ليبيا

البناء الإيجابي.. ليبيا ما بعد اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة

احتضنت العاصمة المصرية القاهرة، يومي السابع والثامن من فبراير 2023، اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة “5+5″، بحضور رئيس البعثة الأممية في ليبيا عبد الله باتيلي، ولجنة التواصل الليبية ونظيراتها من النيجر والسودان. جاء هذا الاجتماع مكملًا لتحركات بدأها مؤخرًا المبعوث الأممي باتيلي في النطاق الإقليمي الليبي، حيث زار كل من الجزائر والكونغو برازفيل والمغرب، ثم التقى في الثاني من الشهر الجاري، بمقر البعثة الأممية في ليبيا، مع سفيري السودان إبراهيم محمد أحمد، والنيجر إسيك إيغ غاتو، والقائم بالأعمال التشادي بشير عبود. هذه التحركات كان هدفها الأساسي هو كيفية إلزام الدول التي يتواجد في ليبيا مرتزقة يحملون جنسياتها، بسحبهم في المدى المنظور من الأراضي الليبية.

بالعودة إلى اجتماع القاهرة، يمكن القول إنه حقق اختراقًا مهمًا في ملف المرتزقة، حيث اتفقت اللجان المشاركة في هذا الاجتماع على آلية متكاملة للتنسيق المشترك بشأن جمع وتبادل البيانات حول هذا الملف، وتركزت المناقشات على خطة إخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا، وهي الخطة التي وضعتها اللجنة العسكرية المشتركة في أكتوبر 2021، وتعثر تطبيقها لأسباب لوجيستية وسياسية، ناهيك عن قيام ممثلي الجيش الوطني الليبي في هذه اللجنة، بتعليق عضويتهم فيها في أبريل 2022، احتجاجًا على ما اعتبروه عرقلة الحكومة المنتهية ولايتها، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، لأعمال اللجنة، وإهدار مسؤولين بالحكومة للمال العام، ورفض الدبيبة تسليم السلطة للحكومة المكلفة من البرلمان. ومنذ ذلك الحين، لم تجتمع اللجنة العسكرية المشتركة بشكل منتظم.

هذا الجهد يأتي مكمل للاجتماع السابق للجنة العسكرية المشتركة، الذي انعقد في الخامس عشر والسادس عشر من شهر يناير الماضي في مدينة سرت، وتم اعتباره بمثابة استئناف اجتماعات هذه اللجنة، بعد توقف دام ثمانية أشهر. كان الهدف الرئيس من استئناف هذه الاجتماعات هو استكمال خطة العمل الخاصة برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة والمسلحين من البلاد، وبحث مصير الميليشيات شبه العسكرية الموجودة في ليبيا، وقد حضر هذا الاجتماع أيضًا المبعوث الأممي باتيلي. وخلص إلى التأكيد على ما توصلت إليه اللقاءات السابقة بشأن حماية اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عام 2020، وكذا الاتفاق على بنود خطة إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا، وتبادل المحتجزين، وآليات عمل المراقبين الدوليين والمحليين، بجانب بحث ما جرى من خطوات توحيد المؤسسة العسكرية.

اللجنة العسكرية المشتركة.. ملمح ايجابي من ملامح الأزمة الليبية

تم تشكيل اللجنة العسكرية المشتركة “5+5″، بموجب اتفاق تم التوصل إليه في مؤتمر برلين حول ليبيا عام 2020، بحيث تتكون من 5 أعضاء عسكريين من المنطقة الغربية، و5 عسكريين من الجيش الوطني الليبي في المنطقة الشرقية، بهدف رئيس وهو بحث توحيد المؤسسة العسكرية التي انقسمت عام 2014، وإعادة الأمن، ثم دخلت في اختصاصها مهام أخرى من بينها مراقبة وقف إطلاق النار وبحث مصير الميليشيات والمرتزقة الأجانب.

ملف المرتزقة الأجانب، حظي بجهود وافرة من هذه اللجنة خلال عام 2021، حيث تواصلت مع دول الجوار الليبي “تشاد والنيجر والسودان”، بشأن المرتزقة المتواجدين في جنوب البلاد، وقام أعضاء هذه اللجنة برحلتين مهمتين إلى كل من روسيا وتركيا، بحثوا خلالها ملف إخراج المرتزقة المتواجدين شمال البلاد، وكذا اجتمعت هذه اللجنة في جنيف أوائل أكتوبر 2021، وهو الاجتماع الذي تم خلاله إقرار خطة إخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا، والتي تحاول اللجنة في الوقت الحالي إعادة تفعيلها.

على المستوى العام، كان لهذه اللجنة نجاحات مهمة منذ التوصل لوقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، منها إزالة الألغام الموجودة على الطريق الساحلي بين مدينة سرت وغرب البلاد، وتبادل الأسرى والمحتجزين، حيث تمكنت اللجنة منذ عام 2021 من تنفيذ عدة عمليات تبادل كان أخرها في ديسمبر الماضي، حين تبادل كلا الطرفين مجموعة من المحتجزين، بواقع طيار واحد تابع للجيش الوطني الليبي، مقابل خمسة عشر محتجزًا كان يتبعون سابقًا لقوات حكومة السراج. يتمثل الإنجاز الأكبر لهذه اللجنة في الإعلان عن الفتح الكامل للطريق الساحلي الرابط بين شرق وغرب البلاد “طريق سرت” في يوليو 2021، وهو ما تم اعتباره مؤشرًا على قدرة أعضاء هذه اللجنة على التغلب على المعوقات اللوجيستية والميدانية، وهو ما شكل نموذج لكيفية التغلب على التناقضات والخلافات الجذرية بين ضفتي البلاد، والتعامل بفاعلية مع التحديات التي تحول دون تطبيع الأوضاع العسكرية في ليبيا. 

نجاحات هذه اللجنة ساهمت بشكل أساسي في انعقاد لقاء لافت في مدينة سرت في ديسمبر 2021، بين رئيس الأركان العامة بحكومة الوحدة الوطنية الفريق أول محمد الحداد، والفريق عبد الرازق الناظوري المكلف بمهام القائد العام للجيش الوطني، وهو لقاء يعقد للمرة الأولى على هذا المستوى العسكري الرفيع بين شرق ليبيا وغربها. كان الملف الأساسي الذي تمت مناقشته خلال هذا الاجتماع، هو الخطة الخاصة بدمج الميليشيات والمجموعات شبه العسكرية التي وضعتها المنطقة الغربية، وتنص على تصنيف أعضاء المجموعات المسلحة إلى أفراد راغبين في الاندماج بالجيش أو الشرطة، وآخرين يريدون أعمالًا حرفية أو استكمال الدراسة. 

زخم إقليمي ودولي ضاغط حول ليبيا

إعادة تفعيل عمل هذه اللجنة بعد توقف دام أشهر عديدة، ربما يرتبط بشكل كبير بالزيارة التي قام بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، إلى ليبيا في يناير الماضي، والذي تناول بطبيعة الحال ملف مرتزقة “فاجنر” الروس، وهم أحد الأركان الأساسية لتواجد المرتزقة الأجانب في ليبيا، مع العلم أن هذا الملف كانت واشنطن قد فتحته سابقًا مع اللجنة العسكرية الليبية المشتركة من خلال مشاركة قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا الجنرال ستيفن تاونسند، في أحد اجتماعاتها في سبتمبر 2021. لذا كان من البديهي أن يكون البيان الأول المرحب بنتائج الاجتماع الأخير للجنة العسكرية المشتركة في القاهرة، صادرًا من سفارة الولايات المتحدة الأمريكية لدى ليبيا التي أصدرت بيانًا رحبت فيه بهذه المبادرة، وأعربت عن دعمها دعوات الممثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لسحب المقاتلين والمرتزقة الأجانب من ليبيا.

لكن إذا نظرنا للبعد السياسي لهذا الملف، يمكن ربط إعادة انطلاق المسار العسكري مع الجهد الإقليمي والدولي الذي أطلقته القاهرة في نوفمبر الماضي، عبر استضافة عدة لقاءات حول الشأن الليبي، من بينها اللقاء الذي جمع رئيس مجلس النواب الليبي، المستشار عقيلة صالح، والأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، واللقاء الذي جمع بين وزير الخارجية المصري سامح شكري والمبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي، مرورًا بزيارة رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي للقاهرة، وصولًا إلى اللقاء الذي احتضنته القاهرة بين رئيس مجلس النواب الليبي، المستشار عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، والذي تلاه لقاء آخر بين المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، وكذا اللقاء الذي جمع أمس بين وزير الخارجية المصري سامح شكري والمبعوث الأممي عبد الله باتيلي.

تضاف هذه الجهود، إلى اللقاءات التي أجراها المبعوث الأممي باتيلي، والذي أطلق سلسلة من المباحثات مع أطراف ليبية وإقليمية بهدف تأمين الأرضية اللازمة لنجاح اجتماعات اللجنة، من بينها لقاؤه مع المشير خليفة حفتر في السادس من فبراير الجاري، ولقاؤه مع عبد الحميد الدبيبة في الخامس من نفس الشهر، وكذا لقاء عقده في طرابلس مع مجموعة من أعضاء مجلس النواب الليبي في طرابلس، ولقاء آخر بينه وبين وزير الداخلية المكلف في حكومة الدبيبة “منتهية الولاية”.

هذه الجهود الضاغطة، ساهمت في استمرار عقد الآمال في القطاعات الليبية المختلفة على كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، للبناء على الملامح الإيجابية التي ظهرت خلال لقاء المستشار صالح وخالد المشري في القاهرة مؤخرًا، وتضمنت اتفاقهما على تفعيل التوافقات التي تم التوصل إليها بشأن النصوص الدستورية المتعلقة بالانتخابات خلال الاجتماعات الماضية للجنة الدستورية، عبر إحالة الوثيقة الدستورية التي تم التوافق عليها إلى مجلسي النواب والدولة، لإقرارها وفق النظم الداخلية لكلا المجلسين، بما يمثل حلًا وسطيًا ومرحليًا يتم من خلاله الالتفاف على النقاط الخلافية المتبقية في هذه الوثيقة، والتي تتعلق بترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين.

وعلى الرغم من بعض التوتر الذي ساد المسرح السياسي الليبي بسبب بعض التصريحات الصادرة من رئيس مجلس النواب بشأن المجلس الرئاسي، إلا أن هناك خطوات إيجابية على المسار السياسي تم اتخاذها خلال الأيام القليلة الماضية، من بينها مصادقة المجلس الأعلى للدولة على آلية اختيار بعض شاغلي المناصب السيادية، مثل منصب رئيس ديوان المحاسبة ورئيس مفوضية الانتخابات ونائب محافظ البنك المركزي ووكيل هيئتي الرقابة ومكافحة الفساد.

وتمثل التطور الإيجابي الأهم في هذا الصدد، في إقرار مجلس النواب الليبي أمس التعديل الدستوري الثالث عشر، وهي خطوة – وإن كانت مختلفة من حيث الشكل عما تم الاتفاق حوله في القاهرة بين رئيسي مجلس النواب والأعلى للدولة – إلا أنها من حيث المضمون تعد اختراقًا مهمًا، نظرًا لأنها تمت بالتشاور مع رئاسة المجلسين – ويمكن اعتبارها قاعدة دستورية شبه كاملة – تم من خلالها الإقرار بأن القانون الانتخابي هو ما سيحدد ضوابط وشروط ترشح رئيس الدولة، ومن يتولون المناصب، وينظم استقالتهم من عملهم، وآلية عودتهم لسابق عملهم في حالة عدم الفوز، وهو ما يشير ضمنيًا إلى توافق مجلسي النواب والأعلى للدولة على المعضلة المتعلقة بترشح العسكريين، حيث بات موجبًا على أي شخصية مدنية أو عسكرية الاستقالة من منصبها قبل الترشح. وبهذا بات ملف ترشح مزدوجي الجنسية هو الملف الوحيد الباقي لمعالجته، والمرجح في هذا الصدد أن تتم معالجة هذا الملف ضمن القوانين الانتخابية التي ترجح أن يقوم كلا المجلسين – الأعلى للدولة والنواب – بإقرارها، كخطوة أخيرة قبل الدعوة للانتخابات بعد 240 يومًا كما نص التعديل الدستوري الأخير.

أصبح من المؤكد أن المقاربة الأمريكية الجديدة في الملف الليبي، بالنظر إلى اللقاء الذي احتضنته واشنطن مؤخرًا – حسب ما أفادت به صحيفة الجارديان البريطانية – حول ليبيا، وضم ممثلين عن القوى الدولية الفاعلة في الملف الليبي، ومنها إيطاليا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وكذا الجهد المصري والأممي المتزايد خلال الأسابيع الماضية لإيجاد تقارب بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، بدأت تؤتي ثمارها بشكل سريع وواضح. وعلى المستوى العسكري، تبقى هناك تحديات عديدة فيما يتعلق بجهود اللجنة العسكرية المشتركة لحل ملف المرتزقة الأجانب والميليشيات، فحتى الآن لم تجب حكومة الدبيبة “منتهية الولاية” على رسائل اللجنة المتعلقة بملف الميليشيات الموجودة في غرب البلاد، كذلك لم يرد من حكومة الدبيبة أي رد على مطالبات اللجنة العسكرية المشتركة بشأن تجميد الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع دول أخرى.

وفي هذا الصدد يمكن تحديد اتجاهين أساسيين يعوقان جهود اللجنة العسكرية المشتركة لإيجاد حل لمعضلة المرتزقة الأجانب والميليشيات. الاتجاه الأول هو اتجاه داخلي، ففي ظل حالة الاستقطاب الحالية تتدهور الأوضاع الأمنية في عدة مناطق في غرب البلاد، أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه خارجي، لا تبدو فيه ملامح واضحة لضغوط دولية على الأطراف الممولة والناقلة والداعمة للمرتزقة والقوات الأجنبية المتواجدة على الأراضي الليبية، من أجل سحبها وإنهاء التأثيرات التي يحدثها وجودها على الساحة الليبية، ناهيك عن محاولة بعض الدول الحفاظ على تموضعها الحالي في الداخل الليبي، خدمة لمصالحها السياسية والاقتصادية وأهدافها الاستراتيجية، وهو ما يمكن ربطه بالزيارة الأخيرة التي قامت بها رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” إلى العاصمة الليبية.

كاتب

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى