الاقتصاد المصري

برنامج الطروحات الحكومية كجزء من خطة الدولة لتعزيز مشاركة القطاع الخاص وتحفيز الصناعة

نشرت رئاسة مجلس الوزراء في فبراير من عام 2023 (الشهر الحالي) وثيقة موقف برنامج الطروحات الحكومية، ذلك البرنامج الذي ينتظره العديد من المستثمرين المحليين والإقليميين بأسواق المال، والمهتمين بالاقتصاد، والمؤسسات الدولية والتي يأتي علي رأسها صندوق النقد الدولي. شملت تلك الوثيقة مسارين رئيسين ترتسم بهما ملامح خطة الدولة في دعم نصيب مشاركة القطاع الخاص بالاقتصاد، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتنشيط سوق المال، وتضع مجموعة من المحفزات التي من شأنها دعم القطاع الصناعي بمصر، فكيف يمكن فهم تلك الوثيقة، وما هو الأثر الاقتصادي لها؟

تأتي تلك الوثيقة استكمالًا لسلسلة من الإجراءات التي بدأتها الدولة منذ مطلع عام 2022، ويعود جزء منها إلى ما قبل ذلك ضمن خطة برنامج الإصلاح الاقتصادي الأولى لمصر؛ فمنذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في عام 2016 أعلنت الدولة عن خطتها لطرح العديد من الشركات المملوكة للقطاع العام والقوات المسلحة بسوق الأوراق المالية، أو من خلال البيع المباشر لبعض الحصص بتلك الشركات إلى مستثمرين أجانب من خلال التفاوض.

تم تنفيذ تلك الخطة جزئيًا خلال الفترة من 2016 وحتى 2020، حيث تم طرح إجراء طرح إضافي لجزء من أسهم الشركة الشرقية للدخان عملاق المنتجات الاستهلاكية والتي تتخصص في مجال إنتاج الدخان، وطرح جزء من شركة أبوقير للأسمدة، لكن ظروف سوق الأوراق المالية آن ذاك أعاقت استكمال الدولة لخطتها الموضوعة؛ فقد انخفضت سوق الأوراق المالية المصري في الفترة من 2018 وحتى عام 2020، واستكملت انخفاضها متأثرة بوباء كورونا الذي ضرب الاقتصادات العالمية وتسبب في انغلاق اقتصادي عكسته أسواق المال بانخفاضات قياسية في فترات زمنية صغيرة.

واستمر أداء أسواق الأوراق المالية العالمية والمحلية في التذبذب في الفترة بعد مارس 2020 وحتى العام 2022 بين ظهور متحورات جديدة للوباء ومن ثم الحرب الروسية الأوكرانية، مما أعاق تنفيذ ذلك البرنامج في الوقت المحدد له؛ إذ إن طرح تلك الشركات في ذلك الوقت وعلى الرغم من أنها شركات ذات ملاءة مالية جيدة وقدرات على تحقيق أرباح، لكن أوضاع السيولة بالسوق وأداء سوق الأوراق المالية كان سيترتب عليه بيع تلك الشركات بقيم أقل بكثير عن قيمها العادلة.

في أواخر العام 2021، وقبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية، كانت الدولة المصرية تعمل علي الخطة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي والذي يستهدف تحقيق إصلاح حقيقي في هيكل الاقتصاد من خلال السماح للقطاع الخاص بالمشاركة بشكل أكبر في الاقتصاد. وأُعدت وثيقة سياسة ملكية الدولة والتي استمر الحوار بشأنها لشهور بين جميع الأطراف الفاعلين وتم تنفيذ عدد من المؤتمرات الاقتصادية لمشاركة آراء الخبراء الاقتصاديين بمصر للخروج بوثيقة اقتصادية ترسم ملامح الاقتصاد المصري لمدة خمس سنوات متوافق عليها من بين المعظم.

بنيت فلسفة تلك الوثيقة علي تقسيم القطاعات الاقتصادية بمصر إلى ثلاثة قطاعات رئيسة: أولًا قطاعات ترى الدولة أنها مهمة لكن يمكن للقطاع الخاص أن يشغلها بالكامل مع تقليص كامل لدور الدولة والشركات الوطنية بها، وثانيًا قطاعات تم تصنيفها أنها مهمة وتحتاج لجهود الطرفين معًا وهو ما يعني استمرار استثمار الشركات الوطنية والمملوكة للدولة بها بالمشاركة مع القطاع الخاص، وثالثًا قطاعات أخرى تم تصنيفها علي أنها استراتيجية ستستمر الدولة في شغل الجزء الأكبر منها بالاقتصاد لأهميتها وحساسيتها بالنسبة للأمن القومي المصري، وقد وضعت تلك الاستراتيجية مستهدفًا رئيسًا وهو الوصول بمشاركة القطاع الخاص إلى 65 % في السنوات الثلاث المقبلة.

برنامج الطروحات

ما سبق ذكره هو الخلفية الأساسية لفهم الهدف الرئيس من برنامج الطروحات الذي تم الإعلان عنه في فبراير من العام الحالي؛ فالدولة حددت 32 شركة بعدد 18 قطاعًا اقتصاديًا سيتم طرح أجزاء منها بسوق الأوراق المالية المصرية، أو التخارج الجزئي منها من خلال البيع لمستثمرين رئيسين. ويمكن تصنيف تلك القطاعات بين التصنيفين الأول والثاني اللذين سبقت الإشارة إليهما في وثيقة سياسة ملكية الدولة (قطاعات سيلعب القطاع الخاص بها الجزء الأكبر، والقطاعات الذي ستعزز الدولة وجود القطاع الخاص بها من خلال المشاركة).

بالنظر إلى الشركات محل الطرح، نستطيع أن نتعرف علي توجه الدولة في الفترة المقبلة؛ إذ إنه ورد بتلك الوثيقة طرح 5 من الشركات العاملة بالقطاع المالي المصرفي وغير المصرفي والتي تتمثل في (بنك القاهرة، والمصرف المتحد، والبنك العربي الأفريقي، وشركة مصر لتأمينات الحياة، وشركة مصر للتأمين). ولا تعني عملية الطرح البيع الكامل لتلك المؤسسات، بل هو بيع لحصة الدولة ببعض من الشركات، فعلي سبيل المثال البنك العربي الأفريقي، هو بنك تمتلك به الدولة نسبة من ملكيته وفقًا للوضع الحالي بينما يمتلك المستثمرون المحليون والأجانب باقي الحصة.

ورد بتلك القائمة أيضًا 4 من الشركات العاملة بالقطاع العقاري والتي تتمثل في: (النصر للإسكان والتعمير، والمعادي للتنمية والتعمير، وشركة المستقبل للتنمية العمرانية، وشركة الصالحية للاستثمار والتنمية)، و15 من الشركات العاملة بقطاع البتروكيماويات والأسمنت والتعدين، وهي: (مصر لأعمال الأسمنت المسلح، وشركة حلوان للأسمدة، والشركة الوطنية للمنتجات البترولية، والشركة المصرية لإنتاج البروبيلين والبولي بروبيلين، والنصر للتعدين، وشركة إيثيدكو، وشركة الحفر للبترول، وشركة ايلاب ، وشركة سيناء للمنجنيز، والمصرية للسبائك والحديد، ومحطة توليد رياح بجبل الزيت، ومحطة توليد رياح بالزعفرانة، ومحطة بني سويف لتوليد الكهرباء، وشركة سيد للصناعات الكيماوية، وشركة بويات باكين).

فوائد برنامج الطروحات

يجب التأكيد على أن الشركات السابق ذكرها هي شركات مصرية عاملة علي أرض مصر، توظف عمال مصريين، وتسهم في تقديم منتجاتها للسوق المصرية، ولا يعني طرح تلك الشركات بسوق الأوراق المالية المصرية أو من خلال البيع لمستثمر استراتيجي تغير تلك الأسس. لكن برنامج الطروحات يعرض ميزة أساسية وهي دخول مساهمين جدد بتلك الشركات، بما يسهم في تعزيز قواعد الحوكمة بتلك الشركات (يقلل من احتمالات الفساد)، ويجدد دماء إدارة تلك الشركات من خلال وجود تمثيل للمستثمرين الجدد بمقاعد مجالس إدارة تلك الشركات، وهو ما سيكون له هدف إيجابي علي تطوير نماذج أعمال تلك الشركات من خلال تحسين كفاءة عملياتها، أو نقل تكنولوجيا جديدة إليها، أو المساهمة في فتح الأسواق الخارجية لمنتجات تلك الشركات، وعليه فإن لتلك الطروحات فوائد جيدة للغاية على أداء تلك الشركات بالأساس.

أما عن الرأي السائد عن بيع الحكومة لتلك الشركات وهو ما يؤدي إلى تقليص حصة الحكومة بتلك الشركات وما له من أثر سيئ اقتصاديًا ، فيمكن شرح ذلك الأمر بمثال بسيط، بافتراض أن الدولة تمتلك 90% من شركة تبلغ قيمتها 100 جنيه، إذًا فحصة الحكومة الحالية هي 90 جنيه ، في حال تم طرح تلك الشركة بسوق الأوراق المالية ودخول مستثمرين جدد سواء من خلال البورصة أو كمستثمرين استراتيجيين بالتفاوض ستنخفض حصة الحكومة إلى 50% على سبيل المثال، لكن هيكل المساهمين الجديد وبالتابعية الإدارة الجديدة للشركة استثمرت بهدف تعظيم قيمه الشركة، وهو ما يعني أن عمليات الشركة ستتحسن وسينعكس ذلك علي قيمتها، لتصبح قيمة الشركة بعد خمس سنوات 1000 جنيه وهو أمر طبيعي ومتكرر الحدوث في الاستثمار أن تتضاعف قيم الشركات، وحيث إن حصة الحكومة تبلغ 50 % فإن قيمة ما تملكه الحكومة حاليًا هو 500 جنيه (50 % في 1000 جنيه قيمة الشركة)، وبالتالي فإن قيمة ما تملكه الحكومة ارتفع من 90 جنيه إلى 500 جنيه على الرغم من انخفاض حصتها.

أما عن الأثر على سوق المال، فمن الجدير بالذكر أن أحد أكثر الشكاوى المتكررة هي أن سوق الأوراق المالية المصرية تفتقد إلى السيولة وغير متنوعة ولا تعكس كل القطاعات الاقتصادية بالبلاد، هذا فضلا عن أن حجم رأس المال السوقي بالبورصة المصرية غير معبر عن الاقتصاد؛ فحجم رأس المال السوقي إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي يمثل حوالي 12 % أو من الناتج المحلي الإجمالي، بعدد شركات بحوالي 250 شركة تقريًبا (إجمالي رأس المال السوقي 1 تريليون جنيه وحجم الناتج المحلي الإجمالي المصري تقريبا 9 ترليون جنيه).

وعليه فإن تلك الطروحات الحكومية ستعالج الخلل الأهم بسوق الأوراق المالية المصرية، وتطرح العديد من الشركات الجيدة للمستثمرين المحللين والأجانب والتي تمكنهم من تنويع استثماراتهم بالقطاعات المختلفة بالسوق المصرية، وتزيد من حجم السيولة بتلك الشركات، الأمر الذي سيعزز من فرص إدراج تلك الشركات المصرية بالمؤشرات العالمية والتي يأتي علي أبرزها مؤشر MSCI والذي يتم استخدامه من جانب المستثمرين عالميًا لتنويع استثماراتهم في الأسواق الناشئة.

دعم القطاع الصناعي

أما عن الجزء الثاني من تلك الوثيقة والتي تخصص بعرض أهم الإجراءات التي تعكف عليها الحكومة المصرية لدعم القطاع الصناعي فهي تتمثل في عدد من الإجراءات الرئيسة، مثل تقليص صلاحيات المؤسسات الحكومية في فرض أي رسوم جديدة على القطاع الصناعي، ووضع تلك الصلاحيات بشكل حصري بموافقة مجلس الوزراء للتمكن من التحكم بشكل صارم في الرسوم إلى يتم فرضها على ذلك القطاع، وقد صدر ذلك القرار بالفعل في يونيو 2022. 

أما الأمر الثاني فيشمل تقديم إعفاءات ضريبية لعدد 19 قطاعًا صناعيًا لمدة ثلاث سنوات بداية من أغسطس 2022، وتسهيل عمليات تخصيص الأراضي الصناعية بقيمة سنوية بحوالي 5% من سعر البيع للمتر (من الجدير بالذكر أن النسبة المتعارف عليها كإيجار بالنسبة لسعر البيع تتراوح بين 7 – 12 %)، وتيسير شروط الحصول على الرخصة الذهبية التي تمكن المستثمر من إنهاء جميع الإجراءات والتراخيص الخاصة بالمصنع بشكل سريع والتي بدأ تطبيقها بالفعل في ديسمبر 2022، وأخيرا إطلاق مبادرة تمويلية لدعم الاحتياجات المالية للقطاع الصناعي بحوالي 11% وهي أقل من سعر الفائدة المعلن من جانب البنوك لتمويل ذلك القطاع بحوالي 7%، بالإضافة إلى العديد من المميزات الأخرى التي تم تقديمها للقطاع.

ويتبقى لاستكمال هذه الإجراءات أن يتم تسريع عملية صرف مستحقات دعم المصدرين بشكل عاجل؛ إذ إن صرف تلك المستحقات بشكل عاجل وسريع وفي إطار زمني محدود سيسهم في توفير الاحتياجات المالية للمصنعين المصدرين وقد يقلل من احتياجهم للتمويل المصرفي، خاصة بالنظر إلى أن هناك عددًا كبيرًا من الشركات المصدرة المصرية لديها مستحقات مالية كبيرة لدى وزارة المالية، وتضطر للحصول علي ديون لتمويل عملياتها التوسعية أو التصديرية نظرًا لتأخر الحكومة في صرف تلك المستحقات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى