضمام للحلف عقب الهجوم على أوكرانيا شيء يمكن تفسيره بأنه يبعث دلالة رمزية للداخل الفنلندي تحث الشعب على الاطمئنان، ودلالة أخرى عكسية للروس بأن فنلندا لن تقف وحيدة في حالة وقوع عدوان مماثل على أراضيها. 

من ناحية أخرى، إن الخطر الحقيقي بالنسبة لروسيا لا يتمثل في انضمام فنلندا نفسها إلى الناتو، بل يتمثل في المساحة من الأرض والجو والبحر التي سيكون في مقدور الناتو التحرك فيها بحرية على مقربة من الحدود الروسية. وفي هذا السياق، نعود إلى تصريحات “بوتين”، في مايو 2022، عندما قال إن ذلك سيكون خطأ لكنه لا يشكل بالضرورة تهديدًا عسكريًا مُلحا لروسيا إلا إذا أدى إلى انتشار البنية التحتية للناتو، لافتًا إلى أن الروس سيتعين عليهم، في هذه الحالة، الرد من جانبهم على الحدود، خاصة مع تنامي الشعور الغربي بأن روسيا صارت تمثل خطرًا لا يمكن التنبؤ به. 

وإلى جانب وجود أي انتشار عسكري لقوات الناتو بالقرب من حدود روسيا، توجد هناك أيضًا خطوات أخرى تُعدها موسكو مخاطر كبرى على أمنها القومي، مثال على ذلك الجولات الاستكشافية لطيران الناتو على الحدود الفنلندية الروسية، أو المقترح الذي برز الحديث عنه خلال عام اندلاع الحرب من قِبَل الإستونيين، تحديدًا عندما صرح وزير الدفاع الإستوني “هانو بيفكور” ، 12 أغطس 2022، بأن بلاده -والتي هي بالفعل عضو في الناتو- تتفاوض مع فنلندا بشأن مشروع لإنشاء نظام دفاع صاروخي ساحلي مشترك، مشيرًا إلى أن ذلك يقتضي بالضرورة أن يتم معه إغلاق خليج فنلندا أمام سفن الاتحاد الروسي. 

وهنا يبقى السؤال، كيف ستتحرك روسيا مستقبلًا ردًا على هذه الخطوة؟ نجد أن التحرك الروسي المضاد لهذه الخطوة تم بالفعل قبيل الإعلان عنها بأيامٍ معدودات؛ الحديث هنا يدور عما أعلنه الرئيس الروسي في أواخر مارس 2023 عن عزم بلاده نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا المجاورة، مؤكدًا أنه تم إرسال بالفعل عشر مقاتلات إلى مينسك تستطيع حمل أسلحة نووية تكتيكية. 

ذلك بالإضافة إلى نوايا روسيا بزيادة حجم قواتها على الأراضي البيلاروسية إلى نحو 400 ألف شخص، وهو ما يعد ردًا لأسباب لا يتلخص أهمها في مستوى الخطر الذي تشكله الأسلحة النووية فحسب، بل أيضًا يعكس رغبة موسكو في فتح جبهة جديدة أكثر قربًا من العمق الأوروبي، بنفس الطريقة التي يقوم فيها الناتو بتوسيع جبهته في مقابل الحدود الروسية لتشتيتها وإجبارها على توزيع تركيزها العسكري على الخارج الأوكراني. 

من ناحية أخرى، الأرجح أن موسكو ستضطر إلى اتخاذ خطوات على المدى البعيد تهدف إلى الحيلولة دون انضمام دول أخرى للحلف مثل مولدوفا وصربيا. وفي هذا السياق نعود إلى خطة “بوتين” وهدفه الأسمى من هذه الحرب، والذي لا يتمثل فقط في هزيمة أوكرانيا، بل في فرض واقع عالمي جديد لنظام متعدد الأقطاب. وعلى هذا الأساس، يُرجح أن رؤية القيادة الروسية تُرجئ مهمة السعي نحو تنفيذ إجبار الناتو على التراجع لخطوط عام 1997 إلى ما واقع ما بعد الانتهاء من الحرب والنظام العالمي الجديد الذي ستتبلور فيه روسيا بمساعدة وشراكة صينية بصفتها دولة عظمى. 

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى