أفريقيا

هل تؤثر تصريحات بلينكن على السلام في شمال إثيوبيا؟

بعد حوالي خمسة أشهر من توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وقيادات إقليم تيجراي، وعودة بعض الخدمات العامة التي تسببت الحرب في توقفها مثل خدمات الاتصالات والقطاع المصرفي، وتيسير دخول المساعدات الإنسانية لإغاثة مواطني الإقليم الشمالي الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة طوال عامي الحرب، طالبت الولايات المتحدة ممثلة في وزير خارجيتها “أنتوني بلينكن” بمحاسبة كل أطراف النزاع في تيجراي الذين شاركوا في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بما في ذلك الجيش الفيدرالي الإثيوبي والجيش الإريتري والقوات الأمهرية، وهو ما رفضته إثيوبيا وإريتريا واتهمتا الإدارة الأمريكية بالتحامل على أحد أطراف النزاع لصالح طرف آخر وتهديد عملية السلام.

اتفاق السلام ومهددات استمراره

بعد عدة محاولات قادتها الولايات المتحدة الأمريكية جنبًا إلى جنب مع الاتحاد الأفريقي، لدفع الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا وقادة جبهة تحرير تيجراي لوقف الحرب خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2022، اتفق الطرفان مطلع نوفمبر 2022 على إنهاء الصراع الدموي الذي امتد لعامين كاملين، وحصد أرواح ما بين 400 إلى 600 ألف شخص، وأدى إلى نزوح أكثر من مليوني شخص داخليًا أو إلى دول الجوار؛ وأعلن المفاوضان الرئيسيان “جيتاشيو رضا” المتحدث باسم جبهة تحرير تيجراي، و”رضوان حسين” مستشار الأمن القومي الإثيوبي موافقة الجانبين على تنفيذ بنود الاتفاق الخمسة عشر بحُسن نية وتجنب عرقلته.

خارطة طريق" لتنفيذ اتفاقية السلام بين أديس أبابا وجبهة تيغراي

وتضمن الاتفاق الذي تم توقيعه في “بريتوريا” تحت أنظار الوسطاء الدوليين، أن تحترم جبهة تحرير تيجراي سلطة الحكومة الاتحادية الإثيوبية وألا تحاول فرض تغيير على الحكومة من خلال اللجوء للوسائل غير الدستورية، وأن تحافظ على السيادة الإثيوبية ووحدة أراضيها من خلال نزع سلاح الجبهة بشكل منهجي ومنظم وعدم الاستعانة بأطراف خارجية، وأن تلتزم الجبهة بعدم تجنيد أو تدريب أو نشر قوات عسكرية بغرض الاستعداد للنزاع من جديد والاكتفاء بقوات الأمن التي ترسلها الحكومة إلى الإقليم، وأن تترك الجبهة مسؤولية تأمين المجال الجوي والتحكم الكامل في المطارات والطرق السريعة في الإقليم للحكومة الفيدرالية.

وفي مقابل التزام قادة جبهة تحرير تيجراي بالبنود السابقة، تضمن الحكومة الإثيوبية وصول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم دون عوائق، وإعادة تشغيل الخدمات الأساسية التي حُرم منها سكان تيجراي مثل الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية والرحلات الجوية من وإلى الإقليم في أسرع وقت ممكن؛ وقد ألزمت الحكومة الإثيوبية نفسها بوقف جميع العمليات العسكرية ضد مقاتلي تيجراي وإلغاء تصنيف الجبهة كمجموعة إرهابية، وهو ما تم بالفعل نهاية مارس الماضي حيث تم إسقاط تهم الإرهاب الموجهة إلى حوالي 60 شخصًا من قادة الجبهة، بعد أن تم تشكيل حكومة انتقالية بقيادة المتحدث باسم جبهة تحرير تيجراي “جيتاشيو رضا” الذي حظي بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وموافقة حكومة آبي أحمد في أديس أبابا، خلفًا لدبرصيون جبرميكائيل الذي فضّل المواجهة العسكرية على الحوار.

 الجدير بالذكر، أن الدور الذي لعبه الوسطاء الدوليين ممثلين في كل من الاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة الأمريكية، وكينيا، وجنوب إفريقيا خلال الأشهر الستة الماضية من أجل إحلال السلام في إثيوبيا، لا يضمن استمرار هدوء الأوضاع شمالي البلاد في ظل استمرار تواجد بعض القوات الإريترية في إقليم تيجراي، حيث ترجح بعض التقديرات أن تحركات تلك القوات من أماكنها في الإقليم لم تكن انسحابًا وإنما إعادة تمركز في مناطق أخرى، بغرض تحقيق الهدف من مشاركة إريتريا في تلك الحرب وهو القضاء على جبهة تحرير تيجراي نهائيًا، والإبقاء على القوات الأمهرية في مناطق تابعة لإقليم تيجراي، خاصةً في ظل رفض مواطني إقليم أمهرا تسليم الأسلحة بحجة أنهم قد يُتركون عرضة لهجمات ميليشيات الأقاليم المجاورة، دون طرح سيناريوهات إعادة تلك الأراضي لسيطرة التيجراي من جديد، على الرغم من جرائم التطهير العرقي التي ارتكبها الأمهريون تجاه مواطني تيجراي. وما يزيد الأمر صعوبة هو أن نزع سلاح مقاتلي جبهة تحرير تيجراي يستغرق وقتًا أكثر من المدة المقدرة بشهر وفقًا لاتفاق بريتوريا، كذلك هناك حوالي 35% من مقاتلي الجبهة يرفضون اتفاق السلام ويعتبرونه استسلامًا، الأمر الذي قد يفتح المجال أمام نشوب الصراع من جديد في حال تمكنت تلك الفئة من الحصول على الدعم اللازم لهذا الغرض.

