مصر

سياسات دعم الصحة النفسية في مصر

الصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من الصحة العامة، وطبقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية فهي “حالة العافية التي يحقق فيها الفرد قدراته الذاتية، ويستطيع مواكبة ضغوط الحياة العادية، ويكون قادرًا على العمل الإيجابي، ويمكنه الإسهام في مجتمعه”، وأكدت منظمة الصحة العالمية على الارتباط والتأثير المتبادل بين كل من الصحة الجسدية والصحة النفسية. وتبرز أهمية الصحة النفسية في العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والذي نص في المادة (12) على أنه “من حق كل إنسان التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية”.

وبالتوازي مع هذه المواثيق والاتفاقيات، شهدت العقود الماضية تغيرًا كبيرًا في مفاهيم الصحة النفسية وأساليب العلاج المرتبطة بها، فتم تنظيم العديد من المؤتمرات التي نتج عنها مجموعة من المبادرات الدولية التي استهدفت حماية حقوق المرضى النفسيين وتنظيم قواعد علاجهم ورعايتهم بما يحفظ هذه الحقوق، وقد أسهمت هذه الجهود في النهاية في إصدار وثيقة بعنوان “مبادئ الأمم المتحدة لحماية المصابين بعلل نفسية وتحسين الرعاية الصحية النفسية” عام ١٩٩١.

ويعد الأفراد المصابون باضطرابات نفسية إحدى شرائح المجتمع الضعيفة والأكثر عرضة لانتهاك الحقوق، خاصة وأن المرض النفسي يؤثر بشكل كبير على تفكيرهم ومشاعرهم، بشكل يجعلهم غير قادرين على حماية أنفسهم، بجانب أن “وصمة العار” التي تلاحقهم من المجتمع تمثل عاملًا إضافيًا، علاوة على أن بعض حالات المرض النفسي تتطلب تدخلًا طبيًا ضد إرادة المريض؛ حفاظًا على سلامته وسلامة الآخرين.

وتجدر الإشارة، إلى إنه من الصعب الوصول إلى تحديد محدد للاضطراب النفسي، لأنه ليس حالة واحدة، بل هي مجموعة من الاضطرابات لها بعض السمات المشتركة، وعلى سبيل المثال، الاضطرابات القصيرة والطويلة الأجل مثل الفصام والاكتئاب. وتعد الاضطرابات النفسية شائعة في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، فقد وصلت نسبتها إلى 15% من عبء الأمراض على مستوى العالم.

أما الإعاقة النفسية، فإنها تنتج عندما يسبب الاضطراب النفسي طويل الأجل خللًا يمنع الأفراد المصابين به من التفاعل في المجتمع بشكل كامل، ومن أمثلة الإعاقات النفسية التي تنتج من الاضطراب النفسي عدم القدرة على الحصول على عمل أو على الاحتفاظ به، وعدم القدرة على إقامة علاقات اجتماعية سليمة، وعدم القدرة على أداء النشاطات اليومية.

وقد بدأت سياسة الصحة النفسية في مصر في الفترة ما بعد 1882، فقد تم اللجوء إلى الدكتور البريطاني جون وارنوك مسؤول مصحات العلاج النفسي لزيارة مصر؛ بهدف بناء منظومة نموذجية للمصحات النفسية، وبدأ بمستشفى العباسية، ولاحقًا بمستشفى الخانكة. وفي بداية الأمر، كان لهذه المصحات لوائح داخلية تنظم إدخال وخروج المرضى، وكانت هذه اللوائح الداخلية خطوة أولى في بدء العمل على مشروع القانون في عام 1921، وكان مشروع مسودة القانون بناء على مقترح من مشرف مستشفى العباسية، وقد تمت صياغة القانون على غرار قانون الجنون البريطاني.

قانون الصحة النفسية لسنة 1944

مع تأسيس وزارة الصحة العامة في عام 1936، كان لابد من إصدار منهجية في التعامل مع المرضى النفسيين، وبالفعل تم التصديق على أول قانون مصري رقم 141 لسنة 1944 تحت مسمى قانون حجز المصابين بأمراض عقلية، والذي أقر في بنوده بإمكانية إدخال الأفراد لأنفسهم طوعًا إلى مستشفى الأمراض النفسية. وفى ظل عدم وجود تطور في العلاج النفسي في ذلك الوقت، فلم يكن هناك سوى عدد قليل من الحالات التي تجاوزت المرض النفسي، فكان الأمر المعتاد أنه عند إدخال الفرد سيظل داخل المستشفى مدى الحياة.

وقد واجه القانون العديد من الانتقادات، أو بالأدق لم يكن يطبق بالشكل الفعال؛ فكان ينظر القانون إلى المرض النفسي على إنه مرض لا شفاء منه ويستمر مدى الحياة، وكان الأهم هو حماية المجتمع من المرضى النفسيين واحتجازهم خلف أسوار المصحات، وبالتالي لم يضع معايير محددة لإعادة التقييم في حالة المريض في حالة الخروج في المستشفى.

وقد تعاونت مصر مع منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بمجال الصحة النفسية، فكانت من المراكز التي تم اختيارها من قبل منظمة الصحة العالمية من أجل وضع استراتيجيات لتمديد نطاق الرعاية الصحية النفسية في الفترة من ١٩٧٥ إلى ١٩٨١، والتي طورت البرامج المطلوبة من أجل إدماج الرعاية النفسية ضمن الرعاية الصحية الأولية. ومنذ عام ١٩٨٦، حددت الحكومة هدفها فيما يتعلق بالصحة النفسية وهو التوجه نحو إدماج الرعاية الصحية النفسية الأساسية ضمن الرعاية الصحية الأولية، من خلال التعاون مع القطاعات الحكومية وغير الحكومية المعنية.

وبالرغم من كل هذه الجهود، فإنها لم تكن كافية ولم تحقق النتائج المستهدفة، لأن أطباء الرعاية الأولية ليس لديهم خبرات كافية حول المساعدة في تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية، لأنهم لم يسبق لهم التعامل على الإطلاق مع الأطباء النفسيين المتخصصين، فضلًا عن أن مصر كانت تعاني في هذه الفترة من قصور في إتاحة خدمات الرعاية الصحية النفسية للأفراد، وأن أغلب الخدمات النفسية تتوافر في المحافظات الكبرى، إلى جانب ضعف التعاون بين القطاع الصحي الرسمي والقطاعات المجتمعية الأخرى، بما فيها منظمات المجتمع المدني.

قانون الصحة النفسية لسنة 2009

وفي عام 2006 بدأت وزارة الصحة العمل على مشروع قانون جديد من شأنه حماية حقوق الأشخاص المصابين بأمراض نفسية، وقد استغرقت عملية الصياغة ثلاث سنوات بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والكلية الملكية للأطباء النفسيين. وفي 23 سبتمبر 2009، صدّق البرلمان المصري على قانون رقم 71 لسنة 2009، المعروف بقانون الصحة النفسية، وتم الانتهاء من وضع اللائحة التنفيذية في 2010.

وقد أسهم هذا القانون في تطوير مفهوم الرعاية في مستشفيات الصحة النفسية المصرية؛ إذ تراجعت نسبيًا “وصمة العار”، المرتبطة بمؤسسات العلاج، وساعدت حملة التوعية بالصحة النفسية التي تم إطلاقها بهدف الترويج للقانون الجديد على تشجيع المجتمع المصري على قبول وجود أمراض الاضطرابات النفسية.

وتضمن القانون رقم 71 لسنة 2009 إنشاء المجلس القومي للصحة النفسية ومجالس إقليمية فرعية في المحافظات التي تقدم رعاية الصحة النفسية للمرضى المقيمين في المستشفيات؛ وذلك لرصد مدى إنفاذ قانون الصحة النفسية لسنة 2009. وبهدف سد الثغرات التي أسفر عنها تطبيق القانون، قدمت الحكومة مقترحًا بتعديلات لقانون رقم 71 لسنة 2009 حول رعاية الصحة النفسية إلى البرلمان في 7 نوفمبر 2019، وأقرها البرلمان في أبريل 2020.

وكان هدف التعديل حماية حقوق المرضي النفسيين وتوفير الرعاية الصحية اللازمة، في ظل ما نتج عنه من تطورات في مفاهيم الصحة النفسية وطرق العلاج، وفي ظل اعتراف المجتمع الدولي بأن مهنة المعالج النفسي من المهن الضرورية.

وقد ركزت التعديلات على وضع ضوابط محددة لاستخدام العلاج بالصدمات الكهربائية؛ ولمواجهة الوصمة، والصورة الذهنية السلبية للعلاج النفسي، علاوة على حماية المهنة من “الدخلاء” غير المتخصصين الذين يعملون في عيادات للعلاج النفسي.

ذلك خاصة وأن “جلسات الكهرباء” أو ما يعرف بجلسات “تنظيم إيقاع المخ”، كانت تُجرى بشكل غير علمي في بعض مراكز العلاج النفسي، لذا جاء مشروع القانون لمنع أي تجاوزات، وأصبحت تلك الجلسات لا تتم إلا بموافقة كتابية من المريض، أو أهله إن تعذر الحصول على موافقته، وفي حال رفضوا هذا الأسلوب لن يتم تقديم العلاج.

منصة لخدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان

في إطار الجهود التي تقوم بها الدولة فيما يتعلق بملف الصحة النفسية، أعلنت وزارة الصحة في مارس 2022 عن إطلاق المنصة الوطنية الإلكترونية الأولى بمصر لخدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان بالمجان، وتهدف المنصة إلى توفير خدمات حكومية مجانية للصحة النفسية وعلاج الإدمان لجميع الفئات العمرية من المصريين وغير المصريين المقيمين على أرض مصر، وذلك بالتعاون بين كلٍ من: الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، والمركز القومي للمعلومات بوزارة الصحة والسكان، ومنظمة الصحة العالمية، وجامعة بريتش كولومبيا بكندا.

وتسهم المنصة بشكل كبير في الحصول على الاستشارات والدعم النفسي بجودة عالية وبسرية تامة، وهي تسهم كذلك في التغلب على “وصمة العار” المتعلقة بالاضطرابات النفسية في المجتمع، وتصحيح المفاهيم المغلوطة وتقديم معلومات سليمة للجميع.

وتضم المنصة ثلاثة أقسام: الأول، محتوى تثقيفي توعوي للمستخدمين من خلال إتاحة معلومات علمية مهمة عن الاضطرابات الشائعة في الطب النفسي العام، وكذلك الأعراض وآليات التعامل مع الأزمات النفسية التي تواجه المرضى وأسرهم، وتعرض الخدمات المتاحة بالأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان كالتعريف بالمستشفيات والمراكز التابعة للأمانة وأماكن ومواعيد العيادات التخصصية وحملات التوعية.

الثاني، تقديم خدمات الدعم والاستشارات النفسية عن بعد، من خلال استبيان لتقييم حالتهم النفسية، وحجز جلسة مع المعالجين النفسيين المؤهلين، حيث يختار الشخص المكان والزمان المناسبين لأداء الجلسة في سرية تامة، ويستطيع كل من المعالج والفرد من خلال لوحة التحكم الخاصة به أن يقيم مستوى الجلسة، وتتيح للمعالج تحويل الحالات الطارئة إلى الخط الساخن الخاص بالأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان لسرعة التدخل الفوري.

الثالث، خاص بالمشرفين والقائمين على الموقع، حيث يمكنهم من متابعة وتقييم أداء المنصة، ويقوم بعرض أهم التقارير الخاصة بإحصائيات البوابة الإلكترونية مثل عدد المستخدمين، ومعدل أعمارهم ومعدل المتابعة وأكثر التخصصات التي تم تصفحها وغيرها من البيانات.

مبادرة لدعم الصحة النفسية

وفى نهاية عام 2022، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مبادرة لدعم الصحة النفسية، وبناء على ذلك فإن وزارة الصحة والسكان، تعمل على تبنى استراتيجية لتطوير هذا الملف، بما يضمن تيسير حصول المواطن المصري على كافة خدمات الدعم النفسي، والعمل على تغيير الصورة الذهنية للمجتمع التي تنظر للمرض النفسي على أنه وصمة عار، وذلك بالتعاون مع الجهات المنوطة، كذلك سوف تشمل المبادرة وضع خطة تستهدف توسيع المدارك المجتمعية ونشر ثقافة الصحة النفسية وأهميتها، وتكثيف تنفيذ حملات توعية بالصحة النفسية للطلاب بالمدارس والجامعات.

ومن ضمن استراتيجية تطوير الملف، سيتم عمل حصر بعدد المنشآت الصحة النفسية سواء الحكومية أو الخاصة، مع التوجه بزيادة الطاقة الاستيعابية للمستشفيات النفسية، من خلال التنسيق مع الجهات المنوطة مثل وزارة (الصحة، التعليم العالي، الداخلية) والمؤسسات المدنية والأهلية؛ لعمل دراسة كاملة لمنظومة الصحة النفسية بمصر. وكذلك التعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي لإنشاء مشروع دور رعاية لكبار السن وتخضع بالإشراف الصحي لوزارة الصحة والسكان؛ وذلك بهدف تخفيف العبء على مستشفيات الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة، وكذلك إعادة تفعيل لجنة لدراسة الطلب المتنامي لعلاج الإدمان.

لكن يجب الاخذ في الحسبان بعض النقاط عند تفعيل المبادرة ومنها: إدراج تعديل لقانون الصحة النفسية ليشمل توفير خدمات الصحة النفسية للأمهات وحقهن في الحصول على رعاية نفسية جيدة خلال فترة أثناء الولادة وبعد الولادة، كذلك إدراج اضطرابات الصحة النفسية في فترة ما بعد الولادة ضمن المبادئ الأساسية للمبادرة، كذلك الاهتمام بالعمل على برامج يمكن تسميتها “بالتدخل المبكر الوقائي” منذ الطفولة لتقليل احتمالية تعرض الأطفال لاضطرابات نفسية أو سلوكية في فترة سن المراهقة، بالإضافة إلى التوسع في إنشاء مراكز الدعم النفسي في مؤسسات التعليم الجامعي أو ما قبل الجامعي بحيث تضم مختصين بالإرشاد النفسي، وأخيرًا تكاتف كافة المؤسسات المعنية لعدم بث مشاهد الحوادث والتي قد تصيب البعض بصدمة نفسية حتى وإن لم يكن طرفًا فيها، ومن هنا يكون الدعم النفسي هو ضرورة ملحة لكافة أفراد المجتمع.

منى لطفي

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى