تضاؤل البدائل … خيارات موسكو إزاء الواقع الجديد في بحر البلطيق
على الرغم من أن ملف انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، تم فتحه بشكل أساسي في مايو الماضي، بعد أن تقدمت هلسنكي بشكل رسمي بطلب انضمامها إلى الحلف، إلا أن القبول “الغير مسبوق في سرعته” لهذا الطلب، أعاد طرح تداعيات هذا الملف على الوضع الاستراتيجي والعسكري فيما يمكن وصفه بأنه “الحد الشمالي” لحلف الناتو، وماهية الخيارات الروسية المتاحة للتعامل مع واقع تكتيكي وميداني جديد بدأت عملية تكريسه بشكل فعلي على أطرافها الشمالية الغربية، وهو واقع يفرض على موسكو تعديلات جديدة على عقيدتها العسكرية وأولوياتها الاستراتيجية، في ظل انضمام “طرف جديد” إلى الجبهة التي تتشكل ببطء منذ سنوات ضدها في أوروبا.
كان الرهان الروسي خلال العام الماضي، يرتكز على إمكانية إنهاء العمليات العسكرية في أوكرانيا بشكل سريع – وبصورة تتسم بانتصار حاسم وعريض – بشكل يمكن من خلاله بدء التفاوض مع الدول الأوروبية على ضمانات أمنية مستقبلية، يمكن من خلالها أن تضمن موسكو عدم تأثير انضمام فنلندا والسويد – وربما مولدوفا وصربيا لاحقًا – على المعادلات الأمنية والاستراتيجية الروسية. اعتمد هذا الرهان بشكل رئيس على طبيعة المسار الذي تسلكه الدول الأوروبية عادة من أجل الانضمام إلى حلف الناتو، وهو مسار طويل زمنيًا وإجرائيًا، حتى بالنسبة إلى دول أوروبية متقدمة مثل فنلندا والسويد، خاصة إذا ما ترافق مسعى هذه الدول للدخول ضمن منظومة الحلف، مع تحفظ بعض الدول على هذا المسعى – مثل تركيا والتشيك مثلًا – وهو ما كان متوقعًا أن يؤدي إلى إطالة مسار انضمام دول جديدة إلى الحلف، أو حتى إنهاء هذا المسار تمامًا.
من الأسباب الرئيسة لطول أمد عملية الانضمام إلى حلف الناتو- والتي قد تستغرق في المجمل نحو سبعة أعوام – ضرورة استيفاء الدول الراغبة في الانضمام للحلف، لعشرات البنود المتعلقة بالجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والقانونية والأمنية، منها مثلًا وجوب اتفاق دول الحلف كافة على دعوة كلا البلدين للدخول في مفاوضات الانضمام، ومن ثم المصادقة على بروتوكولات الانضمام، والتعديلات التي ستطرأ على معاهدة الحلف، من قبل جميع البرلمانات في الدول الأعضاء في الحلف، وهي الخطوة الأطول والأكثر تعقيدًا، ويعقبها توقيع ممثلي كافة الدول الأعضاء في الحلف على هذه البروتوكولات، وهو ما حدث مع دول مثل جمهوريتي الجبل الأسود ومقدونيا، اللتان استغرقتا عدة سنوات للإيفاء بمتطلبات الانضمام لحلف الناتو، وتمت الإجراءات النهائية لضمهما على مدار عام ونصف، ناهيك عن أن دولًا مثل البوسنة والهرسك وجورجيا، تم ترشحيها للانضمام للحلف منذ سنوات، لكن ما زالت عملية ضمهما له جارية.
لكن في حالة فنلندا تم تسريع عملية انضمامها لحلف الناتو بشكل لافت، بحيث استغرقت عملية إتمام إجراءات الضم أقل من عام واحد فقط، وهي مدة تعتبر الأقل في تاريخ الحلف منذ تأسيسه. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه التطورات الجارية حاليًا في شرق أوروبا ربما تكون من الأسباب الرئيسة لتسريع إجراءات الضم، إلا أن بعض التحليلات تشير إلى أن فنلندا تعمل منذ عقود – بشكل بطيء – على الإيفاء بمتطلبات الانضمام للحلف، وبالتالي قد تكون قد انضمت بشكل سريع إلى الحلف، لكن عملية التجهيز لهذه الخطوة قد تعود إلى عقود مضت. أهمية هذه الخطوة تضاعفت بسبب فشل موسكو في استغلال الوقت الذي وفره لها اعتراض تركيا على انضمام فنلندا لحلف الناتو، من أجل تحقيق أهدافها العسكرية كاملة في جنوب وشرق أوكرانيا، ولفهم أكثر لهذه الزاوية، لا بد من النظر أولًا بشكل أكثر تحليلًا لملف “حياد فنلندا”، الذي تم عمليًا إنهاؤه بشكل كامل، بانضمام هلسنكي إلى حلف الناتو.
حياد فنلندا بين الماضي والحاضر
من حيث الشكل، يمكن – نظريًا – اعتبار إتمام خطوات انضمام فنلندا إلى حلف الناتو بمثابة “تحول استراتيجي” في سياسة هلسنكي، التي ظلت على مدار عقود تدور في فلك “الحياد الإيجابي”. حيث حرصت فنلندا خلال العقود السابقة على محاولة اتقاء الغضب الروسي قدر الإمكان، نظرًا لأنها كانت بشكل دائم، عرضة للضغوط الروسية متعددة الأشكال، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الفنلندية، وهو ما دفعها للبحث بشكل دائم عن ملاذات إقليمية للتعاون العسكري، خاصة مع دول البلطيق وشرق أوروبا مثل أستونيا والسويد ولاتفيا وبولندا، لكنها لم تنجح في العثور على ملاذ آمن في هذا الإطار، ما اضطرها لتوقيع اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي عام 1932، تنص على عدم دخول كلا الطرفين في أي نزاع عسكري. هذه المعاهدة لم تمنع خوض البلدين لاحقًا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، نزاع عسكري شديد الوطأة، تمثل في حربين هما “حرب الشتاء” وحرب الاستمرار”، اللتان خسرتهما فنلندا واضطرت في النهاية للتنازل عن أجزاء من أراضيها، تحت وطأة تبعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل إقليم “كاريليا” الذي أصبح فيما بعد، وتحديدًا في نوفمبر 1991، جمهورية ذات حكم ذاتي داخل الاتحاد الروسي.
رغم ميل ميزان المواجهة العسكرية التاريخي بين البلدين بشدة لصالح موسكو، إلا أن فنلندا مثلت نموذجًا عسكريًا نادرًا على إمكانية إلحاق قوة عسكرية متواضعة الإمكانيات، خسائر فادحة بقوة عسكرية معادية متفوقة عددًا وعدة، حيث اتسم أداء الوحدات العسكرية الفنلندية خلال “حرب الشتاء” التي دارت بينها وبين الجيش الأحمر السوفيتي بين عامي 1939 و1940، وكذا “حرب الاستمرار”، التي استمرت منذ عام 1941 وحتى سبتمبر 1944، بالفعالية الشديدة خاصة في معركة “سوموسالمي”.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظلت هلسنكي، أسيرة نفوذ الكرملين، حيث تمكنت موسكو من إبقاء المواقف الفنلندية حيال الصراع بينها وبين واشنطن تحت السيطرة، خاصة وأن الأوساط الداخلية في فنلندا كانت تنظر لحالة “السكون” الفنلندية على أنها عامل مساعد في تحسين مجال المناورة الوطنية، من خلال استخدام سياسة الحياد الرسمي، لتجنب الاضطرار إلى اتخاذ مواقف دولية موالية لهذا الطرف أو ذاك، ما قد يوقعها في أتون صراعات القوى العظمى.
لهذا السبب ظلت فنلندا طيلة الحرب الباردة خارج حلف الناتو، واتسمت مساهمتها في المنظومة الدفاعية الأوروبية بالضآلة الشديدة طيلة هذه الفترة، وهذا يعزى بشكل خاص إلى بنود “معاهدة باريس” و”معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة”، فالأولى تم توقيعها عام 1947، ونصت على تقييد تسلح الجيش الفنلندي، وتنازل فنلندا عن معظم مناطق إقليم “كاريليا” جنوب شرق البلاد، وإقرارها بنزع سلاح بعض الجزر التابعة لها، وضمان حرية الملاحة في خليج فنلندا، ومنح أسطول بحر البلطيق السوفيتي شبه جزيرة “بوركالا”، لتصبح بمثابة قاعدة له، استمرت قائمة حتى عام 1956. هذه المعاهدة كانت بمثابة نقطة البداية لتكريس “الحالة الحيادية” لفنلندا، التي تم تأطيرها بشكل أكبر عبر “معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة”، الموقعة عام 1948، وهي معاهدة لم تكرس فقط للهيمنة السوفيتية على فنلندا خلال العقود اللاحقة، بل أوجدت أيضًا مصطلحًا أصبح يشار به إلى حالة خضوع أي دولة صغيرة أو ضعيفة لجارتها القوية، وهو مصطلح “الفنلدة”.
أهم ما نصت عليه هذه المعاهدة كان إعطاء الحق لموسكو في التدخل العسكري المباشر في فنلندا، في حالة دخول قوات حلف الناتو إلى أي أرض فنلندية، وهو ما رسم حدود العلاقة العسكرية بين الأطراف الثلاثة – حلف الناتو والاتحاد السوفيتي وفنلندا – حتى نهاية الباردة، ورسم كذلك شكل السياسة الداخلية والخارجية الفنلندية، التي ارتكزت على عدة مبادئ أساسية، على رأسها مبدأ “باسيكيفي-كيكونين” الذي كرس سياسة خارجية “محايدة” لفنلندا طيلة فترة الحرب الباردة، أجبرت هلسنكي على تجنب أية مواقف قد تعتبرها موسكو “استفزازًا” على المستوى الأوروبي، وأحجمت عن المشاركة في مبادرات ومشاريع أوروبية عديدة، على رأسها “مشروع مارشال” الاقتصادي لإعادة إعمار أوروبا.
نقطة بداية تحرك هلسنكي نحو حلف الناتو
شكل انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه أوائل تسعينيات القرن الماضي، فرصة لتحرر الدول المحيطة به – ومنها فنلندا – من سيطرة ونفوذ الكرملين، وهو ما بدا من خلال توقيع موسكو وهلسنكي أوائل عام 1992، معاهدة جديدة لتأطير العلاقات بينهما، تم خلالها إلغاء كل ما نصت عليه معاهدة 1948. لكن كان واضحًا بشكل كبير خلال السنوات اللاحقة، بدء هلسنكي في الخروج بشكل تدريجي – حذر جدًا – من عباءة “الحياد”، والاقتراب بشكل أكبر من حلف الناتو، وكانت البداية عام 1994، بتوقيعها على سلسلة من بروتوكولات التعاون العسكري مع الحلف تحت عنوان “الشراكة من أجل السلام”، ومنذ ذلك التوقيت اتسمت مسيرتها نحو التعاون العسكري والدفاعي مع الحلف بالبطء الشديد، ولم تبدأ في التفكير بشكل جدي في العمل على الإيفاء بمعايير الحلف الدفاعية إلا بداية من عام 2007، الذي شهد ظهور أصوات عديدة داخل المؤسسة العسكرية الفنلندية، تطالب بتوسيع قاعدة التسلح وتطويرها، وهذا بدأ بشكل ضمني من خلال مشاركة القوات الفنلندية تحت لواء حلف الناتو، في عدة عمليات عسكرية خارجية، خاصة في إقليم كوسوفو وأفغانستان والعراق ولبنان.
نقطة التحول في عملية “عكس” حالة الحياد التي كانت تتسم بها السياسة الفنلندية، كانت موسكو – للمفارقة – سببًا رئيسًا فيها، ألا وهي عملية ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، التي شكلت حجر زاوية في بدء تحرك فنلندا بشكل أسرع نحو حلف الناتو، حيث استشعرت هلسنكي التهديدات المستجدة على الوضع الجيوسياسي شرق أوروبا، وإن حافظت في نفس الوقت على تحركاتها الحذرة خشية استفزاز موسكو، فركزت جهودها على ثلاثة مسارات أساسية، هي توقيع اتفاقيات للتعاون الدفاعي مع الدول الأوروبية، وزيادة كم التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة مع دول حلف الناتو، والشروع في إجراءات إصلاحية تخص القوانين المنظمة للقوات المسلحة الفنلندية. جهود هلسنكي تقاطعت مع قناعة حلف الناتو بحاجته الماسة للتعاون مع فنلندا، التي أصبحت رقمًا مهمًا في المعادلة الدفاعية للحلف في شمال أوروبا وفي نطاق بحر البلطيق والقطب الشمالي.
تحركت فنلندا منذ عام 2014 في المسارات الثلاث السالف ذكرها، وهو تحرك كانت تصريحات وزير الدفاع الفنلندي “كارل هاغلوند” في أبريل 2014، تدشينًا علنيًا لها، حين قال إن الحكومة الفنلندية ستشرع في توقيع مجموعة من مذكرات التفاهم مع حلف الناتو، لاستقبال مساعدات تقنية وتسليحية عسكرية من الحلف، وهو ما تبعه تكثيف واضح في التعاون العسكري بين الجانبين، حيث انضمت وحدات فنلندية إلى العديد من الوحدات العسكرية متعددة الجنسيات، مثل “قوة الاستطلاع المشتركة” التي تقودها المملكة المتحدة، و”مبادرة التدخل الأوروبية” التي تقودها باريس. كذلك وقعت هلسنكي اتفاقيات ثنائية للشراكة والتعاون العسكري مع العديد من الدول، مثل السويد والنرويج وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بجانب توقيع اتفاقيات أخرى مع حلف الناتو، مثل اتفاقية الانضمام لبرنامج “شراكة الفرصة المحسنة”، واتفاقيات خاصة بتبادل البيانات الجوية، وقد تضمنت هذه التحركات أيضًا تكثيف مشاركة القوات الفنلندية في مناورات حلف الناتو العسكرية مثل مناورات “ترايدنت جونكتشر” و”بالتوبس” والتدريبات السنوية لإدارة الأزمات، وكذا استضافة فنلندا لمجموعة أخرى من مناورات الحلف، مثل مناورات “بولد كويست” الجوية.
إذن مما سبق يمكن فهم أن عملية تحول فنلندا من الحالة “المحايدة” إلى حالة الاصطفاف ضمن حلف الناتو، قد بدأت عمليًا منذ عام 2007، وان تسريع هذه العملية قد بدأ في أعقاب ضم موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014. هنا يظهر التأثير” العكسي” الذي تسببت به العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي كانت – ظاهريًا على الأقل – تستهدف منع ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، لكنها تسببت في تحفيز دول “محايدة” مثل فنلندا، على الهرولة نحو الانضمام إلى حلف الناتو، لدرجة أن هذه العملية قد تسببت في تغيير المزاج الشعبي في فنلندا حيال الانضمام إلى حلف الناتو، فقد كانت نسبة تأييد الانضمام للحلف في الأوساط الشعبية الفنلندية، حسب استطلاع للرأي العام أجراه المجلس الاستشاري الفنلندي للمعلومات الدفاعية في ديسمبر 2021، لا تتعدى 24 % فقط من المستطلعة آراؤهم، مقابل معارضة 51 %، وهو ما اختلف بشكل جذري بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى أن نسبة تأييد الانضمام للحلف في فنلندا تصل إلى 80 %.
المعضلة الرئيسة التي تواجهها موسكو فيما يتعلق بانضمام فنلندا إلى حلف الناتو، ترتبط بتغيرات جذرية شابت المعادلة الاستراتيجية والعسكرية في عدة نطاقات أساسية بالنسبة لروسيا، وهي نطاق بحر الشمال والقطب الشمالي، ونطاق بحر البلطيق وخليج فنلندا، ونطاق خط التماس المباشر بينها وبين حلف الناتو، ناهيك عن ضرورة إحداث تعديلات عامة على العقيدة العسكرية الروسية وعمليات الانتشار والتمركز، نتيجة نشوء واقع جديد على الحدود بين روسيا وفنلندا، وهي الحدود التي كانت حتى وقت قريب، من أهدأ “الجبهات” المحيطة بالاتحاد الروسي.
وعلى الرغم من التحديات التي طرأت حيال روسيا في النطاقات السابق ذكرها، إلا أن موسكو لا تزال تراهن على تحقيقها تقدم ميداني لافت في أوكرانيا، تستند على أثره عندما يحين موعد التفاوض حول الضمانات الأمنية، ناهيك عن وجود عدة عوامل أخرى، من بينها استمرار الاعتراضات التشيكية والتركية على انضمام السويد لحلف الناتو، وعدم اتضاح حجم ومستوى تواجد الحلف في الأراضي الفنلندية خلال المدى المنظور، وما إذا كان هذا التواجد سيكون على نفس نسق انخراط الحلف في رومانيا وبولندا مثلًا، أم سيكون على نسق تواجد الحلف في النرويج، وهي كلها عوامل تجعل من خطوة انضمام هلسنكي للحلف منقوصة وغير متكاملة، على الأقل مرحليًا.
التداعيات الاستراتيجية لانضمام فنلندا للناتو على شرق أوروبا
تبدو منطقة بحر البلطيق هي المنطقة الأكثر تأثرًا بدخول فنلندا في منظومة حلف الناتو، نظرًا لأن فنلندا من الدول المطلة على هذا البحر، وعلى خليج فنلندا الذي يعد المدخل الأساسي للقاعدة الرئيسة الثانية لأسطول بحر البلطيق الروسي، الواقعة في منطقة “كرونستدت” التابعة لمدينة سانت بطرسبرغ، التي تبعد عنها العاصمة الفنلندية نحو 320 كيلو متر فقط. يضاف إلى ذلك أن العاصمة الفنلندية تبعد نحو 780 كيلو متر، عن القاعدة الرئيسة لأسطول بحر البلطيق، الواقعة في ميناء “بالتييسك” بإقليم “كالينجراد” الواقع بين بولندا وليتوانيا، وتحتفظ موسكو فيها بتشكيلات مهمة من الوسائط العسكرية المتنوعة، على رأسها 19 طراد صاروخي، خمسة منها تتسلح بصواريخ “كاليبر” الجوالة البالغ مداها 1500 كيلو متر، كذلك تعمل ضمن وحدات هذا الأسطول وحدات حرب إلكترونية متنوعة، يمكن من خلالها التشويش على اتصالات الوحدات التابعة لحلف الناتو، يضاف إلى هذه الوحدات، تواجد ثلاثة تشكيلات صاروخية روسية في هذه المنطقة تتسلح بصواريخ “إسكندر- أم” الباليستية، وصواريخ “باستيون” الأسرع من الصوت المضادة للقطع البحرية.
دخول فنلندا ضمن معادلة حلف الناتو في هذا النطاق، تعطي للحلف موطئ قدم مهم قرب كلا القاعدتين، وعلى خليج فنلندا وبحر البلطيق بشكل عام، لتكون هذه خطوة إضافية نحو تحويل هذا المسطح المائي بشكل تدريجي إلى بحر داخلي للحلف، حيث باتت فنلندا وإستونيا مشرفتين بشكل كامل على مدخل خليج فنلندا، في حين تحتفظ السويد – المتوقع انضمامها مستقبلًا لحلف الناتو – بتموضع مهم قرب قاعدة “بالتييسك”، ألا وهو جزيرة “جوتلاند”. هذا الوضع يساهم بشكل عام في تعزيز الدفاعات البحرية لحلف الناتو، خاصة في حالة نشر صواريخ مضادة للقطع البحرية في فنلندا، حيث لا يتجاوز عرض أوسع مجال بحري في بحر البلطيق الـ 270 كلم، وهو مدى مناسب للصواريخ الأمريكية والأوروبية المضادة للقطع البحرية. هذا يفرض في نفس الوقت أعباء إضافية على أسطول بحر البلطيق الروسي، الذي ستتزايد التهديدات المتعلقة بأمنه وأمن تحركاته في خليج فنلندا وبحر البلطيق نظرًا للأوضاع الجديدة.
فيما يتعلق بالقطب الشمالي وبحر الشمال، يمكن النظر أيضًا إلى دخول فنلندا إلى حلف الناتو من نفس الزاوية السابقة، على الرغم من أن فنلندا ليست مطلة على بحر الشمال، لكنها قريبة منه جغرافيًا، وتحتفظ بتواجد مهم في القطب الشمالي، وهذا كله يتيح لفنلندا لعب دور مهم في مراقبة التواجد العسكري الروسي في نطاق شبه جزيرة “كولا” التي تبعد نحو 177 كم شرق الحدود، خاصة قواعد تواجد الغواصات النووية الروسية التابعة لأسطول بحر الشمال مثل قاعدتي “مورمانسك” و”جادجييفو” للغواصات، والمرافق التابعة لأسطول الشمال الروسي في خليج “أوكولنايا” ومنطقة “بولشوي”، وقاعدة “سيفرومورسك -1” الجوية، وموقع اختبار الصواريخ الاستراتيجية المسمى “بليستيك”. يضاف إلى هذا إمكانية استخدام الأراضي الفنلندية للدفاع – عند الضرورة – عن الشريط الرفيع من الأراضي النرويجية الذي يتماس مع الأراضي الروسية، ناهيك عن إمكانية الاعتماد على المطارات الفنلندية لدعم المجهود الجوي لحلف الناتو في القطب الشمالي، والذي يعتمد بشكل كبير على المطارات النرويجية.
يضاف إلى ما سبق التغيرات المهمة التي طرأت – جراء انضمام فنلندا لحلف الناتو – على حالة “الحد الأمامي” للتماس بين الاتحاد الروسي وحلف الناتو، لأن هذه الخطوة أدت إلى تكوين “جناح إسكندنافي” لحلف الناتو، من خلاله تضاعفت مساحة الحدود المباشرة بين الحلف وروسيا من نحو 700 كيلو متر إلى ما يقرب من 2000 كيلو متر، وارتفع حجم القوات العسكرية الموجودة على هذه الحدود من 50 ألف جندي فقط، إلى 300 ألف جندي، وهو ما سيجبر القيادة العسكرية الروسية على تسريع عملية بدأت فعليًا أواخر العام الماضي، لتعزيز قواتها ووحداتها العسكرية في النطاق الشمالي والشمالي الغربي الروسي.
عمليات الإمداد والتموضع العسكري لحلف الناتو على خط التماس المباشر مع روسيا تبدو من النقاط المهمة فيما يتعلق بانضمام فنلندا للحلف، فقد كانت عمليات إمداد دول البلطيق الثلاث – إستونيا ولاتفيا وليتوانيا – في حالة اندلاع مواجهة عسكرية مع روسيا، من الأمور المقلقة بالنسبة لحلف الناتو، نظرًا لاعتماد الحلف في هذا الأمر على ممر “سوالكي”، البالغ طوله نحو 65 كيلو متر، الذي تستخدمه موسكو للربط بين إقليم كالينجراد والأراضي الروسية عبر بيلاروسيا، ويعتبر في نفس الوقت ممر الإمداد الوحيد إلى دول البلطيق من الأراضي البولندية. خشية الحلف من إمكانية إغلاق هذا الممر من جانب موسكو، وتعذر إمداد دول البلطيق بريًا. دخول فنلندا إلى حلف الناتو وفر خط جديد لإمداد دول البلطيق، حيث تقع فنلندا على الجانب الآخر من خليج فنلندا قبالة أستونيا، وتبعد العاصمة الفنلندية أقل من 70 كيلومتر عن العاصمة الإستونية، وهو ما يسمح بالتعزيز البحري والجوي السريع لدول البلطيق في حالة الطوارئ. خط الإمداد هذا سيضاف إليه – مع الدخول المتوقع للسويد إلى حلف الناتو قريبًا – خط إمداد إضافي أكبر متجه إلى الحدود الروسية، يربط بين السويد والنرويج وفنلندا، يمكن استخدامه أيضًا في حالة الضرورة، للدفع السريع للقوات والمعدات.
من أبرز التداعيات الاستراتيجية لتفعيل انضمام فنلندا لحلف الناتو، ما يتعلق بظهور مخاوف روسية جدية من حجم ومستوى أي تواجد مؤقت أو دائم لقواعد عسكرية أو وسائط قتالية لحلف الناتو على الأراضي الفنلندية، خاصة طائرات الإنذار المبكر والاستطلاع، وكذا المنظومات الصاروخية، لأن تماس الأراضي الفنلندية مع الأراضي الروسية، يسمح عمليًا برصد أقسام كبيرة من الأراضي الروسية باستخدام طائرات الاستطلاع، ويسمح أيضًا باستخدام منظومات صاروخية متوسط المدى لاستهداف مناطق واسعة في روسيا، وفي نفس الوقت يوفر هامش زمني ضئيل للدفاعات الروسية كي تتجاوب مع التهديدات الصاروخية المنطلقة، فالعاصمة الروسية تبعد مسافة 800 كيلومتر فقط عن الحدود مع فنلندا، وكذلك تبعد ثاني أكبر مدينة روسية – سانت بطرسبرغ – 150 كيلو متر فقط عن الحدود الفنلندية، وهو الوضع الذي يفرض في المجمل معادلات عسكرية واستراتيجية جديدة في هذا النطاق الجغرافي.
وعلى الرغم من أن التواجد الدائم للقدرات العسكرية المتقدمة لحلف الناتو في فنلندا يبقى من أهم هواجس موسكو في هذه المرحلة، إلا أن القدرات العسكرية التي ستضاف إلى الحلف نتيجة لدخول فنلندا ضمن منظومته تحظى بأهمية لا يمكن تجاهلها، بالنظر إلى أن المنظومة المدنية والعسكرية الفنلندية تم تأسيسها بذهنية “الدفاع الشامل”، أي مشاركة جميع هياكل الدولة والمواطنين في المجهود الحربي، وهي تضع في الاعتبار دومًا وجود احتمالات كبيرة لاجتياح البلاد من جانب الجيش الروسي، لذا تمتلك فنلندا مخططات مفصلة لكيفية التعامل مع هذا التهديد في حالة حدوثه، بما في ذلك نشر الطائرات المقاتلة على الطرق البعيدة في جميع أنحاء البلاد، وزرع الألغام في الممرات البحرية الرئيسة، وإعداد الدفاعات الأرضية مثل تفجير الجسور، وتجهيز عشرات الأنفاق ومئات الملاجئ المحصنة ضد القنابل، وتعزيز المخزونات الاستراتيجية من الإمدادات من جميع أنواع الوقود والحبوب الرئيسة لتفي باحتياجات لفترة لا تقل عن ستة أشهر، في حين أن شركات الأدوية الفنلندية ملزمة بتأمين مخزون يكفي من 3-10 أشهر من جميع الأدوية المستوردة.
تبقى القوة البشرية من أهم المميزات التي تضيفها فنلندا لحلف الناتو، حيث تمتلك قوة عسكرية عاملة يبلغ قوامها 23 ألف فرد، مع إمكانية رفعها في حالة الطوارئ لتصبح في حدود 280 ألف جندي عامل، يضاف إليهم في حالة التعبئة العامة نحو 900 ألف جندي كقوة احتياط، وهي قوة احتياط تعتبر الأكبر في أوروبا، بالنظر إلى أن دول أخرى مثل النرويج مثلًا، ورغم امتلاكها عدد سكان مماثل لفنلندا، إلا أن قواتها العاملة والاحتياطية مجتمعة لا تتجاوز 65 ألف جندي فقط. على مستوى التسليح، تعتبر وحدات المدفعية والمدفعية الصاروخية، من أهم نقاط قوة الجيش الفنلندي، نظرًا لأنها تعتبر من أكبر القوى المدفعية في أوروبا كلها، بعدد مدافع يتراوح بين 800 و1000 مدفع، تتضمن 650 مدفع هاوتزر وهاون مقطور، بجانب مائة راجمة صواريخ. على مستوى القوة الجوية، تمتلك هلسنكي نحو 160 طائرة في سلاحها الجوي، لا تتضمن مروحيات قتالية، لكن تضم 55 طائرة مقاتلة من نوع “أف-18″، أضيف إليها 64 مقاتلة أمريكية من الجيل الخامس، من نوع “أف-35″، تعاقدت عليها فنلندا أواخر عام 2021.
بحريًا، تتكون البحرية الفنلندية من قرابة 250 قطعة بحرية، لكن جوهر هذه القوة هو ثمانية زوارق صاروخية سريعة، وثمانية عشر سفينة لكسح الألغام. هذه القوة البحرية الصغيرة، ملائمة لطبيعة الساحل الفنلندي، وللمهام الأساسية المطلوبة منها، والتي تتلخص في عمليات المراقبة الساحلية وعمليات مكافحة الغواصات، وقد حدث عدة مرات وأن استخدمت الوحدات البحرية الفنلندية قذائف الأعماق لاستهداف ما يعتقد أنه غواصات روسية تتحرك قرب الساحل الفنلندي. تفتقر هذه القوة للغواصات وللفرقاطات الثقيلة سواء المخصصة لعمليات مكافحة الغواصات أو فرقاطات الدفاع الجوي، لكن توفر القوة الحالية القدرة لحلف الناتو على المراقبة الآنية للتحركات البحرية الروسية، وكذلك تنص خطة التسليح الفنلندية التي أعلنت عام 2019 وتستمر حتى عام 2031، على شراء فرقاطات ثقيلة.
الخيارات الروسية إزاء الوضع المستجد في شمالها الغربي
بالنظر لما تقدم، يمكن بشكل واضح اعتبار تفعيل انضمام فنلندا إلى حلف الناتو بمثابة “انتكاسة” استراتيجية لموسكو، تفرض عليها اتخاذ إجراءات مضادة لمحاولة حصار الإضرار الاستراتيجية والتكتيكية التي لحقت بها، وفي هذا الصدد لا تبرز خيارات كثيرة، وتنحصر في ما يلي:
أ- التعزيزات العسكرية: كان من ضمن ردود الفعل الروسية المباشرة على انضمام فنلندا بشكل رسمي لحلف الناتو، تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر جروشكو، التي تحدث من خلالها عن عزم بلاده تعزيز قدراتها العسكرية في مناطق غرب وشمال غرب البلاد، وهو تصريح وإن كان يحمل مضمونًا متوقعًا، إلا أنه يعتبر بمثابة إقرار بواقع بدأ تفعيله منذ إعلان فنلندا في مايو الماضي رغبتها في الانضمام للحلف، حيث حركت موسكو منظومات صاروخية قرب الحدود معها، وهو ما تعزز في ديسمبر الماضي، عبر مجموعة من الإجراءات العسكرية التي أعلنت عنها القيادة الروسية، ومنها تأسيس مناطق عسكرية جديدة في محيط مدينة سانت بطرسبرج، وفي جمهورية “كاريليا” ذات الحكم الذاتي، التي تقع على الحدود مع فنلندا، بجانب إعادة هيكلة نحو سبعة ألوية قتالية، تقع في المنطقة الغربية والمركزية وضمن وحدات أسطول بحر الشمال.
حقيقة الأمر أن التموضع العسكري الروسي قرب الحدود مع فنلندا قد شابه عدة متغيرات قبل وبعد بدء المعارك في أوكرانيا، ففي المراحل السابقة كانت موسكو تحتفظ بالحد الأدنى من الوحدات العسكرية التابعة للجيش السادس قرب الحدود الروسية مع دول بحر البلطيق، لكن بدأت منذ أوائل عام 2015، في إعادة تفعيل بعض القواعد العسكرية القريبة جدًا من الحدود مع فنلندا، وعلى رأسها قاعدة ” ألاكورتي” في منطقة مورمانسك، التي تبعد نحو 60 كيلو متر فقط عن الحدود، وتم إغلاقها سابقًا عام 2009، لكن مع إعادة تفعيلها تمركز بها ما مجموعه 3000 جندي من أسطول بحر الشمال، يخدم أغلبهم في وحدات الاتصالات والحرب الإلكترونية. قبل ذلك بعام واحد، بدأت موسكو بشكل منتظم في تنفيذ تدريبات عسكرية في جزيرة “غوغلاند” الواقعة على بعد حوالي 40 كيلومترًا جنوب ميناء “كوتكا” الفنلندي في بحر البلطيق، والتي احتضنت لاحقًا مهبطًا للمروحيات ومحطة رادار.
القوات الروسية المتواجدة قرب الحدود مع فنلندا، والتي تشير التقديرات إلى أن تعدادها يصل إلى 30 ألف جندي من الجيش السادس، تعرضت لتعديلات لافتة بعد بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، حيث أشارت تقديرات غربية إلى أن نحو 80 % منهم قد تم إرسالهم للجبهات الأوكرانية المختلفة بحلول شهر سبتمبر الماضي، وهو ما يضيف صعوبات إضافية على المساعي الروسية لتعزيز قواتها قرب الحدود مع فنلندا، خاصة في حالة ما إذا توسعت رقعة المعارك في أوكرانيا مستقبلًا. لكن بغض النظر عن هذه النقطة، يمكن القول إن التعزيزات الروسية ربما تشمل أيضًا نشر لقوات ووسائط قتالية مهمة إضافية في جزيرة “غوغلاند” وفي إقليم “كالينجراد”، لتحسين الوضع الاستراتيجي للقوات الروسية هناك، وهو ما يمكن ربطه أيضًا بالنوايا الروسية التي تم إعلانها مؤخرًا، لتمركز أسلحة نووية استراتيجية في بيلاروسيا، وهي خطوة ربما يتم تصعيدها بشكل أكبر في اتجاهات جغرافية أخرى، مثل إقليم “ترانسنيستريا” في مولدوفا.
ب- خيارات غير عسكرية: منها مثلًا تشجيع الهجرة غير الشرعية من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا إلى فنلندا، علمًا أن مسارات الهجرة إلى الحدود الفنلندية موجودة بالفعل، ويمكن في حالة زيادة حجم التدفقات نحوها تشكيل ضغط على هلسنكي، لا يرقى إلى مستوى التهديد العسكري. من الخيارات الغير العسكرية الأخرى ملف الغاز الروسي، فعلى الرغم من وقف إمدادات الغاز الروسية إلى هلسنكي في مايو الماضي، استمرت شركة “غازوم” الفنلندية في تلقي شحنات من الغاز الروسي المسال عبر ميناء “هامينا” جنوبي البلاد، بموجب عقد طويل الأجل مبرم مع شركتي “غازبروم” و”نوفاتيك” الروسيتين، وهي عملية باتت تتم خلال الأشهر الماضية بطرق غير مباشرة، يتم فيها نقل الغاز المسال أولًا إلى سفن وسيطة ومن ثم يتم نقله إلى فنلندا، وبالتالي يمكن لموسكو تضييق الخناق أكثر مستقبلًا على هلسنكي في هذا الصدد.
خلاصة القول، إن الخيارات الروسية بعد تفعيل انضمام فنلندا إلى حلف الناتو تبدو ضئيلة، لكن في نفس الوقت يمكن أن نعتبر أن هذه الخطوة تحمل ضغوطًا استراتيجية على كلا الجانبين وليس على الجانب الروسي فقط، فزيادة حجم التماس الجغرافي بين الحلف وروسيا، سيرفع بالضرورة مخاطر اندلاع مواجهات عسكرية محدودة أو واسعة بينهما. ستحاول موسكو من جانبها الضغط خلال الفترة المقبلة بشتى الطرق على فنلندا لتحجيم انخراطها الميداني في أنشطة الناتو، وستعمل كذلك على وضع عراقيل أمام دخول السويد إلى الحلف، خاصة في ظل تزايد الضغوط الأوروبية على صربيا للتخلي عن مواقفها الحالية من موسكو، وبالتالي يمكن القول إن مآلات الخيارات الروسية والفنلندية ستكون رهنًا بحجم استغلال حلف الناتو لقدرات وأراضي الثانية، ومدى قدرة الأولى على حسم الأمور ميدانيًا في أوكرانيا بشكل يسمح لها بفرض معادلة عسكرية جديدة.