تركيامصر

استعادة المسار… ملفات زيارة وزير الخارجية التركي للقاهرة

تأتي الزيارة التي بدأها اليوم إلى القاهرة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في سياق محاولة أنقرة استدراك “الجمود” الذي شاب مسار تطبيع العلاقات وتحسينها بين البلدين، وهو المسار الذي بدأ عمليًا منذ نحو عامين. تحديد ماهية الملفات الجوهرية التي يحملها الوزير التركي في جعبته خلال هذه الزيارة يقتضي وضع إرهاصات اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة جنبًا إلى جنب مع القضايا الخلافية التي شابت العلاقة بين القاهرة وانقرة، بشكل يمكن من خلاله تبيان مدى أهمية هذه الزيارة، وماهية المستهدف منها.

بشكل عام، يتسم أي تواصل دبلوماسي أو سياسي بين كل من القاهرة وأنقرة بأهمية خاصة؛ بالنظر إلى أهمية البلدين على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وحالة “المد والجزر” الذي شاب العلاقات بينهما خلال العقود الماضية، والتي كانت سمة أساسية من السمات التي حددت شكل هذه العلاقات خلال “الحقبة الحديثة” من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي كانت بدايتها عام 1925 عبر تبادل الممثلين الدبلوماسيين على مستوى “القائم بالأعمال”، ثم تحول العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى أعلى عام 1948، بحيث أصبح لكلا البلدين ممثليات دبلوماسية كاملة لدى الطرف الأخر.

المفارقة التاريخية في مسار العلاقات بين القاهرة وأنقرة كانت تتعلق دومًا بمحاولات الأخيرة التدخل بشكل أو بآخر في الخيارات الشعبية والوطنية الخاصة بالأولى، وهذا حدث خلال عدة استحقاقات تاريخية في الوجدان المصري، على رأسها ثورة الثالث والعشرين من يوليو التي هاجمتها الدولة التركية بشكل مستمر وشديد الوطأة على لسان سفيرها في القاهرة فؤاد طوغان، ما تسبب في توتر العلاقات بينها وبين مصر، إلى الدرجة التي دفعت القاهرة في يناير 1954 إلى إعلان السفير التركي شخصًا غير مرغوب فيه وأمهلته أربع وعشرين ساعة لمغادرة البلاد، وهي مهلة تكررت -للمفارقة- مرة أخرى بعد ذلك بعقود لسفير تركي أخر في القاهرة.

ظلت حالة التوتر بين البلدين مستمرة طيلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، من زاوية أساسية حاولت فيها أنقرة محاصرة الخطوات المصرية على المستوى الإقليمي والشرق أوسطي، خاصة في ظل دعم القاهرة لتيارات التحرر العربي، وعملها على عدة مشاريع للوحدة مع دول أخرى، كان أبرزها الوحدة مع سوريا عام 1958. لكن شهدت العلاقات بين القاهرة وأنقرة بعض التحسن خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل أنور السادات؛ نتيجة لدور مصر البناء في عدة ملفات كان لأنقرة اهتمام أساسي بها، مثل القضايا الخلافية بينها وبين سوريا، وكذلك ملف الأنشطة الكردية في جنوب تركيا.

مع وصول الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك إلى الحكم عام 1981، بدأت العلاقات بين البلدين تأخذ مسارًا “شبه طبيعي” على صعيد التعاون السياسي، وظلت على هذا المنوال إلى أن بدأ الجانبان منذ عام 2005، في توسيع علاقاتهما الاقتصادية بتوقيعهما اتفاقية للتجارة الحرة، كانت لها آثار أساسية في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما خلال الأعوام اللاحقة بشكل ملحوظ، ليلامس حاجز الثلاثة مليارات دولار عام 2010. 

بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 في مصر، تحركت أنقرة نحو مصر بخطوات حثيثة؛ بهدف توسيع هامش نفوذها في الأوساط الداخلية المصرية، استغلالًا لحالة السيولة السياسية التي شابت الساحة المصرية خلال هذه المرحلة، وهو ما ظهر بشكل أكبر لاحقًا خلال فترة تولي جماعة الإخوان السلطة في مصر، حيث عقدت تركيا مع مصر خلال هذه الفترة نحو سبعة وعشرين اتفاقية اقتصادية.

الملفات الخلافية “المعاصرة” بين القاهرة وأنقرة

التدخلات التركية في الشأن المصري: تعرض الرهان التركي على تنظيم الإخوان تعرض لضربة إجهاضية بعد اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو التي اعتبرتها أوساط تركية عديدة “شهادة وفاة” لمشروع تمكين جماعات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، وهو المشروع الذي دعمته الدولة التركية من منطلقات جيوسياسية وأيديولوجية واقتصادية مختلفة. ولهذا لم يكن مستغربًا أن تتموضع تركيا في ذلك التوقيت -وحتى وقت قريب- في موقع تحاول فيه بشكل مستمر استهداف الدولة المصرية في مرحلة ما بعد حكم جماعة الإخوان، سواء عبر استضافة أعضاء الجماعة الفارين إليها، أو توفير منصات اعلامية وصحفية لهذه الجماعة. 

لم تكتفِ أنقرة بهذه التصرفات فحسب، بل داوم كبار المسؤولين في نظامها الحاكم بشكل دوري على إطلاق التصريحات المهاجمة للدولة والحكومة المصرية، ما حدا بالأخيرة في نوفمبر 2013 إلى إعلان السفير التركي شخصًا غير مرغوب فيه، وهو ما ردت تركيا عليه بالمثل.

التدخلات التركية في العراق وسوريا: كانت الأنشطة العسكرية والديموغرافية لتركيا في عدة دول عربية -وتحديدًا في نطاق كل من ليبيا وسوريا والعراق- مثار خلاف كبير بين القاهرة وأنقرة، خاصة في ظل قناعة مصر المعلنة بخطورة هذه الأنشطة على وحدة وسلامة الأراضي العربية، وضرورة إنهاء هذه التدخلات بشكل كامل. 

في سوريا ربما كانت تأثيرات هذه التدخلات أكثر وضوحًا، حيث تسيطر أنقرة وحلفاؤها حاليًا على ما يناهز 16 ألف كيلو متر مربع في النطاق الشمالي والشمالي الشرقي السوري، تنقسم بين ثلاث مناطق أساسية، منها منطقتان تتصلان جغرافيًا ببعضهما البعض في الجانب الغربي من الحدود المشتركة، وتضمان مناطق تتبع إداريًا محافظتي إدلب وحلب، في حين توجد المنطقة الثالثة في قطاع منفصل في القسم الأوسط من الحدود المشتركة، وتضم مناطق تتبع إداريًا لمحافظتي الرقة والحسكة. تضم المناطق الثلاث مدنًا مهمة في الشمال السوري، مثل مدن: الباب، ورأس العين، وتل أبيض، وعفرين، وأعزاز.

السيطرة على المناطق الثلاث كانت حصيلة ثلاث عمليات عسكرية أساسية نفذتها القوات التركية منذ عام 2016، بهدف رئيس وهو التأسيس التدريجي لـ “حزام أمني” على الجانب السوري من الحدود المشتركة، بعمق 30 كيلو مترًا. الأولى بدأت في أغسطس 2016 تحت اسم “درع الفرات”، واستمرت حتى أواخر مارس 2017، ونتج عنها السيطرة على مثلث تبلغ مساحته 1900 كيلو متر مربع يمتد ما بين مدن جرابلس شرقًا وأعزاز غربًا والباب جنوبًا، ما سمح بقطع التواصل بين مدينتي عفرين ومنبج، وبالتالي شق منطقة السيطرة الأساسية للأكراد شمالي سوريا، ودفعهم إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات. 

انطلقت العملية الثانية في يناير 2018، تحت اسم “غصن الزيتون”، بهدف أساسي وهو السيطرة على مدينة عفرين، وتأمين كامل نطاق محافظة إدلب، وهو ما تحقق بالفعل بحلول مارس من نفس العام. انتقلت تركيا عام 2018 للتركيز على القطاع الشرقي من الحدود المشتركة مع سوريا، في اتجاه الأجزاء الشمالية من محافظة حلب، بجانب بعض المناطق التابعة إداريًا لمحافظتي الحسكة والرقة، وتحديدًا القطاع الرابط بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، بعمق يصل إلى 25 كيلو متر، وقد سيطرت أنقرة بالفعل على هذا القطاع عبر العملية العسكرية الثالثة التي تمت تسميتها “نبع السلام”، والتي تم إطلاقها خلال الفترة بين شهري يناير ومارس 2018.

وعلى الرغم من العنوان العريض الذي وضعته أنقرة لهذه العمليات العسكرية المتتالية “مكافحة الإرهاب وإبعاد أنشطة حزب العمال الكردستاني عن الأراضي التركية”، إلا أن النتائج التي ترتبت على هذه العمليات كانت ذات تأثير مباشر على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، سواء عبر انتشار عشرات النقاط العسكرية التركية في كافة أنحاء هذا النطاق السالف ذكره، أو عمليات التغيير الديموغرافي و”التتريك” التي طالت المؤسسات الحكومية المختلفة في مناطق الشمال السوري.

وهو ما يمكن -بشكل أو بآخر- وضعه في نفس السياق الذي اتبعته أنقرة في تعاملها مع المناطق الواقعة في كردستان العراق، التي طالتها أيضًا عمليات عسكرية تركية متتالية وحملات مستمرة من القصف الجوي شكلت تحديًا مباشرًا لسيادة العراق على أراضيه، ناهيك عن انتشار قواعد عديدة للجيش التركي في كردستان العراق، خاصة في محافظات دهوك والسليمانية ونينوى، حيث تشير التقديرات الحالية إلى أن الجيش التركي يمتلك حاليًا شمالي العراق ثمانية قواعد عسكرية رئيسة، وسبعة عشر معسكرًا، بجانب نقاط التمركز المؤقتة ومراصد المراقبة التي يتراوح عددها بين 20 و40 نقطة ومرصدًا، وتحتوي هذه المواقع على ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف جندي. وتتوزع  في النطاق الرابط بين معبر خابور الحدودي شمال غرب العراق، وحتى المناطق الشرقية لكردستان العراق.

الدور التركي في الأزمة الليبية: يعد هذا الملف من أهم الملفات التي أسهمت في تشكيل حالة التوتر والخلاف التي كانت قائمة سابقًا بين البلدين. تركيا من جانبها شرعت أواخر عام 2015، في مقاربة خاصة بها في الملف الليبي، حاولت من خلالها استجلاب مكاسب اقتصادية عن طريق توثيق علاقاتها مع حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فايز السراج، أملًا في إعادة تفعيل العقود الاستثمارية التي كانت في طور التنفيذ أبان فترة حكم العقيد الراحل معمر القذافي. 

توثيق العلاقات هذا جاء على حساب تعاطيها مع باقي المكونات السياسية في ليبيا، وهو ما أسهم في تعميق حالة الانقسام الداخلي في ليبيا، خاصة أن أنقرة لجأت خلال المراحل التالية إلى زيادة انخراطها في الأزمة الليبية ميدانيًا، سواء عبر إرسال مجموعات من المرتزقة السوريين للقتال بجانب قوات حكومة الوفاق، أو إرسال شحنات كبيرة من الأسلحة المتنوعة إلى غرب ليبيا، أو حتى التمركز بشكل ميداني دائم في قاعدة “الوطية” الجوية الليبية، وكذلك في قاعدة “الخمس” البحرية، وهو ما شكل إضافة أخرى لحالة السيولة الأمنية والعسكرية التي تعاني منها ليبيا منذ عام 2011. لذا كانت المطالبات المصرية الدائمة تقطع بضرورة خروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، مع عدم التعاطي مع أي وجود عسكري على الأراضي الليبية؛ نظرًا إلى عدم وجود سلطة ليبية موحدة تقر هذا الوجود أو تسمح به. 

التوتر بين تركيا ومصر في هذا الملف كانت قد تقلصت حدته قليلًا بعد وقف إطلاق النار بين شرق ليبيا وغربها، الا أن رهان أنقرة المستمر حاليًا على حكومة عبد الحميد الدبيبة -منتهية الولاية- وكذلك توقيعها عدة اتفاقيات مثيرة للجدل معها في شهر أكتوبر الماضي، بما في ذلك اتفاقية للتنقيب عن الطاقة، وكذلك اتفاقيتين للتعاون العسكري والأمني؛ كانت جميعها مؤشرات واضحة على عدم تغير المقاربة التركية في ليبيا، والتي تسببت -ضمن أسباب اخرى- في توسيع هوة الخلاف الداخلي بين الفرقاء الليبيين.

ملف شرق المتوسط: يعد هذا الملف أيضًا من الملفات الخلافية الأساسية بين مصر وتركيا، حيث حاولت أنقرة مرارًا تعطيل أو إبطاء الجهود المصرية لتنفيذ خطة تنمية وتحديث قطاع البترول والغاز، والتي بدأت عام 2016، عبر سلسلة من الخطوات الإقليمية، بداية من ترسيم الحدود البحرية مع الدول المقابلة لمصر في البحر المتوسط والأحمر، وتحديدًا المملكة العربية السعودية واليونان وقبرص، وهو ما تم فعليًا عبر ترسيم الحدود البحرية مع الجمهورية القبرصية عام 2013، ومع المملكة العربية السعودية عام 2016، ومع اليونان عام 2020، أو توقيع مصر في فبراير 2018، اتفاقية مع إسرائيل، لتصدير الغاز الطبيعي إلى مصر لإسالته وتصديره، ضمن عقد بلغت قيمته 15 مليار دولار، ثم توقيع مصر عقد أخر في سبتمبر 2018 مع الحكومة القبرصية، لإقامة خط أنابيب بحري مباشر، من أجل نقل الغاز الطبيعي من حقل “أفروديت” القبرصي، إلى محطات الإسالة والتصدير المصرية؛ بهدف تصديره إلى الأسواق العالمية، بدءًا من عام 2024، بتكلفة تصل إلى نحو مليار دولار، وصولًا إلى تأسيس القاهرة في يناير 2019، “منتدى غاز شرق المتوسط”، مع ست دول أخرى، هي: الأردن، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، وفلسطين، ليكون بمثابة سوق إقليمية تعمل على استغلال الثروات الغازية، وتأمين احتياجات الدول الأعضاء، وتفعيل التعاون بينهم في كافة المجالات.

هذه الخطوات رأت فيها تركيا “استبعادًا” لها من معادلة الطاقة في شرق المتوسط، وفي نفس الوقت وجدت أن هذه الخطوات تسام في ابتعاد تركيا حثيثًا عن هدفها للتحول إلى “مركز إقليمي للطاقة”، لهذا حاولت فرض وجود لها في هذا الملف، سواء عبر اتفاقية تحديد الحدود البحرية التي وقعتها مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة عام 2019، أو اتفاقية التنقيب عن الطاقة التي وقعتها في أكتوبر الماضي مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية -منتهية الولاية – وهي ردود فعل أعلنت القاهرة بوضوح أنها لن تعترف بها، خاصة أن مصر من جانبها قامت بترسيم حدودها البحرية الغربية في ديسمبر الماضي، وأصبحت بحكم الأمر الواقع صاحبة اليد العليا في ملف الطاقة بشرق المتوسط.

وباتت تركيا نفسها مقتنعة بهذا، في ظل تحول مصر لتصبح أحد الموردين الرئيسين للغاز الطبيعي المسال لتركيا منذ أواخر عام 2021، علمًا بأن القاهرة كانت في هذا الملف ملتزمة بـ “النزاهة الدبلوماسية”، حين حرصت على أن يكون ترسيم الحدود البحرية بينها وبين اليونان شاملًا فقط جزيرتي “كريت” و”رودس”، دون التطرق إلى حالة الحدود البحرية في ما يتعلق بجزيرة “كاستيلوريزو”، وبالتالي لم يتماس الترسيم الحدودي البحري بين مصر واليونان مع الجرف القاري المعلن من جانب تركيا، وهي لفتة قرأتها تركيا بشكل إيجابي.

بداية مسار “تطبيع العلاقات بين الجانبين”

رغم الخلافات العديدة التي شابت الملفات الرئيسة السالف ذكرها، فإن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين شهدت تطورًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، حيث تضاعف إجمالي حجم التجارة بين البلدين ما يقرب من ثلاثة أضعاف بين عامي 2007 و2020، من 4.42 مليارات دولار إلى نحو 11.14 مليار دولار. 

على المستوى السياسي، حدثت سابقًا عدة محاولات لتطبيع العلاقات بين البلدين، منها محاولة تمت عام 2015 بمبادرة من المملكة العربية السعودية، وأخرى منتصف عام 2016، باقتراح من رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، لكن لم تسفر هذه المحاولات عن نتائج ملموسة. ولم يبدأ هذا الملف في التحسن الا مطلع عام 2021، حين بدأت المستويات السياسية العليا في تركيا، خاصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير الدفاع خلوصي آكار، ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، والمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في إصدار تصريحات إيجابية حول مصر ودورها الإقليمي.

من ثم بدأت سلسلة من الاتصالات السياسية بين الجانبين، تم الإعلان عنها من جانب تركيا في مارس 2021، وتم تتويجها في أبريل من نفس العام بمحادثة هاتفية بين وزيري خارجية كلا البلدين، ثم انعقاد الجولة الأولى من المباحثات الاستكشافية بين الجانبين في شهر مايو من نفس العام بالعاصمة المصرية، وهي الجولة التي حقق فيها كلا الطرفين تقدمًا كبيرًا في بحث آفاق توسيع وتحسين العلاقات بينهما. من ثم انعقدت الجولة الثانية من المباحثات بعد ذلك بثلاثة أشهر في العاصمة التركية، لكن لم تحرز هذه الجولة نفس النجاحات التي حققتها الجولة السابقة.

مسار تطبيع العلاقات تعرض لبعض التباطؤ خلال العام الماضي، حين أوقفت مصر المباحثات الاستكشافية بينها وبين تركيا؛ نظرًا إلى قناعتها التي عبر عنها وزير الخارجية سامح شكري في أكتوبر الماضي بعدم عدم وجود تغيير واضح في الممارسات الإقليمية لتركيا، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي، لكن أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر أغسطس من نفس العام تصريحات صحفية دعا فيه إلى تحسين العلاقات مع مصر، وشدد على أنه يعتبر الشعب المصري “إخوة” يجب أن تتصالح معهم تركيا.

وهو ما مهد عمليًا للقاء الأول منذ عام 2013 بينه وبين الرئيس عبد الفتاح السيسي، في نوفمبر الماضي بالعاصمة القطرية الدوحة. وعلى الرغم من أهمية هذا اللقاء، فإن حديث مصر عن عدم تغير توجهات تركيا في ليبيا حمل في طياته قناعة مصرية باستمرار وجود خلافات جذرية عميقة مع تركيا، وربما هذا كان من أسباب استقبال القاهرة بعد هذا اللقاء بأيام وزيري الخارجية والدفاع اليونانيين، وتوقيعها معهما عدة اتفاقيات للتعاون.

الجمود الذي طال هذا المسار ربما تمت حلحلته بشكل أو بآخر عبر زيارة غير مسبوقة قام بها الشهر الماضي وزير الخارجية سامح شكري إلى مدينة “أضنة” التركية، التي التقى فيها بنظيره التركي. وبدا من هذه الزيارة أن حالة الجمود السالف الإشارة إليها لم تمنع مصر من الانفتاح بشكل كبير على تركيا من الزاوية الإنسانية، حيث تدفقت المساعدات المصرية -جوًا وبحرًا- على تركيا وسوريا؛ بهدف إظهار التضامن مع الحكومة والشعب في كلا الدولتين، إزاء كارثة سلسلة الزلازل المدمرة التي ضربت النطاق الجنوبي التركي والشمالي السوري منذ السادس من فبراير الماضي.

كان لهذه الزيارة عنوانان رئيسان: الأول هو إظهار التضامن والمواساة المصرية للقيادة والشعب التركي إزاء كارثة الزلازل وما ترتب عليها من أعباء إنسانية، والثاني يتعلق بإمكانية أن تكون هذه الزيارة بمثابة “انطلاقة جديدة” للعلاقات الثنائية بين الجانبين. 

على الرغم من طغيان الطابع الإنساني لهذه الزيارة على أية اعتبارات أخرى، فإن المؤتمر الصحفي الثنائي الذي عقده كل من أوغلو وشكري في مدينة أضنة أظهر أن كلا الجانبين يريان في اللحظة المعاشة والمبادرة المصرية الإنسانية فرصة يمكن البناء عليها لكسر الجمود الذي شاب مسار تطبيع العلاقات بينهما، فقد أعرب الوزير التركي عن تقدير بلاده للدور المصري الإغاثي، وقال إن المباحثات المغلقة التي جرت بينه وبين الوزير شكري تم خلالها مناقشة سبل دفع العلاقات الثنائية، بشكل يرى أوغلو أنه سيكون له تأثير إيجابي على البلدين والمنطقة كلها، نظرًا لأهمية مصر ودورها على المستوى الإقليمي والدولي، وأكد أنه سيتم خلال المدى المنظور وضع خطوات ملموسة لرفع مستوى العلاقات.

الملفات التي سيبحثها الوزير التركي في القاهرة

بالنظر إلى ما سبق، يمكن وضع زيارة أوغلو اليوم إلى القاهرة في خانة استعادة مسار رفع مستوى العلاقات بين بلاده ومصر إلى المستويات المأمولة، خاصة أن هذه هي الزيارة الأولى لوزير خارجية تركي إلى القاهرة منذ أكثر من عقد من الزمن، لكن استعادة هذا المسار ترتبط بشكل أساسي بعاملين أساسيين: الأول هو أسباب الحرص التركي “الواضح” على استعادة العلاقة مع مصر، والثاني هو طبيعة الملفات التي سيتم بحثها خلال زيارة أوغلو إلى القاهرة.

فيما يتعلق بالعامل الأول، يمكن القول إن الظروف الداخلية في تركيا، وكذلك الوضع الإقليمي والدولي الحالي، ما بين الظروف الاقتصادية والسياسية الحالية في تركيا، وتداعيات الزلازل المدمرة التي تعرضت لها البلاد، وكذا نتائج وإرهاصات الحرب في أوكرانيا، وهي عوامل كانت لها تأثيرات على الاستراتيجية الحكومية التركية للتعامل مع الأوساط السياسية الداخلية، وكذا مع الأطراف الإقليمية والدولية، في ظل خريطة جديدة للتحالفات السياسية الدولية والإقليمية باتت تشكل قوة دافعة مهمة تدفع أنقرة إلى “تصفير” نزاعاتها مع القوى الإقليمية، والتهيؤ للتغيرات الدولية القادمة، وهو ما يمكن قراءته في التغيرات التي طرأت على الموقف التركي من دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، وكذلك المرونة التي طرأت مؤخرًا على موقف أنقرة من مسألة انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو.

في ضوء هذا الوضع، يمكن تحديد أربعة ملفات أساسية يتوقع أن يبحثها الوزير التركي اليوم في القاهرة: الملف الأول هو الأزمة الليبية التي تحظى بأهمية خاصة لكلا الطرفين، وتمر الآن باستحقاق مفصلي يتمثل في وجود مسارين مطروحين للعملية السياسية بها. شارك كلا البلدين في اجتماعات مجموعة الاتصال الدولية حول ليبيا، والتي انعقد آخرها في العاصمة الأمريكية في فبراير الماضي، وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة على وجود تغيرات جوهرية في المقاربة التركية للأزمة الليبية، فإن بحث هذا الملف بين القاهرة وأنقرة ربما يفضي إلى مقاربة مشتركة يتم من خلالها دعم التقارب الداخلي بين المكونات الليبية، أو على الأقل تمهيد الأجواء لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية.

الملف الثاني هو الملف المتعلق بسوريا، حيث تأتي زيارة أوغلو إلى القاهرة بعد فشل المحاولات الروسية لعقد لقاء سياسي مشترك بين تركيا وسوريا، فدمشق تصر -وتؤيدها في ذلك مصر- على تحديد جدول زمني واضح لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، في حين ترى أنقرة أن شروط دمشق لانطلاق الحوار بينها وبين تركيا غير مناسبة، وبالتالي يتوقع أن يتم بحث هذا الملف، وتحديد إمكانية لعب القاهرة دورًا أساسيًا في إيجاد نقطة انطلاق للحوار بين دمشق وأنقرة.

الملف الثالث هو ملف شرق المتوسط، فقد أعربت تركيا خلال الفترة الأخيرة عن رغبتها في التعاون مع مصر في مجال تصدير الطاقة، خاصة بعد تواصل عدة دول أوروبية مؤخرًا مع مصر للاستفادة من قدراتها اللوجيستية في مجال إسالة الغاز، لتعويض جزء من إمدادات الغاز الأوروبية، وهو ملف يتوقع أن يشهد تطورات مهمة خلال المدى القريب؛ نظرًا إلى استمرار الحرب في أوكرانيا. التعاون بين الجانبين -المصري والتركي- في مجال الطاقة قد يكون قريبًا وممكنًا، ولكنه في نفس الوقت يحتاج إلى إيجاد حلول لبعض القضايا المتشابكة، خاصة فيما يتعلق باتفاقيات تحديد الحدود البحرية والتنقيب بين تركيا وليبيا، وكذلك الخلافات التركية مع كل من قبرص واليونان.

الملف الرابع والأخير سيكون بالتأكيد ملف العلاقات الثنائية، فقد تحدث الوزير التركي خلال زيارة نظيره المصري إلى مدينة أضنة عن بدء الترتيب للقاء قريب بين الرئيسين المصري والتركي، وهو ما قد يتم بحثه بشكل أكبر خلال زيارة أوغلو اليوم إلى القاهرة التي يمكن القول إنها زيارة لاستعادة مسار تحسين العلاقات بين الجانبين، يمكن البناء عليها بشكل إيجابي لتأطير المرحلة المقبلة من تطوير العلاقات بين دولتين تعدان من أهم دول الشرق الأوسط. هذا سيكون في النهاية رهنًا بتوافر خطوات إيجابية وعملية ملموسة من جانب أنقرة، في كافة الملفات الخلافية بينها وبين مصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى