سوريا

الدوافع والرسائل.. لماذا تجدد التصعيد العسكري بين إيران والولايات المتحدة في سوريا؟

بدأت كل من إيران والولايات المتحدة متوالية تصعيد عسكري جديدة في سوريا في 23 مارس 2023 بقصف متبادل لمواقع عسكرية للجانبين، في خضم مجموعة متشابكة من التحولات والأحداث التي تشهدها المنطقة بوجه عام والساحة السورية على وجه الخصوص، لا سيّما تلك المرتبطة بإيران ونشاطها الإقليمي. وتفتح هذه المتوالية التصعيدية الباب لمجموعة من التساؤلات حول الأسباب الدافعة وراء تجدد العمليات التي تستهدف الوجود العسكري لكل من واشنطن وطهران في سوريا، والرسائل والدلالات التي أراد الطرفان توجيهها من وراء هذا الاستهداف المتبادل.

أسباب ودوافع

استهدفت فصائل موالية لإيران يوم 23 مارس 2023 قاعدة للتحالف الدولي ضد داعش الذي تقوده الولايات المتحدة بمنطقة “خراب الجير” بالقرب من الحسكة في الشمال الشرقي السوري بطائرة مسيّرة انتحارية، مما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي وإصابة خمسة جنود ومقاول آخر. وردًا على هذا الهجوم، شنت الولايات المتحدة في اليوم ذاته غارتين جويتين على منشأتين تستخدمهما الميلشيات الموالية لإيران في مدينتي دير الزور والبوكمال شمال شرق سوريا، مما أسفر عن مقتل نحو 19 عنصرًا. وهو الهجوم الذي قابلته الفصائل الإيرانية بهجومين منفصلين استهدفا قاعدتي “العُمر” بثلاث مسيّرت انتحارية و”كونوكو” بـ10 صواريخ وأسفرا عن إصابة جندي أمريكي. وهو ما ووجه برد أمريكي تمثل في غارات شنها الطيران الحربي الأمريكي على نقاط عسكرية للميلشيات الموالية لإيران في كل من دير الزور والبوكمال والميادين شرق سوريا. ويمكن إيجاز الأسباب الدافعة وراء هذه الموجة من التصعيد فيما يلي:

1 – إثارة الفصائل المسلحة في العراق: تتقاطع تأثيرات الأحداث في كل من العراق وسوريا بشكل متشابك وشديد التأثير والتأثر؛ بالنظر إلى السياق الإقليمي الناظم للتفاعلات الجارية في البلدين، وكون كل من الولايات المتحدة وإيران لاعبين أساسيين في كليهما، وكون الميلشيات والفصائل المسلحة العراقية المدعومة من إيران تتخذ من الميدانين العراقي والسوري مسرحًا عملياتيًا ممتدًا غير مقيد بالحدود الفاصلة بينهما. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى بعض ما جرى في العراق خلال الأسابيع الماضية، وخاصة زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى بغداد يوم 7 مارس 2023 وإعلانه استعداد قوات بلاده البقاء في العراق بأنها قد تكون سببًا مباشرًا في التصعيد الذي جرى في سوريا من جانب إيران؛ فقد أعلنت عدة فصائل عراقية منها كتائب حزب الله وحركة النجباء رفضها لزيارة أوستن غير المعلن عنها مسبقًا، وعدّتها إهانة لسيادة العراق، واستنكرت تصريحاته بشأن بقاء القوات الأمريكية في العراق بدعوى استمرار الحرب على داعش. 

ولمّا كانت إيران حريصة على استقرار العراق في الوقت الراهن وعدم تحميل حكومة محمد شياع السوداني المزيد من التوترات التي قد تنجم عن تصعيد عسكري لها مع واشنطن على أراضي العراق وهو ما عكسته زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني إلى بغداد يوم 19 مارس 2023؛ يمكن أن تكون إيران والفصائل الموالية لها اختارت التصعيد من خلال استهداف الوجود الأمريكي في سوريا بدلًا من العراق للرد على زيارة أوستن. وهو احتمال يمكن أن تعززه ما ذكرته مصادر إعلامية حول أن المسيّرة التي استهدفت قاعدة “خراب الجير” قدمت من العراق.

2 – التحركات الأمريكية في سوريا: تزايدت بشكل مطرد في الفترة الأخيرة الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع تابعة للميلشيات الإيرانية ومواقع للتصنيع العسكري تنشط فيها إيران في سوريا، وآخرها استهداف مطار حلب الدولي يوم 22 مارس 2023 بأربعة صواريخ أدت إلى خروجه عن الخدمة بعد أيام قليلة من عودته إلى الخدمة بعد ضربة مشابهة استهدفته يوم 6 مارس 2023. يضاف إلى ذلك ما حملته زيارات مسؤولين أمريكيين إلى سوريا من رسائل تهدف إلى ردع إيران وتطويق وجودها داخل الأراضي السورية، ومنها زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميلي يوم 4 مارس 2023 والتي رأت فيها إيران استعراضًا أمريكيًا للقوة والحضور في سوريا، لا سيّما بعد إحباط الدفاعات الجوية للقواعد الأمريكية عدة هجمات بالطائرات المسيّرة شنتها ميلشيات إيرانية خلال الشهور الأخيرة، ذلك بالتوازي مع دعم القوات الكردية في شرق سوريا وتنفيذ عملية عسكرية مشتركة بين التحالف والقوات الكردية لضبط الحدود السورية-العراقية التي تنشط فيها الميلشيات المدعومة من إيران.  ومن ثم، ربما مثلت هذه التطورات دافعًا لإيران لاستهداف القواعد الأمريكية للتأكيد على قوتها وحضورها داخل الميدان السوري وعدم تأثرها بالضربات الإسرائيلية أو بالتحركات الأمريكية.

3 – الضغط للانسحاب: يشكل الضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من خلال استهداف قواعدها وإيقاع إصابات أو وفيات بين صفوفها بين حين وآخر دافعًا تقليديًا وراء الاستهداف الإيراني للوجود الأمريكي في سوريا وكذلك في العراق، وقد بلغ عدد مرات الاستهداف الإيراني للوجود الأمريكي في سوريا منذ عام 2021 نحو 78 مرة حسبما قال الجنرال مايك كوريا قائد القيادة المركزية الأمريكية. ومن ثم يعد هذا أحد الأسباب الدافعة وراء موجة التصعيد الأخيرة من جانب إيران؛ لاستغلال التغيرات الإقليمية الراهنة المتمثلة في حالة التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط لا سيّما بعد توقيع الاتفاق بين السعودية وإيران بوساطة صينية، فضلًا عن الانفتاح العربي على الحكومة السورية بعد كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023 وهو ما أعلنت الولايات المتحدة مرارًا رفضها له وأنها لن تسلك نفس المسلك في التعامل مع سوريا، بالإضافة إلى المساعي الروسية للتقريب بين تركيا وسوريا. ومن ثم، ترى إيران أن تكثيف استهداف الوجود الأمريكي في سوريا وإيقاع قتلى ومصابين في صفوف القوات الأمريكية المتركزة هناك والبالغ عددها نحو 900 عنصر قد يمثل عامل ضغط داخلي على الإدارة الأمريكية لفك الارتباط بالملف السوري وسحب قواتها من هناك والتي تتمركز بشكل أساسي بالقرب من حقول النفط والغاز في شرق البلاد.

رسائل ودلالات

1 – استمرارية العداء: يأتي الاستهداف الإيراني للقواعد الأمريكية في سوريا في إطار مجموعة من رسائل التحدي التي عكفت طهران على توجيهها إلى واشنطن في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد توقيعها الاتفاق مع السعودية في 10 مارس 2023، ومنها إعلانها من جانب واحد إتمام اتفاق تبادل الأسرى مع الولايات المتحدة يوم 12 مارس، ثم زيارة علي شمخاني إلى بغداد يوم 19 مارس وتوقيعه وثيقة أمنية مشتركة بين إيران والعراق في الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق وبعد أسبوعين من زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى بغداد، ثم الاتفاق على إجراءات لتجاوز أزمة الدولار التي يواجهها العراق بسبب الإجراءات الأمريكية للحد من تهريب الدولار إلى إيران.

ولا تنفصل رسائل التصعيد الأخير في سوريا عن هذه الرسائل؛ بهدف التأكيد الإيراني على بقاء قواتها وأنشطتها داخل سوريا لكون هذا الحضور العسكري بناء على طلب من الحكومة السورية، ولذلك كان تحذير المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الإيراني بأنه “سيتم الرد على أي هجوم تتعرض له القواعد التي أنشئت في سوريا بناء على طلب الحكومة للتعامل مع الإرهاب وعناصر تنظيم الدولة”، وتحذير المركز الاستشاري الإيراني في سوريا للولايات المتحدة بأنه يمتلك اليد الطولى والقدرة على استهداف الوجود الأمريكي إذا ما تم استهداف مراكزه وقواته على الأراضي السورية. وعلاوة على ذلك، تظهر رسالة إيرانية أخرى إلى واشنطن بأن مسعاها إلى تبني نهج تصالحي إقليمي بعد الاتفاق مع السعودية لن يعني التخلي عن  أدواتها الخشنة في التعامل مع ما تصفه بوجود قوات احتلال أمريكي في كل من سوريا والعراق، أو في التعامل مع النشاط الأمريكي-الإسرائيلي المناهض لها بوجه عام.

2 – بقاء القوات الأمريكية في سوريا: أعطى الرد السريع من جانب الولايات المتحدة على الاستهداف الإيراني لقواعدها والذي جاء في اليوم ذاته بناء على توجيه من الرئيس جو بايدن أثناء زيارته إلى كندا تحركت بموجبه الطائرات المقاتلة الأمريكية من طراز إف-15 من قاعدة العديد في قطر لاستهداف المواقع الإيرانية؛ رسائل أمريكية واضحة بأنها ليس في معرض التنازل عن حضورها العسكري في سوريا في الوقت الراهن، وأنها هي الأخرى على استعداد لاستخدام الأدوات الخشنة في التعامل مع إيران، وهو ما عبّر عنه بايدن بقوله إن واشنطن على استعداد لاتخاذ مزيد من الإجراءات بحسب الضرورة للتصدي لمزيد من التهديدات أو الهجمات الإيرانية. بما يذكر بموجة التصعيد التي تمت بين الجانبين على الأراضي العراقية خلال عامي 2019 و2020، ولكن سيكون ميدان التصعيد الراهن هو الأراضي السورية. 

3 – تجنب التصعيد الشامل: يتضح من موجة التصعيد الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران في سوريا حرص الطرفين على بقاء هذا التصعيد في إطاره المعهود طوال السنوات الماضية وعدم انزلاق الأمور إلى تصعيد واسع أو مواجهة شاملة، وهو ما يظهر في حرص الجانب الأمريكي وخاصة في تصريحات السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية الجنرال بات رايدر على عدم تحميل إيران المسؤولية عن استهداف القواعد الأمريكية، ونسبة الهجمات إلى ميلشيات مدعومة من الحرس الثوري الإيراني؛ بهدف عدم اضطرار واشنطن إلى الرد بشكل مباشر على إيران خاصة وأن الهجمات الأخيرة قد نتجت عنها وفاة متعاقد أمريكي وإصابة عدد من الجنود بإصابات متفاوتة الشدة. ومن جانبها، لا تريد إيران الدخول في مواجهة كبيرة مع الولايات المتحدة بالنظر إلى حرصها في عدم تأجيج التوترات مع واشنطن بدرجة يصعب العودة عنها خاصة مع رغبتها في استئناف المفاوضات النووية.

إجمالًا، يؤذن التصعيد الأخير بين واشنطن وطهران على الأراضي السورية باحتمالات تجدد موجات التصعيد بين الجانبين التي كانت على أشدها خلال الفترة التي سبقت وتلت اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد في يناير 2020. وبينما يبدو حرص الجانبين على إبقاء هذا التصعيد في حدوده التقليدية، فإن الرغبة الأمريكية المدفوعة بضغوط داخلية على الإدارة الأمريكية لردع إيران قد تدفع إلى شن الولايات المتحدة هجمات أكثر دقة تستهدف مواقع إيرانية في سوريا جنبًا إلى جنب مع تزايد الضربات الإسرائيلية؛ بهدف تحميل إيران خسائر كبيرة تردعها عن تجديد استهدافها للمواقع الأمريكية، بيد أن احتمالات تحقق هذا الردع الأمريكي لإيران تبدو متضائلة بالنظر إلى ما تكتسبه إيران من ثقة في تحركاتها السياسية والعسكرية في الفترة الأخيرة.

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى