تركيامصر

الدبلوماسية النزيهة.. دلالات زيارة وزير الخارجية المصري إلى تركيا

بشكل عام، يتسم أي تواصل دبلوماسي أو سياسي بين كل من القاهرة وأنقرة بأهمية خاصة؛ بالنظر إلى أهمية البلدين على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، و”المد والجزر” الذي شاب العلاقات بينهما خلال العقد المنصرم. في هذا الإطار يمكن النظر إلى الزيارة المهمة التي أجراها اليوم 27 فبراير 2023 وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى مدينة “أضنة” التركية التي وصل إليها قادمًا من العاصمة السورية دمشق، التي بدورها استقبلته في تواصل غير مسبوق بين البلدين منذ عام 2010.

وعلى الرغم من أن علاقات القاهرة مع كل من دمشق وأنقرة -من حيث الشكل- كانت متشابهة من زاوية ضعف التواصل السياسي والدبلوماسي بين مصر وكلا الدولتين خلال العقد الماضي، إلا أن طبيعة العلاقات بين مصر وتركيا تجاوزت حالة “ضعف التواصل”، لتصل إلى “شبه قطيعة” تسببت بها حالة التوتر المستمر الناتجة عن التحركات التركية السلبية في ملفات حيوية ومهمة بالنسبة للقاهرة، مثل ملف شرق المتوسط والملف الليبي، وكذا النهج التركي حيال العراق وسوريا، وهي حالة لم يسهم استمرار حركة التجارة بين البلدين في حلحلتها خلال السنوات الماضية.

رغم هذه التباينات، الا أن مصر وتركيا دخلتا في سياق عملية لتطبيع العلاقات بينهما، عبر سلسلة من الاتصالات السياسية التي تم الإعلان عنها من جانب تركيا في مارس 2021، تم تتويجها في أبريل من نفس العام بمحادثة هاتفية بين وزيري خارجية كلا البلدين، ثم انعقاد الجولة الأولى من المباحثات الاستكشافية بين الجانبين في شهر مايو من نفس العام بالعاصمة المصرية، وهي الجولة التي حقق فيها كلا الطرفين تقدمًا كبيرًا في بحث آفاق توسيع وتحسين العلاقات بينهما، من ثم انعقدت الجولة الثانية من المباحثات بعد ذلك بثلاثة أشهر في العاصمة التركية، لكن لم تحرز هذه الجولة نفس النجاحات التي حققتها الجولة السابقة.

مسار تطبيع العلاقات هذا تعرض لبعض التباطؤ خلال عام 2022، ورأت القاهرة على لسان وزير خارجيتها سامح شكري في أكتوبر 2022 أن السبب في هذا يعزى إلى عدم وجود تغيير واضح في الممارسات الإقليمية لتركيا، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي، لكن شهدت العلاقات بين الجانبين دفعة مهمة للأمام، عبر اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، في نوفمبر الماضي بالعاصمة القطرية الدوحة.

إذًا بتقييم عام، يمكن القول إن حالة العلاقات المصرية – التركية قبيل زيارة الوزير سامح شكري اليوم إلى أضنة كانت تتسم بــ “الجمود”، وهو ما لم يمنع مصر من الانفتاح بشكل كبير على تركيا من الزاوية الإنسانية، حيث تدفقت المساعدات المصرية -جوًا وبحرًا- على تركيا وسوريا؛ بهدف إظهار التضامن مع الحكومة والشعب في كلا الدولتين، إزاء كارثة سلسلة الزلازل المدمرة التي ضربت النطاق الجنوبي التركي والشمالي السوري منذ السادس من فبراير الجاري.

الاستجابة المصرية السريعة -على المستويين السياسي و الإغاثي- لهذه الكارثة أعادت إلى الأذهان التركية الدور المصري البارز في دعم أنقرة خلال كارثة مشابهة ضرب خلالها زلزال بلغت قوته 7.6 درجة على مقياس ريختر، عدة محافظات تركية في أغسطس 1999، ما أسفر عن مقتل أكثر من سبعة عشر ألف شخص، وحينها بادرت الرئاسة المصرية بالتواصل مع عدة دول أوروبية لحشد الدعم الإغاثي اللازم للتعامل مع هذه الكارثة، وبادرت بتأسيس مستشفى ميداني في محافظة “صقاريا” شمال غرب البلاد، ودعمته بكميات كبيرة من المساعدات الطبية والغذائية، وكانت مصر في هذه الكارثة الدولة الثانية من حيث حجم المساعدات التي تم تقديمها لتركيا.

لذا من هذا المنطلق لا يمكن اعتبار مبادرة مصر بإرسال أطنان من المساعدات الإغاثية والغذائية إلى كل من تركيا وسوريا جوًا وبحرًا، وكذا إرسالها فرقًا للإغاثة والإنقاذ إلى نطاقات بعيدة مثل منطقة “جنديرس” شمال غرب محافظة حلب السورية شيئًا مستحدثًا أو غير مسبوق، لكن في نفس الوقت يجب النظر إلى هذه الخطوة على أنها مثال آخر من أمثلة “النزاهة الدبلوماسية” لمصر، وهي سمة كانت دومًا من أبرز سمات السياسة الخارجية المصرية على مدار التاريخ، ومن خلالها يتم في حالات الكوارث الكبرى تنحية أية اعتبارات سياسية أو خلافات استراتيجية وإقليمية جانبًا ووضع البعد الإنساني فقط أمام ناظري القيادة السياسية المصرية، وهو ما يمثل نزاهة قل وجودها في المنظومة الدولية الحالية.

بالعودة إلى زيارة الوزير سامح شكري اليوم إلى مدينة أضنة، يمكن القول إن هذه الزيارة لها عنوانان رئيسان: الأول هو إظهار التضامن والمواساة المصرية للقيادة والشعب التركي إزاء كارثة الزلازل وما ترتب عليها من أعباء إنسانية، والثاني يتعلق بإمكانية أن تكون هذه الزيارة بمثابة “انطلاقة جديدة” للعلاقات الثنائية بين الجانبين. على الرغم من طغيان الطابع الإنساني لهذه الزيارة على أية اعتبارات أخرى فإن المؤتمر الصحفي الثنائي الذي عقده كل من أوغلو وشكري في مدينة أضنة أظهر أن كلا الجانبين يريان في اللحظة المعاشة والمبادرة المصرية الإنسانية فرصة يمكن البناء عليها لكسر الجمود الذي شاب مسار تطبيع العلاقات بينهما.

الوزير التركي أعرب خلال هذا المؤتمر عن تقدير بلاده للدور المصري الإغاثي، وقال إن المباحثات المغلقة التي جرت بينه وبين الوزير شكري تم خلالها مناقشة سبل دفع العلاقات الثنائية، بشكل يرى أوغلو أنه سيكون له تأثير إيجابي على البلدين والمنطقة كلها؛ نظرًا إلى أهمية مصر ودورها على المستوى الإقليمي والدولي. وأكد أنه سيتم خلال المدى المنظور وضع خطوات ملموسة لرفع مستوى العلاقات. وأعرب الوزير شكري من جانبه عن استمرار جهود مصر لمساندة تركيا وسوريا لتجاوز المحنة الحالية، وعن رغبة القاهرة في فتح آفاق أوسع للعلاقات بينها وبين أنقرة.

خلاصة القول، إن زيارة وزير الخارجية المصري إلى كل من دمشق وأضنة تحمل دلالات إنسانية عميقة تنبع من “نزاهة” الدبلوماسية المصرية، وتعظيمها للقيم الإنسانية، ونظرتها للتضامن العربي والإسلامي. الدلالة السياسية لهذه الزيارة تبقى موجودة وملحوظة، سواء فيما يتعلق بدمشق التي ظل التواصل بينها وبين القاهرة مستمرًا منذ عام 2013، لكن كان هذا التواصل أقل بمراحل مما يوجبه التاريخ الطويل والعميق من العلاقات بين الشعبين الشقيقين، أو فيما يتعلق بمسار العلاقة مع تركيا الذي شهد من عامين بعض التحسن ثم دخل إلى خانة “الجمود الإيجابي” والتي تزايد التفاؤل بخروجه منها بعد زيارة شكري اليوم إلى أضنة، ومن قبلها التواصل الهاتفي بين الرئيسين المصري والتركي.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى