
تمتلك كلا من مصر والهند قدرات متكاملة تمكن الدولتين من إنشاء منظومة صلبة قادرة على مواجهة التحديات المشتركة والأزمات الدولية المستجدة، بما في ذلك أزمتي الطاقة والغذاء، وفي هذا الإطار استقبلت رئيسة الهند “دروبادي مورمو” ورئيس الوزراء” ناريندرا مودي” الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في قصر “راشتراباتي بهافان” الجمهوري بالعاصمة نيودلهي اليوم ، فيما استضاف قصر حيدر آباد اليوم المباحثات التي عقدت بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الهندي قبل يوم واحد من احتفالية يوم الجمهورية في الهند، التي توافق غدًا السادس والعشرين من يناير، بالإضافة إلى أن العام الجاري يمثل مرور 75 عامًا على تدشين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وتعد زيارة الرئيس السيسي الحالية الأولى من نوعها من حيث دعوة رئيس مصري لحضور هذه الاحتفالية، مما يعكس حجم التقدير الذي توليه الرئاسة الهندية للتجربة المصرية الصاعدة في مختلف المجالات، وقد شهدت الزيارة إجراء الرئيس السيسي لمباحثات مع عدد من كبار المسؤولين الهنود وممثلي الجهات الحكومية المعنية المختلفة وكبرى الاتحادات والغرف التجارية والصناعية في الهند، وبحضور السادة وزراء الخارجية، والكهرباء والطاقة المتجددة، والتخطيط والتنمية الاقتصادية، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وأسفرت المباحثات مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية الهندي وكذلك مسؤولين رفيعي المستوى ورؤساء شركات وكيانات هندية ضخمة، عن التوصل لمجموعة من التفاهمات والاتفاقات التي تنقل العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية القائمة على المصالح المشتركة.
مخرجات استراتيجية
–تعظيم التعاون: عن طريق توقيع عدد من مذكرات التفاهم شملت مجالات الاتصالات والزراعة والثقافة والإعلام، والاتفاق عقب المؤتمر الصحفي على تعزيز التعاون الدفاعي بين البلدين ورفع العلاقات الثنائية إلى مستوى استراتيجي يتضمن رفع مستوى التبادل التجاري إلى 12 مليار دولار خلال الأعوام الخمس القادمة ومجالات أخرى على رأسها الزراعة، والتعليم العالي، وصناعات الكيماويات والأسمدة والأدوية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والأمن السيبراني. وكذلك التعاون في مجال الطاقة المتجددة بما فيها الفرص الواعدة في مجال الهيدروجين الأخضر ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي تمثل فرص استثمارية واعدة للهند، تشمل الاستفادة من موقع مصر الاستراتيجي كمركز للإنتاج وإعادة التصدير إلى مختلف دول العالم التي ترتبط معها القاهرة باتفاقات تجارة حرة.
–خلق قنوات منظمة لتبادل الخبرات: خصوصًا أن هناك تجارب ناجحة لدى الدولتين مما يجعل من الضرورة تبادل الخبرات والمعرفة، فيما يرتبط بالتجارب والمبادرات الناجحة في كلٍ من البلدين خاصة على صعيد تطوير الصناعة المحلية، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة وتوفير حياة كريمة للمواطنين، والارتقاء بمستوى معيشتهم. مع الوضع بالاعتبار أن هناك بالفعل تجربة تنموية مشتركة منذ عام 2014، تتضمن استعداد مصر لتحقيق التكامل الصناعي مع الشركات الهندية وتعزيز نموها، من خلال تأسيس شراكات ناجحة تقوم على توطين الصناعات.
-التنسيق الأمني والدفاعي: ينظر للزيارة الحالية باعتبارها استشرافية لشكل العلاقات المستقبلية، والتي من المتوقع أن تشهد تقاربًا على المستوى الأمني “الحيوي”، ومكافحة الإرهاب، واستمرار التدريبات العسكرية المشتركة، وتبادل الخبرات، وتعميق التعاون الدفاعي بما في ذلك التصنيع المشترك.
–التكامل الثقافي: أسفرت المباحثات عن التوجيه بزيادة رحلات الطيران بين القاهرة ونيودلهي، إذ إن المستهدف تعزيز الروابط والثبات على المستوى الثقافي من خلال المشاركة المتبادلة في الفعاليات الثقافية في كل من البلدين، وعلى أهمية تيسير سُبل التواصل بين شعبي البلدين لتسهيل حركة السياحة البينية من خلال تكثيف رحلات الطيران بين مصر والهند، لا سيما بين العاصمتين القاهرة ونيودلهي، حيث تنظر القاهرة لنيودلهي باعتبارها سوق سياحي مهم.
-الاستعداد لدعم الدول النامية من خلال قمة العشرين: تستضيف نيودلهي خلال سبتمبر القادم قمة العشرين، وقد تم دعوة مصر حيث تشارك القاهرة للمرة الأولى بكيانها الوطني وليس ممثلة للاتحاد الأفريقي، وهو ما يتوافق مع ما أسفرت عنه القمة العالمية للمناخ بشرم الشيخ من نتائج مهمة خاصةً ما يتعلق بإنشاء صندوق لتمويل الخسائر والأضرار المترتبة على التغيرات المناخية لاسيما في الدول النامية، التي تعاني فيها البنية التحتية من الضعف، وعدم القدرة على الصمود أمام آثار التغيرات المناخية، ومن خلال المشاركة المصرية في قمة العشرين سيتم دفع المحادثات في الاتجاه البناء؛ سعيًا لتحقيق تطلعات دول الجنوب وبما يتيح التوصل لطرق فعالة، لمواجهة أزمات الطاقة، وتغير المناخ، ونقص الغذاء، وشح التمويل من أجل التنمية، وتراكم الديون المستحقة على الدول النامية لإعادة الاستقرار والتوازن للبيئة الدولية.
-اللجنة المشتركة بين البلدين: شهدت مباحثات اليوم التوصية على ضرورة عقد اللجنة المشتركة بين البلدين، في أقرب وقت ووضع الآليات التنفيذية، لخطط التعاون المشترك بين البلدين لتعظيم الاستفادة من القدرات والمزايا الإنتاجية والتصديرية للبلدين بما يستجيب للأولويات الاقتصادية للشعبين.
– آلية المائدة المستديرة المصرية الهندية للأعمال: لخلق فرصة كبيرة لاستمرار المباحثات بشكل دائم وتسليط الضوء على كل الفرص المتاحة في القطاعات المختلفة، والتي تشمل قطاع الصناعات الدوائية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصناعات الدفاعية والبنية التحتية والبترول والغاز الطبيعي والكهرباء، وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين في المنتجات الزراعية. خصوصًا مع دعم الحكومة المصرية لدفع عجلة التنمية، وتنفيذ العديد من المشروعات القومية العملاقة التي تقدم مصر كشريك دولي فاعل وموثوق به في مجال جذب الاستثمار الأجنبي.
رؤى استشرافية
نظرًا لما تمثله الزيارة الحالية من حالة فريدة تعود بالبلدين لتاريخ التقارب الذهبي، فإنه يمكن البناء عليها لاستشراف مستقبل العلاقات بينهما على عدد من المستويات، وذلك على النحو التالي:
-الشراكات الاقتصادية: من المتوقع أن تنضم مصر لعضوية ” البريكس” التجمع الاقتصادي الصاعد، وفي هذا الإطار فقد وافق مجلس الوزراء المصري على خطط مصر للانضمام إلى بنك التنمية الجديد، وهو بنك متعدد الأطراف أنشأته البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا “الدول الأعضاء في البريكس”، وهو ما يتيح للبلدين آفاق جديدة على مستوى التبادل التجاري تتوافق مع الطموحات المعلنة، خصوصًا بعد أن أعلن البنك المركزي الروسي الاعتراف بالجنيه المصري، وما ينعكس عن ذلك القرار بالمساهمة في تسهيل وتسريع خطوات دخول مصر إلى المجموعة الاقتصادية. بل أن انضمام مصر للبريكس يمكن أن يسهل أيضًا من نفاذها للأسواق الأفريقية، ويمكن لمس ذلك في جولة وزير الخارجية الروسي الحالية في دول أفريقية يستهدف ضمها للبريكس، واقتراحاته التي تدور في فلك إيجاد عملة واحدة لهذا التجمع الاقتصادي. ويضاف إلى ما تقدم كون الهند تتمتع بشراكات تجارية مع دول جنوب وشرق آسيا مما يوفر فرصة للقاهرة أيضًا للنفاذ لهذه الأسواق.
-الدعم المتبادل للقضايا ذات الاهتمام المشترك: وذلك نظرًا لوجود تفاهم سياسي، يقوم على تاريخ طويل من التعاون في القضايا الإقليمية والدولية، مرتكزًا على قواسم حضارية ومشتركة لقوتين فاعلتين في محيطهما تنأيان عن الصراعات الأيدولوجية وتتبنيان حالة من الحياد الإيجابي والتقارب المستمر، مع الأخذ بالحسبان أن الهند تمتلك موقف تاريخي داعم للقضية الفلسطينية.
-مجتمعات شابة: على الرغم من الفارق الضخم بين عدد السكان في البلدين، إلا أن المكون الشبابي يسيطر على التركيبة الاجتماعية، مما يجعل هناك تقارب في الفرص التنموية القائمة على توظيف العقول الواعدة واجتذابها خصوصًا في القطاعات التكنولوجية التي تعد الهند رائدة فيها إلى الحد الذي ترتفع فيه نسبة العمالة الهندية في الخمس شركات التكنولوجية الأكبر على مستوى العالم.
-التعاون في مجال تقنية الجيل الخامس: أطلق رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، خدمات شبكة الجيل الخامس في أكتوبر الماضي ومن المقرر أن تغطي الشبكة التي تم إطلاقها في مدن مختارة، البلد بأكمله خلال العامين المقبلين، مما يخلق فرصة أمام القاهرة لتنويع شراكاتها في مجال شبكات الجيل الخامس، وهو هدف استراتيجي للسياسة المصرية التي تستهدف تنويع شراكاتها على كافة المستويات.
-تقارب التجربة التنموية وانعكاساته: تمتلك الهند تجربة متنوعة منذ تسعينيات القرن الماضي، تشمل خصخصة العديد من القطاعات وبناء قواعد صناعية وتضخيم قطاع البنية التحتية، فضلًا على أن قطاع الخدمات في الهند يعد من بين أضخم القطاعات عالميًا والأسرع نموًا في العالم ويمثل 60% من القطاع الهندي، وفي مصر نما اتجاه لتنمية للاقتصاد الخدمي، عن طريق هيئة قناة السويس والمنطقة الاقتصادية الخاصة بها، مما يعبر عن رؤى مشتركة على الصعيد التنموي ويسهل زيادة الاستثمارات على هذا الاعتبار.
-تبادل الخبرات في مجالات الصناعة والزراعة: خصوصًا أن مصر تسعى في الفترة الأخيرة، لتنمية قطاعي الصناعة والزراعة عن طريق مبادرات وطنية ضخمة تمت الإشادة بها على مستويات دولية.
–الوصول بشكل أفضل للعالم الإسلامي: تدرك نيودلهي أن القاهرة تحتضن الأزهر الشريف قبلة الإسلام السني في العالم، مما يتيح لها توطيد علاقاتها مع العالم الإسلامي خصوصًا أن القاهرة طالما التزمت الحياد في الخلافات المستمرة بين الهند وباكستان حول كشمير، حيث تحترم مصر مكانة الهند كقوة إقليمية وعالمية وكذلك مكانة باكستان، وفي هذا الإطار فهي تؤيد المحادثات بين الجانبين بشأن الصراع.
-التشارك في فهم الدولتين لصورتهما الحضارية: حيث ينبغي النظر إلى قرارات السياسة الداخلية والخارجية للقاهرة ونيودلهي وفهمها من منظور نموذج الحضارة والدولة. ومن هنا تتبع الهند في عهد مودي مسارًا مشابهًا للقاهرة من خلال تبني منظور حضاري لنفسها والعالم، مع التأكيد على فكرة أن الهند ليست مجرد أمة، بل هي حضارة متميزة. وهذه المفاهيم الذاتية المتقاربة تشكل حجر الأساس لعلاقات ثنائية أقوى مستقبلًا. وهو ما أكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته التي جاء فيها أن “مصر والهند تجمعهما روابط حضارية وتاريخية مشتركة وتتشابهان في التزامهما الراسخ بنشر الأمن والسلام”.
– الديناميكيات المشتركة في أفريقيا: بصفتها قوة صاعدة، فإن للهند مصلحة استراتيجية في توسيع نطاق وصولها إلى مناطق مختلفة حول العالم – خاصة إلى إفريقيا، التي تضم عددًا متزايدًا من السكان وتلعب دورًا مركزيًا في أسواق السلع العالمية. وتعد مصر الأفضل في تشكيل حلقة الوصل بين القطبين الهندي والأفريقي، بالبناء على اعتبارات يصعب حصرها وإن كان من الممكن الإشارة إليها في عدد من الانعكاسات تشمل أن مصر التي راهنت على استراتيجيتها الجغرافية الاقتصادية نجحت في مد خطوطها الجوية في جميع أنحاء إفريقيا، وأنشأت مراكز طبية في حوض النيل، وأنشأت سدًا لتوليد الطاقة الكهرومائية في تنزانيا. وتعزيز القاهرة لانتشارها الدبلوماسي وأثبتت نفسها كلاعب مؤثر في حوض النيل والقرن الأفريقي وكذلك في شرق أفريقيا وأفريقيا الوسطى. واتباعها الطرق الدبلوماسية المختلفة للتعامل مع قضية سد النهضة الإثيوبي بالتعاون مع الخرطوم، وبالتالي فمصر تقدم نموذج ناجح للهند لكيفية إدارة مصالحها وتحالفاتها في القارة الأفريقية.
-أمن الطاقة: من وجهة نظر الهند، يعد التقارب مع مصر جزءًا من بنائها الأكبر للهندسة الأمنية في غرب آسيا، ولا سيما الخليج الذي تتمتع مصر بعلاقات خاصة ومتميزة معه، وهو ما يحقق لها معادلة حفظ أمن الطاقة خصوصا أن الحرب الأوكرانية أسفرت عن مزيد من عدم اليقين في هذا الصدد، وسط تصاعد في الاحتكاكات الجيوسياسية في منطقتي البحر الأحمر والخليج العربي نتيجة للممارسات الإيرانية غير القانونية.
استخلاصًا؛ لم تكن العلاقات المصرية – الهندية لتنتقل للخانة الاستراتيجية لولا تواجد قيادة وإرادة سياسية في كلا البلدين، على قدر مناسب من التوافق والرؤى المشتركة التي تتيح تطوير العلاقات على مستويات عدة، ولذلك فإن توافر هذه الإرادة السياسية يشكل ظرفًا تاريخيًا وسياسيًا ينبغي استغلاله والبناء عليه مستقبلًا في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم.
باحث أول بالمرصد المصري



