
تُحدث الكوارث الإنسانية هزات عنيفة تخلف تداعيات عميقة الأثر على المستويات الإنسانية والبنيوية، وبالقدر ذاته على المستويات السياسية والدبلوماسية. ونجد أن كارثة الزلزال الذي ضرب كلًا من تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023 أنتجت نوعًا من الدبلوماسية الإنسانية التي أسهمت في تنحية الخلافات السياسية بين كلا البلدين ودول إقليمية ودولية من جانب، وإعطاء دفعة للمسار التصالحي في علاقة أنقرة ودمشق مع عدد آخر من الدول من جانب آخر. وفي هذا الإطار، تعطي زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى كلا البلدين في 27 فبراير 2023 مثالًا على ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الإنسانية التي وإن كانت تنطلق من تعاطٍ سريع مع الكوارث بأهداف إنسانية وإغاثية في المقام الأول فإنها كذلك قد تكون لها انعكاسات وتأثيرات سياسية لاحقًا.
محددات ثابتة
تنطلق مصر في تعاطيها مع الكارثة الإنسانية التي ضربت تركيا وسوريا في 6 فبراير الجاري من محددات ثابتة رسمتها القاهرة لنفسها في تعاطيها الدبلوماسي والإنساني مع مختلف الملفات، ولا سيّما ما يرتبط بالعلاقة مع دمشق وأنقرة على وجه الخصوص، وهو ما يمكن إجماله في التالي:
1 – التفاعل السريع: دائمًا ما تحرص مصر على التفاعل مع مختلف التطورات السياسية والاقتصادية على المستويين الإقليمي والدولي بشكل سريع سواء تمثل هذا التفاعل في التعاطي الاستباقي بما يحول دون تفجر الأزمات أو خروجها عن السيطرة مثل التعاطي المصري المستمر مع التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو كان في صورة الاستجابة الآنية لأي من التطورات الطارئة، وكانت آخر مظاهره في التعاطي المصري مع كارثة الزلزال في تركيا وسوريا يوم 6 فبراير؛ فتحركت مصر على المستوى الدبلوماسي بالاتصال بين وزير الخارجية سامح شكري ونظيريه السوري فيصل المقداد والتركي مولود تشاووش أوغلو في نفس اليوم لتنسيق التحرك الإنساني والإغاثي بما يحتاجه البلدان للتعامل مع تداعيات الكارثة، ثم جاء اتصال الرئيس عبد الفتاح السيسي بنظيريه السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان في اليوم التالي لنقل التعازي والتأكيد على دعم مصر المتواصل بكل ما يحتاجه البلدان من مساعدات إنسانية وإغاثية، والتي وصلت إلى 1500 طن إلى سوريا، و6 شحنات إلى تركيا.
2 – الحياد الإيجابي: تتبنى السياسة الخارجية المصرية منطق الحياد الإيجابي إزاء مختلف الأزمات الإقليمية والدولية؛ إذ تتجنب القاهرة الميل نحو أي من أطراف الصراع في أي من هذه الأزمات على اتساعها بدءًا من الأزمات العربية التي نشبت منذ 2011 وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة التي أتمت عامًا كاملًا. فدائمًا ما تؤكد مصر على ضرورة عدم التعويل على الحلول العسكرية للأزمات، وأن الحل السياسي يبقى هو السبيل الأمثل لتجاوزها، مع الحفاظ على الدول الوطنية ومؤسساتها ودعمها في مواجهة الفاعلين من دون الدول والجماعات والتنظيمات الإرهابية.
ونجد هذا الأمر متحققًا بوضوح في التعاطي المصري مع الأزمة السورية منذ 2011؛ إذ لم تقطع القاهرة علاقاتها مع دمشق -باستثناء فترة تولي جماعة الإخوان الحكم في مصر- وتستمر السفارتان المصرية في دمشق والسورية في القاهرة في العمل بصورة اعتيادية، فضلًا عن التعاون والتشاور على المستويين الأمني والاستخباري، بما عكسته زيارات مسؤولي البلدين ومنها زيارة رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك إلى القاهرة في أكتوبر 2016 والتي كانت أول زيارة خارجية معلنة له منذ اندلاع الأزمة. وحددت مصر موقفها من الأزمة السورية بالارتكاز على مجموعة من المبادئ هي: احترام إرادة الشعب السوري، وإيجاد حل سلمي للأزمة والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ونزع أسلحة الميليشيات والجماعات المتطرفة، وإعادة إعمار سوريا، وتفعيل دور مؤسسات الدولة، بما يجعل النظرة السورية دائمًا إلى الدور المصري إيجابية ومُقدّرة.
3 – الأسس الاستراتيجية للعلاقات: تعتمد مصر في سياستها الخارجية مع مختلف الدول على الأسس الاستراتيجية التي تربطها بها على كافة المستويات، ولا سيّما العلاقات الشعبية الراسخة والوطيدة على مدار مئات السنوات. وتسهم هذه النظرة في تنحية مسارات علاقات مصر مع الدول المختلفة عن التأثر ببعضها البعض، بحيث لا يؤدي التوتر السياسي على سبيل المثال إلى قطيعة اقتصادية أو شعبية.. إلخ. ويتضح هذا المحدد المصري الثابت في العلاقات بين مصر وتركيا؛ فعلى الرغم من التوتر السياسي الحاد الذي خيّم على علاقة البلدين بعد ثورة 30 يونيو 2013 بسبب دعم أنقرة لجماعة الإخوان الإرهابية بالإضافة إلى الخلاف حول عدد من الملفات الإقليمية؛ فإن هذا التوتر السياسي لم يصل إلى حد القطيعة الدبلوماسية من جهة، ولم ينعكس على العلاقات الاقتصادية والشعبية التي تربط البلدين من جهة أخرى، بل على العكس زادت وتيرة التعاون التجاري والاستثماري بين القاهرة وأنقرة خلال السنوات الأخيرة.
دلالات ونتائج
تبني مصر في تفاعلها مع الكارثة الإنسانية في تركيا وسوريا على ما نجحت في إرسائه طوال السنوات الماضية من تحركات وتفاعلات متزنة مع التطورات الإقليمية والدولية، بما يتيح لها مساحات من الحركة والانخراط. وبناء على ذلك يمكن الوقوف على مجموعة من الدلالات التي تحملها زيارة شكري إلى كل من دمشق وأنقرة، كالتالي:
1 – فك العزلة السورية؟ لا تنفصل زيارة شكري إلى دمشق عما سبقها من تحركات على المستويين المصري والعربي في التعاطي مع كارثة الزلزال من انفتاح على الحكومة السورية كان دافعه الرئيس هو الدافع الإنساني، مثل طائرات وشحنات المساعدات العربية التي حطت في الأراضي السورية بالتنسيق مع الحكومة السورية، ومنها طائرات المساعدات السعودية التي هبطت في مطار حلب للمرة الأولى، علاوة على التحركات الدبلوماسية مثل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى سلطنة عمان في 20 فبراير، وزيارة كل من وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى دمشق في 12 و15 فبراير على الترتيب، وصولًا إلى زيارة الوفد البرلماني العربي الذي تشكل من رؤساء برلمانات مصر والعراق والإمارات والأردن وفلسطين وليبيا، ورئيسي وفدي برلماني سلطنة عمان ولبنان إلى دمشق في 26 فبراير.
ويعطي مجمل هذه التحركات العربية دلالة على أن رؤية بدأت في التشكل والوضوح لدى الدول العربية جميعها بأن إقصاء سوريا من منظومة العمل العربي المشترك بتعليق عضويتها في نوفمبر 2011 في جامعة الدول العربية لم يجدِ نفعًا طوال أكثر من 11 عامًا، وأن إدماجها في المنظومة العربية أصبح ضرورة حتمية بما يسهم في تلافي الآثار السلبية التي تخلفها الحرب في سوريا مثل النشاط الإرهابي من جانب، وبما يدفع نحو تصويب مسار عمل صيانة الأمن القومي العربي بالاستفادة من كل المتغيرات الدولية والإقليمية من جانب آخر. وهو ما عكسه على سبيل المثال تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان خلال مؤتمر ميونيخ للأمن بأن “إجماعًا بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما، حتى تتسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين”.
وقد أثبتت التجربة المتعلقة بمساعي إعادة سوريا إلى شغل مقعدها في جامعة الدول العربية التي سبقت القمة العربية في الجزائر في نوفمبر2022 أن تحقق هذا المسعى يتطلب إجماعًا عربيًا شاملًا وليس فقط مجرد تأمين أغلبية أصوات الدول الأعضاء مثلما حدث في قرار تعليق العضوية. ولذلك فإن الانفتاح العربي المتنامي على سوريا بعد كارثة الزلزال قد يعطي مؤشرًا على إمكانية البناء عليه تدريجيًا لتحقيق هذا الهدف، بيد أنه يظل من المبكر الحديث عن تحقق ذلك في القمة العربية المقبلة التي تستضيفها الرياض في مارس 2023؛ إذ يستلزم الأمر المزيد من التحركات لتحقيق الإجماع العربي والتي سيتحدد بناء عليها الموقف من هذا الملف.
2 – تصفية الخلافات مع تركيا؟ تمثل زيارة سامح شكري إلى أنقرة خطوة متقدمة للغاية في مسار العلاقات السياسية بين مصر وتركيا منذ 2013؛ لكونها تعد الزيارة الأولى لوزير خارجية مصر إلى تركيا منذ عام 2013، بالإضافة إلى كونها تأتي بعد نحو ثلاثة أشهر من القمة الثلاثية التي جمعت الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر تميم بن حمد في الدوحة على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم 2022، وذلك بناء على الرغبة التركية في تصفية الخلافات مع مصر ونتائج جولات المباحثات الاستكشافية التي جمعت مسؤولي البلدين. وقد تفتح زيارة شكري إلى أنقرة الباب إلى المزيد من الانخراط بين القاهرة وأنقرة في مسار تهدئة التوترات والتوصل إلى حلول بشأن الملفات الخلافية وخاصة في ليبيا وشرق المتوسط، فضلًا عن الرغبة في تعميق التعاون الاقتصادي بين الجانبين والذي عكسه لقاء رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي بمجموعة من المستثمرين الأتراك في 15 فبراير الجاري، وتصريح وزير الخارجية التركي اليوم أثناء لقائه شكري بشأن إمكانية التعاون مع مصر في إعادة الإعمار ما بعد الزلزال.
إجمالًا، برهنت زيارة وزير الخارجية سامح شكري إلى سوريا وتركيا وقبلها التحرك المصري السريع في التعامل مع كارثة الزلزال الذي ضرب البلدين على المستويين الدبلوماسي والإغاثي على عمق الرؤية المصرية في التعامل مع مختلف التطورات والأزمات، ودورها المهم كركيزة دعم استراتيجية في المنطقة. وهي زيارة تعطي رسالة مهمة في الانفتاح السياسي المصري في التعامل مع سوريا وتركيا بما يبني على الخطوات السابقة في هذا المسار.