الضغوط الهادئة.. ما هي حدود النفوذ الأمريكي على إسرائيل؟
“إن التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا يتزعزع رغم وجود خلافات عرضية بينهما”. بتلك الكلمات حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر الديمقراطية في واشنطن في نهاية مارس 2023، وضع حد للخلاف الذي هز العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية أزمة التعديلات القضائية داخل إسرائيل. بعد أن كشفت الأزمة السياسية التي اجتاحت إسرائيل حدود النفوذ الأمريكي على البلاد، والمفروض ذاتيًا لالتزام واشنطن المطلق بأمن إسرائيل، وقوة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، والتي في رباط وثيق لا انفصام له مهما حدث.
لطالما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل لأسباب أمنية ودينية وسياسية أيديولوجية. منذ الحرب الباردة، كانت إسرائيل شريك رئيس في حماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. داخل الولايات المتحدة، كان تأثير اللاهوت التدبيري بين المسيحيين الإنجيليين، الذي يرى أنه يجب استعادة إسرائيل قبل أن تبدأ الأيام الأخيرة ويعود المسيح، عاملًا محفزًا قويًا وراء الدعم الأمريكي. وأخيرًا، غالبا ما تعتبر إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وبالتالي يُنظر إليها على أنها حليف أيديولوجي مهم. وقد تضافرت هذه الأسباب لخلق لوبي قوي مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، سواء بالمعنى الرسمي للضغط على أعضاء الكونجرس أو بالمعنى الأوسع لخلق دائرة انتخابية قوية بين الناخبين الأمريكيين، مما يجعل دعم إسرائيل قضية رئيسة لكلا الحزبين.
خيارات بايدن أمام قانون الإصلاح القضائي
عمقت خطة الإصلاح القضائي، التي قدمتها حكومة نتنياهو، الانقسامات السياسية في إسرائيل وأثارت احتجاجات شعبية واعتراضات بين المواطنين وداخل صفوف الجيش الإسرائيلي، لأنها ستمنح نتنياهو الذي يحاكم بتهم فساد القول الفصل في تعيين القضاة. وستمنح البرلمان، الذي يسيطر عليه حلفاؤه، سلطة إلغاء قرارات المحكمة العليا والحد من قدرة المحكمة على مراجعة القوانين. وكان على بايدن اتخاذ موقف لردع نتنياهو والتأكيد على أن أي تغيير أساسي في النظام القضائي الإسرائيلي يجب أن يقوم على الإجماع من أجل الحصول على الشرعية من الرأي العام ويحظى باستدامة. وطوال الأزمة المستمرة منذ ثلاثة شهور، حاولت إدارة بايدن الانخراط في مساعي إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بعدم المضي قدما في القانون، واتبعت مقاربات لحل الأزمة من خلال:
أولاً: الحفاظ على خصوصية العلاقة بين الحليفين: على الرغم من أن الخط المعياري للبيت الأبيض سواء كان ديمقراطيًا أو جمهوريًا هو أن واشنطن لا تتدخل في السياسة الداخلية لحلفائها، إلا أن إدارة بايدن ظلت على تواصل دائم مع الحكومة الإسرائيلية لثني نتنياهو عن المضي في خطة الإصلاح القضائي، ووجهت نصائح خاصة في اجتماعات مع المسؤولين الإسرائيليين، ثم مارست ضغوطًا غير معلنة في كثير من الأحيان، ثم انتقلت إلى العلن مع إصرار نتنياهو على المضي في خطته. ووجهت انتقادات نادرة في وضوحها لإسرائيل عبر تصريحات وبيانات للضغط على نتنياهو، والتراجع عن خطة من شأنها أن تجعل من الصعب على إسرائيل الاستمرار في وصف نفسها على أنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، وستضر بالعلاقات مع أقوى حليف لها.
وفي أواخر يناير 2023، وخلال مؤتمر صحفي مشترك في القدس، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، موقفًا يتضمن نقدًا لنتنياهو حين قال إن علاقة البلدين قائمة على التزام مشترك بـ “المبادئ والمؤسسات الديمقراطية الأساسية”. ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية وانتقال الجدل إلى داخل المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين، تدخل بايدن في اتصال مع نتنياهو في 19 مارس الماضي. لكن النداءات الأمريكية لم تفي بالغرض، نظرًا لقوة الضغط الإسرائيلي الداخلي من نتنياهو وحزبه لإقرار التعديلات.
ثانيًا: تصاعد التوتر: بعد أن صرح نتنياهو، بأن إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها ولا تخضع لضغوط من الخارج بما في ذلك من أفضل الأصدقاء، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وأقدم على إقالة وزير الدفاع في حكومته اليمينية، يوآف جالانت، الذي يعتبر حليفًا أمريكيًا عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأمنية، عقب مجلس الأمن القومي الأمريكي على إقالة جالانت بالقول: “إننا نشعر بقلق عميق إزاء التطورات الجارية في إسرائيل، بما في ذلك تأثيرها المحتمل في الجاهزية العسكرية التي أشار إليها الوزير جالانت، ما يؤكد الحاجة الملحة إلى التوصل إلى حل وسط”.
ودخل البيت الأبيض في استشارات مكثفة من أجل تحديد طبيعة الردود الممكنة على قرار نتنياهو، والتي تراوحت ما بين إلغاء دعوة نتنياهو من أجل المشاركة في القمة الافتراضية حول الديمقراطية، في حال لم يتراجع رئيس الوزراء الإسرائيلي عن التشريع. وقرار البيت الأبيض بأن يصدر مجلس الأمن القومي بيانًا يعرب عن المخاوف حيال التطورات الحاصلة في إسرائيل، فضلا عن توجيه رسالة خاصة من بايدن إلى نتنياهو مفادها أن الرئيس الأمريكي يريد وقف التشريع.
وأجرى عددًا كبيرًا من ضباط الاحتياط بالجيش الإسرائيلي ممن لا تجمعهم أية ولاءات حزبية، زيارات إلى مراكز صنع القرار في واشنطن، ومكاتب المنظمات اليهودية وعدد من مكاتب قادة الكونجرس، وعقدوا لقاءات بوزارتي الخارجية والدفاع، والتقوا عددًا من مساعدي الرئيس بايدن بمجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، لإطلاعهم على مخاطر السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بتمرير خطة التشريعات الجديدة. ولاقت جولة الوفد الإسرائيلي المناوئة لتوجهات نتنياهو ترحيبًا وتفهمًا، مع تعهد بالضغط بكل السبل المتاحة على حكومته لتعطيل التشريعات التي تسمح بالسيطرة على القضاء.
ثالثُا: حزم الموقف: تزامنًا مع الفوضى والاحتجاجات الحاشدة التي شهدتها إسرائيل، بعث بايدن برسالة خاصة وحازمة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعدها خرج نتنياهو للإعلان عن تجميد تشريع الإصلاحات القضائية لفترة محددة لحين التواصل مع المعارضة. وعلى الرغم من أن تأجيل التشريع أدى إلى تخفيف التوتر مع واشنطن، فقد أوضحت تصريحات بايدن أن الولايات المتحدة لا تزال حذرة في شأن خطط نتنياهو، وستنتظر نتيجة المفاوضات. إذ قال بايدن إنه “قلقًا للغاية” بشأن مقترحات إصلاح القضاء.
وجاءت استجابة نتنياهو للضغوط الأمريكية لسببين: الأول، أن نتنياهو أخطأ بشكل كبير في الحسابات عندما أعلن إقالة وزير الجيش، الذي دعا علانية إلى تعليق الجهود لتمرير التشريع الذي من شأنه أن يغير طريقة تعيين القضاة. والثاني، هو أن نتنياهو كان يبحث عن مخرج من الأزمة، واستفاد من إخبار الشركاء اليمينيين في ائتلافه بأنه لا يمكنه المخاطرة بفقدان دعم أهم حليف لإسرائيل. خاصة وأن إسرائيل قد تواجه قريبًا أزمة مع إيران، التي تقترب أكثر من أي وقت مضى من امتلاك أسلحة نووية، وفي الوقت نفسه، استعادت العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، وتعمل على تعميق نفوذها الإقليمي وتعزيز العلاقات مع جيرانها الخليجيين بوساطة الصين. وبالتالي فإن إسرائيل لا تستطيع تحمل توتر العلاقات مع واشنطن.
فتور العلاقات بين بايدن ونتنياهو
التزام الولايات المتحدة وغير المشروط بالدفاع عن إسرائيل، سياسة تصفها واشنطن بأنها “مقدسة” لكنها لم تضمن تقارب العلاقات بين بايدن ونتنياهو، الذي اتخذ نهج أكثر حزبية بكثير في التعامل مع الولايات المتحدة من أسلافه، وكان يميل بشدة نحو الجمهوريين في السنوات الأخيرة. وعلى هذا، لم تحبذ إدارة بايدن عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء بعد انتخابات نوفمبر 2022. ولم يبادر بالاتصال به إلا بعد نحو شهر من تسلمه الرئاسة، وهو ما أثار جدلا وفتح باب التكهنات حول مستقبل العلاقات بين البلدين.
وقد جرت العادة أن يتصل أي رئيس أمريكي جديد برئيس وزراء إسرائيل بعد فترة ليست بطويلة من تنصيبه، باعتبار أن تل أبيب من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة، حيث اتصل الرئيس الأمريكي السابق ترامب على سبيل المثال بنتنياهو بعد يومين فقط من تنصيبه في عام 2017. في حين أنه عندما سقطت حكومة نتنياهو في يونيو 2021، لم يتأخر بايدن في الاتصال برئيس الوزراء الجديد، نفتالي بينيت، وهنأه بعد ساعتين فقط من أدائه اليمين الدستورية، ولم يمض شهر ونصف الشهر على توليه منصبه حتى التقى بايدن. أما نتنياهو، فلم يحظ بدعوة من البيت الأبيض منذ توليه رئاسة الحكومة. ما يشير إلى استياء الولايات المتحدة الواضح من سياسات حكومته اليمينية.
وعلى الرغم من أن التوترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل آخذة في التصاعد منذ أن أدت حكومة نتنياهو المتطرفة اليمين الدستورية في ديسمبر، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها هذه التوترات بشكل مباشر. وحتى قبل عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في نوفمبر 2022، كانت هناك سلسلة من المواجهات بين البيت الأبيض ونتنياهو تظهر أنهما لم يكونا على وفاق.
بدأت إدارة بايدن العمل خلف الكواليس لمحاولة احتواء رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني وشركائه السياسيين الأكثر تطرفًا. في أكتوبر الماضي، قبل الانتخابات الإسرائيلية، قام السناتور روبرت مينينديز، الرئيس الديمقراطي للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بزيارة نتنياهو لتحذيره من تشكيل ائتلاف مع إيتمار بن غفير، زعيم القوة اليهودية المتطرف، وهو ما تجاهله نتنياهو وأصبح بن غفير رئيس الأمن القومي الإسرائيلي.
ومع استمرار مفاوضات الائتلاف، حث المسؤولون الأمريكيون نتنياهو على عدم تعيين “بتسلئيل سموتريتش”، زعيم حزب الصهيونية الدينية المتشدد، وزيرا للدفاع. وبدلًا من ذلك، عين نتنياهو سموتريتش وزيرًا للمالية، ومنحه سلطة كبيرة داخل وزارة الدفاع، تتمثل في الإشراف على مستوطنات الضفة الغربية، التي يريد لها أن تتوسع وأن تنضم إلى إسرائيل في نهاية المطاف. وفي الآونة الأخيرة، وافق نتنياهو على إسناد صلاحيات كبيرة في إدارة الشؤون المدنية للضفة الغربية إلى سموتريتش، وقد حذر المسؤولون الأمريكيون من أنهم سيعتبرون هذه خطوة أخرى نحو الضم.
وبالتالي فقد أثبتت مناورات إدارة بايدن عدم فعاليتها في منع نتنياهو من تقوية حلفائه اليمينيين المتطرفين. لأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ترتكز على مستويين: مستوى الدولة العميقة، ومستوى العلاقات بين الحكومات. وتفضل واشنطن التعامل مع حكومات إسرائيلية معتدلة، للحفاظ على الوصول إلى تفاهمات معتدلة بالقضية الفلسطينية، ولكن هذا لا يعني عدم تكيفها مع الحكومات المتشددة. ومع ذلك فإن إدارة بايدن على قناعة بمسؤولية نتنياهو، الذي يرضخ لرغبات الوزيرين اليمينيين، بن غفير وسموتريتش، عن تدهور الوضع في إسرائيل ومع الفلسطينيين، وتأثير حكومة نتنياهو على اتفاقات إبراهيم، التي وعلى الرغم مما حققته من تطبيع مع دول عربية، لكنها لم تؤدٍ إلى تغيير موقف تلك الدول من ثوابت القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من الأساس المتين الذي تقوم عليه العلاقات الإسرائيلية الأمريكية والصداقة العميقة للرئيس بايدن ودعمه لإسرائيل، فقد طرح الوضع السابق تحديات دبلوماسية وسياسية لبايدن ونتنياهو، والمواجهة بينهما لن تؤثر على مستقبل التعاون الضخم بين الدولتين، ولا على استمرار تلقي إسرائيل مساعدات أمريكية بأكثر من 3 مليارات دولار سنويا، إضافة لأحدث ما في الترسانة الحربية الأمريكية من أسلحة. وذلك بسبب عدد من العوامل يضعها بايدن أو أي رئيس أمريكي آخر في الحسبان عند التعامل مع إسرائيل:
أولًا: الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي: لطالما استند الأمن القومي لإسرائيل، إلى علاقاته الخاصة مع الولايات المتحدة. وقد اتخذت الإدارات الأمريكية، الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، خطوات عملية لحماية أمن ورفاهية إسرائيل، وأحيانًا في مواجهة الانتقادات المحلية. استند دعم المؤسسة السياسية الأمريكية لإسرائيل إلى الاعتراف بأن الشعب الأمريكي داعم جدًا لهذه العلاقات وواجب الحفاظ على أمن الدولة اليهودية.
وقد وصفت دوائر صنع القرار في الحكومة الإسرائيلية موقف بايدن من الإصلاح القضائي، بأنه تدخل في شأن سيادي لإسرائيل، واتُهمت واشنطن بتمويل الاحتجاجات المناهضة للقانون، وأكد “بن غفير” أن إسرائيل ليست نجمة في العلم الأمريكي، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لأي إدارة أمريكية، فإسرائيل شأن داخلي أمريكي مثلما هي من ثوابت السياسة الخارجية في المنطقة. والخلاف معها يمس خططًا وأولويات وسياسات واشنطن في المنطقة، بما فيها مواصلة إدماج إسرائيل بصورة أوسع في المنطقة عبر ما يسمى بالاتفاقيات الإبراهيمية.
كذلك تعد إسرائيل شريكًا مهمًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتتبادل معها المعلومات الاستخباراتية حول مختلف اللاعبين في المنطقة. وهو أمر ضروري فيما يتعلق بإيران، الخصم القديم للولايات المتحدة وإسرائيل الذي يمتلك برنامجًا نوويًا، وأصبحت بحكم الأمر الواقع دولة عتبة نووية، واكتسبت خبرة عسكرية من دورها غير المباشر في حرب أوكرانيا عبر دعمها العسكري لموسكو بالمسيرات القتالية، ومن المقرر أن تحصل على أنظمة أسلحة متطورة من روسيا.
وعلى الجبهة الفلسطينية، ترى واشنطن أن إسرائيل تواجه تصعيدًا مقلقًا مع موجة من الهجمات الإرهابية في أعقاب ضعف السلطة الفلسطينية، وعودة التوترات في الحرم القدسي، وإطلاق صواريخ على إسرائيل من لبنان وغزة. وخلال زيارته لإسرائيل في يوليو 2022 أكد بايدن على التزام الولايات المتحدة الراسخ بأمن إسرائيل، بما في ذلك الشراكة مع إسرائيل بشأن أحدث أنظمة الدفاع المتطورة.
ثانيًا: تاريخية العلاقات بين بايدن ونتنياهو: لطالما كانت الولايات المتحدة شريكًا قويًا لإسرائيل منذ إنشائها كوطن للشعب اليهودي الهارب من الاضطهاد في أوروبا وخارجها. ويتمتع بايدن بعلاقات وثيقة مع القادة الإسرائيليين بداية من جولدا مائير، وقام بزيارة إسرائيل عشر مرات منذ أن كان سيناتور. ويُعد من أكثر الرؤساء الأمريكيين دعمًا لإسرائيل على مدار التاريخ، ويبدو ذلك بوضوح عند النظر إلى سجله التصويتي خلال سنوات عضويته بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، أو عندما كان نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما.
وناضل بايدن في مجلس الشيوخ لضمان حصول إسرائيل على أكبر قدر من المساعدات، وكثيرا ما وصف تقديم المساعدات المالية الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل بأنها “أفضل استثمار نقوم به بقيمة 3 مليارات دولار”. وعارض دائما مبيعات الأسلحة المتقدمة لجيران إسرائيل. وخلال إدارة الرئيس أوباما، التي خدم فيها بايدن نائبا للرئيس لمدة ثماني سنوات، كان مدافعا رئيسًا عن تأمين الدعم للأنظمة التكنولوجية العسكرية الإسرائيلية المتقدمة، مثل نظام “القبة الحديدية” المضاد للصواريخ، إضافة لنظام “أرو 3” الدفاعي.
ثالثًا: تهديد مستقبل بايدن السياسي: يظل الدعم الواسع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإسرائيل أساس العلاقات بين البلدين، ويجعل من الصعب على بايدن الاستمرار في انتقاد نتنياهو علنًا. ويذكرنا التاريخ الأمريكي، بأن مواجهة أي سياسي أمريكي للحكومة الإسرائيلية قد يكلفه مستقبله السياسي، جيمي كارتر فعل ذلك وكان رئيس لولاية واحدة. وفعل جورج بوش الأب وكان رئيس لولاية واحدة أيضًا. وحاول باراك أوباما وبيل كلينتون ذلك ثم قررا أن الأمر لا يستحق الجهد المبذول. لذلك ليس هناك الكثير من الجوانب الإيجابية، من الناحية السياسية، للدخول في نزاع مع الإسرائيليين أو انتقادهم.
كذلك اتهم الجمهوريون بايدن بإثارة مشاعر معادية لإسرائيل، وتقويض حليف رئيسي، بينما اتهم بعض الديمقراطيين نتنياهو بشكل مباشر بمحاولة تقويض السلطة القضائية في إسرائيل، وأعرب آخرون عن عدم ارتياحهم لفكرة الانخراط بشكل كبير في القضايا الداخلية لإسرائيل، وقال السناتور تيم كين (ديمقراطي من فرجينيا) “السياسة الإسرائيلية للإسرائيليين. لا يحتاجون مني أن أخبرهم كيف يفعلون الأشياء”.
رابعًا: الانتخابات الأمريكية الرئاسية لعام 2024: يرى البعض أن إدارة الرئيس جو بايدن تواجه الآن اختبارًا آخر في السياسة الخارجية، وليس فقط في السياسة المحلية، سيحدد إرث بايدن سواء قرر الترشح لانتخابات 2024، أو أحجم عن ذلك. ويدرك بايدن مدى شعبية إسرائيل في الولايات المتحدة، التي قدرها معهد بيو للأبحاث مؤخرًا بما يزيد عن 55% بين الناخبين الأمريكيين، في وقت تشير فيه استطلاعات الرأي الأخيرة إلى بقاء شعبية بايدن عند 42% بين الناخبين الأمريكيين.
كذلك يدرك بايدن حجم المنظمات القوية المؤيدة لإسرائيل والنشطة سياسيًا، وتحظى بدعم كبير من المسيحيين الإنجيليين وهي قاعدة جمهورية مهمة. ويحاول الجمهوريين الذين يتطلعون إلى الوصول إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024 التأكيد على مدى دعم الحزب الجمهوري لإسرائيل، وقال زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الأمريكي، السيناتور ميتش ماكونيل، إن ما يجري في إسرائيل من احتجاجات على التعديلات القضائية التي تريد حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة إجراؤها، هي شأن داخلي وعلى الولايات المتحدة عدم التدخل بها. وخلافًا لتصريحات ماكونيل، عبر عدد من النواب الديمقراطيين في الكونجرس عن مظاهر قلقهم من الخطة المثيرة للجدل التي يريد نتنياهو تمريرها، وتداعياتها على الديمقراطية الإسرائيلية والعلاقات الثنائية بين البلدين.
توترات كامنة
يدرك بايدن، الذي تربطه علاقة دامت أربعة عقود مع نتنياهو، الثقل الهائل الذي تحمله كلمات الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بإسرائيل. وخلال هذه الفترة المضطربة في إسرائيل، من الأهمية بمكان أن يعطي بايدن الأولوية للسياسة الواقعية. وألا يخضع للضغوط السياسية التي يواجهها من داخل حزبه للتنديد بإسرائيل بقوة، أو ما هو أسوأ، لتقليص الدعم الأمريكي بشكل دائم، بسبب حكومة غير دائمة، والذي يمكن أن يكون له تأثير متتالٍ في جميع أنحاء أوروبا.
ولكن، التوترات الحالية التي تشهدها البلدين كانت إيذانًا لافتًا للخلافات التي تحدث منذ سنوات عديدة بين بايدن ونتنياهو، والتي تعود إلى:
أولًا: دعم ترامب: رغم العلاقات الطويلة والممتدة بين بايدن ونتنياهو منذ عقود والتزامهما المشترك بالدفاع عن إسرائيل. فقد أقام ترامب ونتنياهو شراكة سياسية عميقة، جعلت إدارة ترامب واحدة من أكثر الإدارات تأييدًا لإسرائيل في التاريخ. ولم يبذل نتنياهو جهدًا خاصًا لإخفاء دعمه للرئيس دونالد ترامب في انتخابات عام 2020، موضحًا تفضيله للرئيس الذي قدم له كل ما طلبه، من اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وقد شكل قراره هذا تحولًا بعيدًا عما يقرب من سبعة عقود من الحياد الأمريكي في هذا الشأن.
بالإضافة إلى عدم إيلاء ترامب اهتمامًا كبيرًا بالقضية الفلسطينية. والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. والاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان والإعلان عن أن مستوطنات الضفة الغربية ليست غير قانونية. وتطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية. والانحياز إلى جانب إسرائيل في ضمها للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. حتى أن حملة نتنياهو وضعت لوحة إعلانية عملاقة للرئيس ترامب وهو يصافح نتنياهو في إطار حملة إعادة انتخاب زعيم “الليكود” في عام 2019. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو في مايو 2022 أن الجمهوريين يعبرون عن آراء أكثر إيجابية للحكومة الإسرائيلية من الديمقراطيين.
ثانيًا: انتقاد موقف واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني: أعاد الخلاف العلني بين بايدن ونتنياهو صدامًا دبلوماسيًا سابقًا لنتنياهو مع الرئيس السابق باراك أوباما، حول سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين والملف النووي الإيراني. وتدخل نتنياهو في إحدى أهم العمليات التشريعية الأمريكية في التاريخ الحديث، عندما توجه إلى واشنطن في عام 2015، ورتب مع قادة الحزب الجمهوري لإلقاء خطاب أمام الكونجرس – دون إخطار البيت الأبيض- وانتقد الاتفاق النووي المقترح مع إيران، والذي كان محور سياسة أوباما الخارجية. ووصف الاتفاق بالكابوس الذي سيضمن تقريبًا حصول إيران على الكثير من الأسلحة النووية. في ذلك الوقت، أنكر نتنياهو أنه كان يتدخل في السياسة الأمريكية، وأصر على أنه كان يطرح رائيه ضد صفقة يعتقد أنها ستضعف أمن إسرائيل.
ثالثًا: أزمة الاستيطان: أدت مسألة المستوطنات إلى مزيد من الصدع في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن. ومنذ توليه منصبه، كانت هناك مواجهات متكررة مع الأمريكيين حول بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة وتعليقات وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا إلى محو قرية حوارة الفلسطينية، وقال في وقت لاحق إن الشعب الفلسطيني غير موجود. ووصفت واشنطن تصريحاته بأنها “بغيضة” وتجاهلت سموتريتش خلال زيارته للولايات المتحدة مؤخرا.
وكانت إدارة بايدن تضغط على تحالف نتنياهو منذ شهور لكبح النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة، دون نجاح يذكر. ففي 9 مارس الماضي، أرسل 92 من أعضاء مجلس النواب الديمقراطيين رسالة حثوا فيها بايدن على استخدام جميع الأدوات الدبلوماسية المتاحة لمنع إسرائيل من إلحاق المزيد من الضرر بالمؤسسات الديمقراطية في البلاد وتقويض حل الدولتين المحتمل للفلسطينيين. وانتقدت وزارة الخارجية بشكل واضح حكومة نتنياهو لموافقتها على إجراء من شأنه أن يسمح للمستوطنين بالعودة إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة التي أُخليت في عام 2005، مما يمثل استفزازًا للفلسطينيين يُحتمل أن ينفجر.
خلاصة القول، إن محاولات حكومة نتنياهو لإعادة تشكيل القضاء تخاطر بتسريع تقليل اتجاهات الدعم والارتباط بإسرائيل. ولقد عارض قادة الأعمال وكبار الاقتصاديين وقادة الأمن السابقون الخطة، قائلين إنها تدفع بالبلاد نحو الديكتاتورية. بالإضافة إلى أنها تعرضت لانتقادات من أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة، بما في ذلك المنظمات اليهودية الأمريكية، فضلًا عن الأعضاء الديمقراطيين في الكونجرس. وإذا مضى نتنياهو في خطته واستمرت المظاهرات، فقد يضطر بايدن إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة. وأحد المؤشرات الواضحة على ذلك هو أن بايدن يواصل تجاهل دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض. ومن بين أشد الخطوات الدبلوماسية التي يمكن أن تتخذها الإدارة الأمريكية استدعاء السفير الأمريكي في إسرائيل للتشاور، وهي خطوة تعكس عادة شرخ عميق في العلاقات بين البلدين. أو الامتناع عن التصويت على قرارات تنتقد إسرائيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والتي عادة ما تستخدم الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضدها، وهو ما حدث من قبل في عام 2017، في نهاية ولاية الرئيس أوباما. ومع ذلك، فإن حدود النفوذ الأمريكي على إسرائيل تشير إلى أن إدارة بايدن لا تفكر في أي من التدابير السابقة، وستراهن على الرفض الشعبي والسياسي لتجميد قانون الإصلاح القضائي بشكل نهائي، أو تراهن على انهيار الحكومة اليمينية المتطرفة التي لا تحبذها، خاصة وأنه لأول مرة تكاد الثقة تكون معدومة بين واشنطن والحكومة الإسرائيلية، وتُساور إدارة بايدن الشكوك في أن نتنياهو هو صاحب القرار في الحكومة الإسرائيلية.