الولايات المتحدة ورسم مسار السلام في إثيوبيا

تخلت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” في فبراير 2022 عن السياسة التي اتبعتها إدارة سلفه “دونالد ترامب” في التعامل مع إثيوبيا، حيث أوقفت العمل بقرار تعليق مساعدات بقيمة 272 مليون دولار إلى إثيوبيا كان قد اتخذه ترامب في سبتمبر 2021 على خلفية التعنت الذي أبدته إثيوبيا في قضية “سد النهضة”، وقد عملت إدارة “بايدن” خلال العام الماضي على استعادة الدور الأمريكي في منطقة القرن الإفريقي من خلال بوابة “إنهاء الصراع” في إثيوبيا، حيث طرحت قضية انتهاك حقوق الإنسان في إثيوبيا بسبب الحرب أكثر من مرة على طاولة مجلس الأمن الدولي، وكذلك لجأت إلى جانب مجموعة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، للضغط على حكومة آبي أحمد للسماح بدخول المساعدات الإنسانية لإقليم تيجراي.

وفضلت الولايات المتحدة إنهاء حالة التدهور التي أصابت العلاقات بين البلدين بسبب الحرب، من خلال دعم عملية السلام التي قادها الاتحاد الإفريقي بين حكومة آبي أحمد وقادة تيجراي؛ وقد نجحت في ذلك بالفعل بعد توقيع اتفاق بريتوريا ليستضيف الرئيس الأمريكي رئيس وزراء إثيوبيا وعددًا من القادة الأفارقة لمشاهدة إحدى مباريات كأس العالم لكرة القدم على هامش القمة الأمريكية الإفريقية التي عقدت في ديسمبر من العام الماضي؛ وقد أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بعد اللقاء على استمرار دعم الولايات المتحدة لجهود السلام بالإضافة إلى الحاجة الملحة لمغادرة القوات الإريترية للإقليم الذي دمرته الحرب.

وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين استمرت في التحسن مع التقدم في تنفيذ اتفاق السلام، وتقديم الولايات المتحدة مساعدات إنسانية إضافية لإثيوبيا بلغت 331 مليون دولار منتصف مارس الماضي، إلا أن هذه المساعدات يمكن تفسيرها على أنها مساعدات موجهة لدعم الخدمات والمرافق التي دمرتها الحرب في إقليم تيجراي وليست لدعم الحكومة الإثيوبية؛ فتصريحات وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” في العشرين من مارس حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت على مدار عامين في إقليم إثيوبيا الشمالي، تؤكد على أن الحليف الأول للولايات المتحدة في إثيوبيا هو “قادة تيجراي” وليس رئيس الوزراء الحالي، حيث اتهم بلينكن القوات الإثيوبية والإريترية وميليشيا الأمهرا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك (القتل والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي والاضطهاد والتهجير القسري والتطهير العرقي) بحق شعب تيجراي.

ويبدو أن هذه التصريحات التي طالبت بمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم سالفة الذكر، جاءت بعد أن ضمنت الولايات المتحدة استقرار الأوضاع في الإقليم الشمالي وتولي “رضا جيتاشيو” –الذي كان حلقة الوصل مع الولايات المتحدة أثناء الحرب- مسؤولية إدارة الإقليم بموافقة آبي أحمد، لتبدأ الإدارة الأمريكية في تهيئة المناخ الملائم لحليفها في شمال إثيوبيا لاستعادة قواه من خلال إجبار القوات الإريترية على الخروج الكامل من أراضي الإقليم وإبعاد قوات الأمهرا عن حدود إقليم تيجراي، إلا أن تصريحات بلينكن لم تلقَ استحسان السلطات الإثيوبية والإريترية، فخرجت وزارتا الخارجية في كلا البلدين بتصريحات منددة بالرواية الأمريكية حول جرائم الحرب في إثيوبيا، حيث رأت الخارجية الإثيوبية أن الولايات المتحدة تبرئ أحد أطراف الحرب –جبهة تحرير تيجراي- على الرغم من وجود أدلة على ارتكابهم لهذه الجرائم، وفسرت الخارجية الإريترية تصريحات بلينكن على أنها استمرار للعداء غير المبرر الذي تنتهجه الولايات المتحدة ضد إريتريا منذ 2009.

مما سبق، يمكن استخلاص أن الدعم الأمريكي لعملية السلام في إثيوبيا مشروط باستعادة مواطني وقادة إقليم تيجراي مكانتهم السابقة باعتبارهم الحليف المخلص للولايات المتحدة، وهذا الشرط يتعارض مع سياسة رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” الذي لم يعترف به قادة جبهة تحرير تيجراي ويصنفهم هو كإرهابيين، وأهداف الحليف الإريتري الذي لا يرغب في الانسحاب من الأراضي الإثيوبية إلا بعد القضاء على جبهة تحرير تيجراي نهائيًا. وفي ظل استعادة إقليم تيجراي بعضًا من عافيته مدعومًا من الولايات المتحدة، واستمرار حالة عدم اطمئنان جميع الأطراف لردود فعل الآخرين، وبطء تنفيذ بنود اتفاق السلام التي تنص على نزع الأسلحة ودمج القوات سواء من تيجراي أو أمهرا في الجيش الإثيوبي، فإن احتمالية عودة الصراع من جديد إلى شمال إثيوبيا ماتزال مطروحة وإن كان بدرجة أقل دموية مما كان عليه خلال العامين الماضيين.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى