
التعليم الفني.. نظام الجدارات ومبادرة “ابدأ” للتنمية وتوطين الصناعة
تبذل مصر جهودًا منظمة للتنسيق بين الإمكانات البشرية والموارد الطبيعية بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية مع الحفاظ على استدامة الموارد، حيث تسعى لزيادة الإنتاج والاستخدام المسؤول للموارد المتاحة، واستنباط أساليب إنتاجية جديدة من أجل زيادة الدخل القومي، وتنمية القدرات البشرية إلى أقصى حد ممكن، وتوظيفها أفضل توظيف في جميع الميادين، وذلك عن طريق توفير فرص ملائمة للتعليم والتدريب، وتُعير الحكومة المصرية الشمول والتكامل اهتمامًا بالغًا في تحقيق التنمية، إذ تحرص على شمول السياسات التنموية لكافة القطاعات المختلفة ومشاركة المؤسسات الحكومية والخاصة في ذلك .
تعد الأيدي العاملة المدربة والسياسات الحكومية، من أهم مقومات التنمية الصناعية بالإضافة إلى العناصر الأخرى، وكذلك يمثل التعليم الفني المرفق الأساسي التي تعمد إليه الدول لتوفير الأيدي العاملة والخبرة الفنية اللازمة لتوطين الصناعات المختلفة؛ لذا تنبهت الإدارة المصرية لضرورة اتباع سياسات حكومية مرنة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، واتخذت من تطوير التعليم الفني والتكنولوجي الخطوة الأولى لتوفير المورد البشري المؤهل للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية الحكومية والخاصة، وأعقبته خطوات أخرى منها توطين الصناعات، والاتجاه نحو وضع حوافز الاستثمار الصناعي، ومن المتوقع خلال العقد القادم أن تصبح مصر في مكانة مرموقة على خريطة العالم الصناعية.
نظام الجدارات الفنية وتوفير الأيدي العاملة المدربة
لما كان تطوير التعليم الفني ضرورة مُلحة، عملت وزارة التربية والتعليم على هذا التطوير بما يلبي متطلبات سوق العمل، وذلك من خلال اكتساب خريجي التعليم الفني المهارات اللازمة التي تؤهلهم لذلك، من خلال تطبيق نظام الجدارات في مختلف أنواع التعليم الفني الزراعي والصناعي والتجاري وغيره، فالجدارة هي التطبيق الواضح للمهارات والمعارف والاتجاهات المطلوبة للعمل في مجال محدد أو وظيفة أو مهنة وفقًا لمعايير محددة، ويشير نظام الجدارات الذي تسعى الدولة لتعميمه على جميع مدراس التعليم الفني بنهاية عام 2024م، إلى تقديم المعارف والمهارات والقيم الوظيفية بطريقة أكثر اتصالًا بسوق العمل. حيث يشارك المختصون بالأنشطة الاقتصادية والخدمية في تحديد متطلبات سوق العمل التي يجب أن يمتلكها خريج التعليم الفني، وذلك من خلال أخذ آرائهم في المناهج والمقررات والاستفادة من خبراتهم الواقعية في تخصصاتهم المختلفة، لصياغة برامج التعليم الفني والجوانب اللوجيستية لتنفيذ تلك البرامج، وكذلك الاستعانة بهم في عملية الإشراف والتقويم لمستوى تحقيق طلاب التعليم الفني للجدارات اللازمة لسوق العمل.
تعد متطلبات المجتمع المحرك الأول لوضع النظم التي يسعى من خلالها المجتمع لتحقيق أهدافه، وتعد الجدارات كنظام للتعليم الفني استجابة طبيعية لحاجة المجتمع، فمن أجل التنمية الصناعية كان المجتمع بحاجة إلى برامج جديدة للتعليم الصناعي فاشتملت برامج فنيي (الديزل والمعدات الثقيلة، المحركات البحرية، الغوص والإنقاذ، تشغيل المعادن الزخرفية، الحديد المشغول واللحام، الخراطة والسن واللدائن، الطباعة والبلاستيك، والإكترونيات، والملابس الجاهزة، والسمكرة والدوكو، وتشغيل محطات مياه الشرب والصرف الصحي ومعالجتها، والجلود، الحاسبات IT، والاتصالات، والسباكة، والحفر على الخشب، وإصلاح السفن،…..وغيره)، بالإضافة إلى وضع برامج عديدة في مجالات التعليم الزراعي والتجاري والتعليم الفندقي وغيرها من البرامج في مدارس التعليم الفني الأخرى.
وفقًا لنظام الجدارات، يدرس طلاب التعليم الفني لمدة ثلاث سنوات، ويتاح للطلاب المتفوقين دراسة عامين إضافيين وفقا لشروط معينة تؤهلهم للالتحاق بالجامعات التكنولوجية على غرار نظام التعليم المهني بألمانيا، وعلى مدار العام الدراسي الواحد يعكف طلاب التعليم الفني على الدراسة النظرية والعملية في الورش والمشاغل والمعامل التابعة لمدارس التعليم الفني، وكذلك التدريب العملي بمؤسسات القطاع الخاص طبقًا لتخصصاتهم ، كما اعتمدت الوزارة نظام تقييم يتكون من ثلاثة مكونات هي: التقييم المعرفي، والتقييم المهاري، وملف إنجاز الطالب، حيث يجتاز الطالب الاختبارات المعرفية والمهارية، ويتم تقييم ملفات الإنجاز من خلال لجنة ثلاثية خارجية للتقييم بانتداب عضوين من وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني من خارج المحافظة، وعضو من خبراء الصناعة وأصحاب الأعمال.
تعمل الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، على استغلال الموارد البشرية المتميزة التي ستخرج من هذا النظام، مما يزيد من جدواه ويدعم التنمية الاقتصادية بشكل مباشر؛ فينبغي أن تعمل الدولة بشكل جاد على تحديد الاحتياجات من الموارد البشرية والتخصصات المختلفة في كافة المجالات بشكل دقيق، وإعلان ذلك بصورة واضحة لما له من فعالية في توجه الطلاب بالتعليم الفني نحو التخصص في برامج وجدارات لها مستقبل مهني.
سُبل تكامل نظام الجدارات مع المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة المصرية “ابدأ”
تعكف مصر على اتباع سياسات مرنة في تحقيق التنمية من خلال إتاحة الفرصة الكاملة لمشاركة القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني ولعب دور محوري في ذلك، فبجانب القوانين واللوائح والقرارات المدعمة للاستثمار -كاعتماد سياسة الشباك الواحد – يأتي التكامل مع القطاع الخاص والأهلي من خلال المشروعات والمبادرات التي يقوم بها المستثمرون والمؤسسات الأهلية، ولا سيما المبادرة الوطنية لتنمية وتوطين الصناعة “ابدأ” التي دشنتها مؤسسة “حياة كريمة ” إحدى أهم مؤسسات التحالف الوطني للعمل التنموي.
تهدف المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة المصرية “ابدأ” إلى توطين الصناعة الحديثة وتقليل الفجوة الاستيرادية وتوفير فرص عمل، وتتكامل أهداف المبادرة مع الأهداف الوطنية للدولة المصرية، والتزاماتها الدولية وجهودها نحو تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام، وتوفير حلول الطاقة النظيفة، والابتكار في المجال الصناعي، والاستهلاك والإنتاج بشكل مسؤول.
تسهم المبادرة الوطنية للصناعة (ابدأ)، في تشجيع وتنفيذ أكبر عدد من المشروعات الصناعية ذات القيمة المضافة المرتفعة. وتمكين القطاع الخاص بالتكامل مع جهود الدولة لخلق كيانات اقتصادية قوية قادرة على المنافسة عالميًا. وتقوم الاستراتيجية على عدة أهداف رئيسة لتشكل القاعدة التي سيبنى عليها مستقبل مصر الصناعي وهي توفير فرص عمل للشباب وتوطين الصناعات الحديثة وتقليل الفجوة الاستيرادية، وتتعامل المبادرة بشكل مباشر مع المشروعات الصناعية، وتقوم برصد احتياجاتها المختلفة وتقديم الدعم الكامل لها سواء بإزالة العقبات أو زيادة حجم النشاط، ومنح الكثير من المزايا الاستثمارية للمشروعات المستفيدة من المبادرة.
ثمة تكامل منشود يمكن أن يحدث بين المبادرة الوطنية لتوطين الصناعة “ابدأ” ونظام الجدارات بالتعليم الفني، نظرًا لما تملكه مؤسسة حياة كريمة من ثقل وانتشار وتأثير في تغيير واقع المجتمع المصري، مما يمكنها من المساهمة بشكل فعال في تنمية القطاع الصناعي بصورة مبكرة في تعليم وتأهيل العنصر البشري، من خلال الاهتمام بدعم وتنمية التعليم الصناعي لتحويله إلى ترجمة حقيقية لتطلعات الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية، ويمكن لمؤسسة حياة كريمة المساهمة في بناء صروح تعليم صناعية وتكنولوجية جديدة، تقدم برامج فريدة بالشراكة مع البنوك والتحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي، وكذا يمكن للمبادرة دعم البنية التحتية لمؤسسات التعليم الصناعي القائمة حاليًا ماديًا ولوجيستيًا، وليس بالأمر العسير أن يتم إنشاء “وحدة تنسيق ومتابعة” مشتركة بين إدارة مبادرة (ابدأ) التابعة لحياة كريمة وقطاع التعليم الفني بمديريات التربية والتعليم بكافة المحافظات.
يمكن من خلال وحدة التنسيق والمتابعة المشتركة، أن تحول قطاع التعليم الفني ومؤسساته إلى حاضنات أعمال ومشروعات ذات طابع استثماري له عوائد اقتصادية مجدية، فترتيبًا لما يمكن أن تسهم به المبادرة الوطنية “ابدأ”، أن تمد إدارات التعليم الفني بمتطلبات سوق العمل بشكل دوري ورصد احتياجات القطاع الصناعي من المتدربين، لصياغة برامج جدارات تتناسب مع تلك المتطلبات، وخلال فترة الدراسة والتدريب، يتم تثقيف الطلاب بأخلاقيات سوق العمل والقيم الوظيفية ومسارات التنمية المهنية، وتفعيل برامج الجدارات الفنية كمشروعات صغيرة ومتوسطة من خلال تصميم حاضنات استثمار لمشروعات الطلبة الدراسة – تعد داعمة للتعلم – وتوفير الدعم المالي واللوجيستي لها من خلال إدارة استثمار خاصة داخل كل مدرسة تحدد نماذج مشروعات متكاملة أو تتبنى مشروعات الطلاب، وتلتزم المبادرة سنويًا بالاستثمار الرشيد في 10 مشروعات صغيرة ومتوسطة من مشروعات خريجي نظام الجدارات لكل مديرية تعليمية بنظام الشراكة، ودعمهم ماليًا ولوجيستيا وفنيًا وتسويقيًا، وتعمل مبادرة “ابدأ” من خلال تنظيم المعارض بكافة المحافظات بشكل سنوي، بعرض المنتجات والسلع والخدمات الناتجة عن مشروعات التعليم الفني، كما يمكنها أيضًا عقد ملتقيات توظيف دورية لعرض فرص العمل المتاحة بكافة أنواع المؤسسات الصناعية المدعومة من مبادرات حياة كريمة أو القطاع الخاص .
كذلك يمكن للسياسات الحكومية، المساهمة بفاعلية في إنجاح منظومة التعاون تلك من خلال وضع شروط إلزامية في كافة المناقصات العامة للإنشاء والتعمير، بإلزام الشركات المنفذة للمشروعات بالاعتماد على منتجات وخدمات وسلع مشروعات التعليم الفني بما لا يقل عن 10% من إجمالي التكلفة للمشروعات، وهذا في إطار من الحفاظ على المنافسة السعرية للسوق سواء كانت تلك المشروعات حكومية أو خاصة مدعومة من المبادرة الوطنية، وأيضًا ينبغي أن تقوم الدولة بتوفير الحماية المهنية التخصصية لأصحاب الجدارات، حيث يتم تقييد حرية العمل بمهنة لغير الجديرين علميًا، مما يسهم في الاستفادة الفعلية لخريجي نظام التعليم الفني، وتغيير النظرة المجتمعية لهذا النظام التعليمي، وهو من شأنه أيضًا الحفاظ على مستوى جودة مرتفع للمنتجات الصناعية.
أخيرًا، تظل الفرصة سانحة أمام الدولة لدعم خريجي الجدارات بالتعليم الفني في تنفيذ مشروعات تخصصية مشتركة مع مبادرة “ابدأ”، مستغلة التشبيك مع صناديق دعم الاستثمار وبنوك التنمية الصناعية، أو توفير قروض ميسرة لتنفيذ مشروعات خاصة في ضوء الجدارات، وكذلك ينبغي على القطاع الخاص أن يستغل طاقات خريجي نظام الجدارات، من خلال توفير فرص عمل بظروف جيدة والتوسع في الاستثمار، في ضوء ما سيجنيه من جودة في الإنتاج والتزام بالقواعد المهنية.



