المعركة المؤجلة: أبعاد المواجهة المسلحة بين الجيش والدعم السريع في السودان
ظلت مسألة دمج ميلشيا الدعم السريع وكيفية التعامل معها بعد سقوط نظام البشير تحتل مساحة من الجدل ألقت بظلالها على طبيعة العلاقة بين الدعم السريع والمؤسسة العسكرية من جهة وبين الأخيرة والقوى السياسية الأخرى من جهة ثانية على مدار المرحلة الانتقالية الممتدة. ورغم تخلي الدعم السريع عن البشير والانحياز للثورة، على نحوٍ سمح لها بالبقاء كطرف أصيل ضمن مكونات القوى السياسية المنوط بهم إدارة المرحلة الانتقالية؛ فإن علاقاتها بكافة المكونات الداخلية والخارجية ظلت مثيرة للجدل على مدار أربع سنوات مضت.
صراع الرؤى السياسية
استطاعت الدعم السريع بانحيازها للثورة في مواجهة البشير في تخطي شبح الماضي في دارفور، واحتجاز مكانة محورية لها في قيادة المرحلة الانتقالية إلى جانب القوات المسلحة وقوى الثورة المدنية، رغم تحفظ القوى المدنية في المراحل الأولى من الانتقال السياسية على الأدوار التي باتت تلعبها الدعم السريع، ومطالبة البعض منهم بدمجها ضمن القوات المسلحة والبعض الآخر بمحاسبتها على ما ارتكبته من جرائم، خاصة مع الاتهامات بمسؤوليتها عن فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019.
ورغم ذلك، لعب الدعم السريع دورًا رئيسًا إلى جانب القوات المسلحة في إطار مجلس السيادة الذي ترأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان وتولى قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” منصب النائب له، وهي المكانة التي سمحت له لأن يكون لاعبًا رئيسًا ضمن المعادلة السياسية في المرحلة الانتقالية.
فبعد حالة الجدل التي استمرت بين المكونين المدني والعسكري لأربعة أشهر عقب سقوط البشير، أسهم اتفاق تقاسم السلطة في أغسطس 2019 في إيجاد صيغة لتقاسم السلطة، أدت إلى شراكة بين المكونين المدني والعسكري في إطار مجلس السيادة الذي تشكل بموجب الاتفاق. وقد أقرّ هذا الاتفاق فترة انتقالية تمتد 39 شهرًا، على أن يرأس المكون العسكري المجلس السيادة لمدة 21 شهرًا يعقبه رئاسة المكون المدني لمدة 18شهرا.
وقد مارس حميدتي أدوارًا محورية في كافة ملفات وقضايا الانتقال السياسي، بداية من توقيعه نيابة عن المجلس العسكري على الاتفاق السياسي مع الحرية والتغيير والذي بموجبه تشكل المجلس السيادي الذي أصبح نائبه، وتشكلت حكومة حمدوك الأولى.
وقد لعب حميدتي الدور الأبرز الآخر في قيادة وفد الوساطة إلى جانب حكومة الحرية والتغيير للتفاوض مع الحركات المسلحة في جنوب السودان، إلى أن تم توقيع اتفاق جوبا للسلام الذي أصبح الوثيقة الحاكمة إلى جانب اتفاق تقاسم السلطة للمرحلة الانتقالية.
وبتوقيع اتفاق السلام في أكتوبر 2020، تمت إعادة هيكلة المجلس السيادي لاستيعاب قادة الحركات المسلحة الموقعين على الاتفاق ضمن هياكل السلطة الانتقالية، وتشكل حكومة حمدوك الثانية لتضم وزراء ممثلين للحركات المسلحة.
وقد تعرضت حكومة حمدوك الأولى لضغوط شديدة؛ نظرًا لسوء الأوضاع الاقتصادية والتي واجهت نقدًا شديدًا من حميدتي، إلى أن تم تشكيل الحكومة الثانية والتي استمر أداؤها دون التوقعات، مما رفع من نبرة الاتهامات المتبادلة بين المكونين المدني والعسكري، خاصة حميدتي.
وبينما كانت ترى قوى الثورة في وجود حميدتي أمرًا واقعًا، كان الجدل المسيطر على المشهد خلال تلك الفترة متعلقًا بضرورة دمج الدعم السريع، خاصة بعد اتفاق السلام الذي تصاعدت بعده الخلافات بين كافة الأطراف المدنية والعسكرية والحركات المسلحة.
واشتركت الحرية والتغيير في الموقف من دمج الدعم السريع مع الحركات المسلحة سواء تلك الموقعة على اتفاق جوبا أو الحركات التي لم توقع على الاتفاق “عبد العزيز الحلو، عبد الواحد نور”، وهي الضغوط التي لم يتضح موقف حميدتي منها في العام التالي على اتفاق السلام وحتى إزاحة حكومة حمدوك في أكتوبر 2021. ورغم تعرض تلك الحكومة لهجوم شديد من قبل حميدتي، إلا أنه سرعان ما أعاد تبديل مواقفه وبدأ في صياغة تحالفات جديدة مع القوى المدنية في مواجهة المكون العسكري، متبعًا استراتيجية برجماتية مخادعة في التعامل مع القوى المدنية لتحقيق مآربه فيما يتعلق بوضع قوات الدعم السريع أو ما يتعلق بموقعه الشخصي في مستقبل المشهد السياسي السوداني.
جدل الإصلاح العسكري
ظلت مسألة دمج الدعم السريع في الجيش السوداني مثار جدل منذ سقوط البشير في 2019، والتي ألقت بظلالها على عملية الترتيبات الأمنية التي نصّ عليها اتفاق جوبا للسلام، والتي بموجبها تتم عملية الدمج والتسريح لقوات الحركات المسلحة.
وقد كانت مواقف قائد الدعم السريع غير واضحة حول إمكانية الدمج، ففي يونيو 2021، كان هناك تصريح له يرفض دمج الدعم السريع بدعوى أنه قد يؤدي إلى تفكيك البلاد، خاصة وأنه يرى أنها قوة شبه عسكرية محكومة بقانون ولا يمكن أن تتعامل معاملة الحركات المسلحة التي رفعت السلاح في وجه النظام.
وما عزز من موقف ميلشيا الدعم السريع في هذا الشأن القرار الذي اتخذه المجلس العسكري المنحل في يوليو 2019، الذي بموجبه تم تعديل قانون الدعم السريع وإلغاء المادة “5” التي كانت تقضي بخضوعها لأحكام قانون القوات المسلحة لعام 2007، وكذلك خضوعها لإمرة الجيش في حالات الطوارئ وإعلان الحرب، مما يعني منح مزيد من الاستقلالية وعدم التبعية للدعم السريع عن الجيش.
وبنيت الآراء السياسية للقوى المدنية والدولية وكذلك المؤسسة العسكرية على استحالة بناء نظام سياسي جديد في السودان دون إعادة بناء مؤسساته بما فيها القوات المسلحة التي تحتاج إلى بناء جيش مهني موحد. وقد ربطت القوى المدنية بين استعادة الحكم المدني في السودان بعد فض الشراكة في 2021 وبين دمج الدعم السريع ضمن القوات المسلحة، وقد طالبت البعثة الأممية بالمساعدة في عملية دمج ونزع سلاح وتسريح كافة الفصائل المتمردة شبه العسكرية، على اعتبار أن تعدد الجيوش يهدد استقرار السلام.
ولم يقتصر الأمر على مواقف القوى المدنية؛ إذ كانت هناك تحفظات داخل المؤسسة العسكرية على تنامي قوة الدعم السريع، الأمر الذي فسر من خلاله البعض محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها اللواء عبد الباقي بكراوي في سبتمبر 2021. وهو الأمر الذي أثار انتباه “حميدتي” لإعادة النظر في موقفه من القوى المدنية التي لجأ للتقارب معها على مدار عام 2022، إذ ربما تمثل له طوق نجاة في مواجهة الضغوط العسكرية، ويتخذها وسيلة للالتفاف على هذه الضغوط والتهرب من دمج الدعم السريع في القوات المسلحة.
وقد أخذ التعاطي مع هذه الرؤى مسارات متعددة من جانب رئيس مجلس السيادة ونائبه الذي بدأ في مغازلة القوى المدنية على مدار العام 2022، بدءًا من إبداء المرونة حول دمج الدعم السريع وفق تصريح له في إبريل 2022 أبدى فيه رغبته في توحيد جميع القوات وفق اتفاق جوبا للسلام، شريطة تبادل الثقة بين كافة الأطراف، مرورًا بتوجيه النقد الصريح لحركة تصحيح المسار التي قام بها رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي أثار عدم ظهور حميدتي إلى جانبه حينما اتخذ إجراءات حلّ الحكومة وإيقاف العمل بعدد من بنود الوثيقة الدستورية الشكوك حول مدى التوافق بين الرجلين، أو مدى التحولات في موقف “حميدتي” الذي كان أشد المنتقدين لضعف أداء الحكومة وحاضنتها المدنية الممثلة في الحرية والتغيير على مدار عامي 2020 و2021.
وربط البعض بين تبدل موقف حميدتي الجديد من مشروع جيش مهني موحد وبين مستقبل مشروعه السياسي الذي دفعه إلى الانحياز للقوى المدنية التي تشكل له سندًا، هذا إلى نشاطه السياسي الذي دفعه إلى البقاء في دارفور لرعاية المصالحات القبلية مقابل بناء قاعدة شعبية له، وهو ما أثار تحفظات داخل عدد من الأوساط العسكرية التي رأت في بقاء الدعم السريع ككتلة مستقلة أو حتى تابعة للجيش بهيكلها المستقل يشكل خطرًا على مستقبل التوازنات المستقبلية، لما تمثله الدعم السريع من رعاية للمصالح الإقليمية والدولية المتعارضة مع مواقف المؤسسة العسكرية.
وشكلت مغازلة حميدتي لمقاربة القوى المدنية واتخاذ مسافة أبعد عن مواقفه السابقة وإبداء مرونة في الانفتاح على القوى المدنية، ضغطًا دفع “البرهان” إلى الإعلان في 4 يوليو 2022 عن انسحاب المكون العسكري من مفاوضات العملية السياسية وإمكانية التوافق مع القوى السياسية لإعادة تشكيل العملية السياسية، بعدما اتسم المشهد بحالة من السيولة في المبادرات الرامية إلى إعادة تشكيل المشهد، إضافة إلى إعلانه عن حلّ مجلس السيادة بمجرد تشكيل حكومة مدنية وتشكيل ومجلس أعلى للقوات المسلحة مكون من قيادات الجيش والدعم السريع، الخطوة التي تسببت في مخاوف “حميدتي” من أن يتم تجنيبه من خلالها بعدما استطاع مد نفوذه السياسي سواء بنسج شبكة تحالفات إقليمية أو من خلال تشكيل تحالفات مع القبائل من خلال تولي ملف المصالحات القبلية.
في تلك اللحظة وبوضوح أكثر في تعارض المواقف، انحاز “حميدتي” إلى مبادرة مشروع الدستور الانتقالي الذي خرج عن نقابة المحامين السودانيين ودعمته الآلية الثلاثية والقوى الدولية، مما اضطر المجلس السيادي في النهاية إلى التسوية السياسية المستندة إلى مشروع دستور نقابة المحامين رغم استمرار مطالباته بشمولية العملية السياسية وضم كافة القوى السياسية لتشكيل حكومة مدنية ذات قاعدة عريضة حتى لا تتعرض مرة أخرى للضغوط السابقة.
لكن كان إقرار مشروع الدستور الانتقالي ومسألة دمج قوات الدعم السريع ضمن جيش مهني موحد أحد دوافع موافقة “البرهان” المشروطة على التسوية، بشرط إلحاق بقية القوى السياسية الممثلة في الكتلة الديمقراطية والتمسك بمسألة دمج الدعم السريع كفيصل في دعم الاتفاق الإطاري.
سيناريو المواجهة المسلحة
ظل التوجس مخيمًا على مسار العلاقة بين الطرفين، رغم استمرار تأكيدهما على عدم اللجوء إلى المواجهة وعلى طيب العلاقات بينهما. وساهمت تحركات قائد الدعم السريع ومراكمة نفوذ سياسي واقتصادي في إثارة المخاوف التي عجلت بالمواجهة المؤجلة.
رغم المخاوف المسبقة من سيناريو المواجهة المسلحة حال فتح ملف الإصلاح الأمني والعسكري، إلا أن إبداء رئيس مجلس السيادة ونائبه الانفتاح على مسألة الدمج التي نص عليها الاتفاق الإطاري نقل الخلاف إلى مرحلة متقدمة ممثلة في الخلاف حول آلية وشروط الدمج.
فأجمعت كافة القوى السياسية على ضرورة الإسراع في تنفيذ الترتيبات الأمنية وفق خطة إصلاح أمني وعسكري تقود إلى جيش وطني واحد ومن ثم خروج المكون العسكري من المشهد، وخضوعها لقيادة مدنية وخروجها من كافة الأنشطة الاستثمارية والتجارية لكافة القوات النظامية وشبه النظامية، وفقًا لما نصت عليه بنود الدستور الانتقالي والاتفاق الإطاري.
وضمن ورش العملية السياسية التي انطلقت في 8 يناير الماضي التي ناقشت كافة القضايا الخلافية قبل توقيع الاتفاق السياسي الذي بموجبه يتم نقل السلطة، خصصت ورشة الإصلاح الأمني والعسكري لمناقشة قضية الإصلاح ودمج الدعم السريع.
وأثيرت هذه المسألة وطرحت إلى صدارة المشهد ضمن العملية السياسية المكملة للاتفاق الإطاري، وهي المرحلة التي بدأت في الثامن من يناير 2023 بعقد عدد من الورش والمؤتمرات لمناقشة القضايا الخلافية التي تم تأجيلها وقت توقيع الاتفاق الإطاري، والتي كان من بينها ورشة الإصلاح الأمني والعسكري التي عقدت في الخرطوم في الفترة من 26 -29 مارس.
وسلطت هذه الورشة الضوء على الخلافات بين الطرفين مما أدى إلى انتهائها بدون توافق؛ إذ رفضت الدعم السريع أن تكون تحت القيادة العامة للجيش متمسكة بتبعيتها لرأس دولة مدني سواء مجلس سيادة أو رئيس وزراء مدني يرأس القوات المسلحة، هذا إضافة إلى ورقة المقترحات التي قدمتها الدعم السريع خلال الورشة لإصلاح المؤسسة العسكرية منها: تجريم الانقلابات العسكرية، وإلزام النخب السياسية بعدم اللجوء للمؤسسة العسكرية، والرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية، وتصفية القوات المسلحة من عناصر النظام السابق، ومراجعة مناهج الكلية الحربية.
وأظهرت الورشة التعارض بين رؤية قادة الجيش حول مدة الدمج التي لا يجب أن تزيد على عامين متزامنين تنتهي بنهاية الفترة الانتقالية، فيما تمسك قائد الدعم السريع بأن تمتد سنوات الدمج لعشر سنوات.
هذا إلى جانب الخلاف على القيادة؛ إذ تمسك الدعم السريع بما نصّ عليه الاتفاق الإطاري بتبعية الدعم السريع لرئيس مجلس سيادة مدني أو رئيس وزراء يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما يرى الجيش أن تكون القيادة تحت رئاسة القائد العام للقوات المسلحة.
وما أضفى صعوبة على التوافق هو عدم وجود اتفاقات مسبقة تنص على البرامج والجداول الزمنية للدمج، وهو الأمر الذي لم يتطرق إليه اتفاق جوبا للسلام، رغم ما كان البعض يعتقده في سهولة عملية الدمج في حالة الدعم السريع نظرًا لكونها تلقت تدريبات عسكرية ولديها هيكل قد يسهل من عملية الدمج، بينما نظر آخرون إلى التمويل كإشكالية أمام الدمج في وقت قياسي.
لكن الإشكالية الأخرى غير الجداول الزمنية تعلقت بالأنشطة الاقتصادية والارتباطات الإقليمية للدعم السريع التي قد تهدد وحدة وتماسك المؤسسة العسكرية حال دمجت كقوة واحدة مستقلة، لهذا كان يرى البعض ضرورة توزيع قواتها على الوحدات العسكرية المختلفة.
وهنا رأى البعض وجود تفاهمات بين القوى المدنية وقائد الدعم السريع مفادها تقديم الأخير الدعم لها في مسار التحول الديمقراطي مقابل تبنيها لرؤية وسطى فيما يتعلق بعملية الدمج من خلال إيجاد حل وسط لعدد سنوات الدمج قد تصل إلى ستة سنوات بدلًا من مدة العامين التي تحد عنها الجيش.
وتبع تلك الخلافات تصاعد التوترات ودرجات التأهب بين الطرفين، فبدأت ملامح للحشد العسكري والاستعداد للمواجهة من جانب الطرفين، فعلى مدار الأسابيع السابقة على بدء الاشتباك بدأت تعزيزات عسكرية من جانب الطرفين في محيط المناطق التي دارت حولها الاشتباكات، واستقدمت الدعم السريع أعدادًا ضخمة من قواتها من ولايات دارفور بنحو 20 ألف مقاتل لتوزيعهم على أربعة معسكرات رئيسة حول الخرطوم، بدعوى التدريب؛ مما فاقم من التوترات مع قيادات الجيش التي طالبت بانسحاب قوات الدعم السريع نظرًا لعدم التنسيق المسبق قبل إحضارهم للعاصمة.
في النهاية استطاع حميدتي بناء تحالفات مصلحية مع عدد من القوى السياسية وفرت له دعمًا كطرف أساسي ضمن معادلة الانتقال السياسي، سواء مع القوات المسلحة التي أصبح نائبًا لرئيس مجلس السيادة أو بتقديم نفسه راعيًا للانتقال الديمقراطي حتى اكتسب دعمًا من بعض الأطراف المدنية أو راعيًا للمصالح الإقليمية مما وفر له دعمًا خارجيًا.
وإذا انحصرت المواجهة بينه وبين القوات المسلحة بشكل مباشر بعيدًا عن القوى المدنية، فإن تدخل الأطراف السياسية أو الخارجية على خط المواجهة قد يؤثر على مسار المواجهة بالحد الذي تتشكل معه طبيعة ودرجة التدخل، في ظل عدم القدرة على حسم أي من الطرفين للمعركة دون وجود عامل ترجيح ثالث.