
مشروع تأهيل قنوات الريّ وتبطين الترع في مصر
تم تصنيف مصر منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي كإحدى الدول التي تعاني من فقر المياه. ويرجع هذا إلى الظروف المختلفة المتعلقة بموارد مصر المائية التي واجهتها خلال العقود الأخيرة، وهي تلك الظروف التي أدت إلى جعلها تعاني مما يطلق عليه ندرة المياه المادية Physical Water scarcity؛ أي أن كمية المياه المتاحة للمصريين غير كافية لتلبية كافة أنشطتهم السكنية والزراعية والصناعية وغيرها من أنشطة حيوية لضمان استمرار عوامل التنمية.
وتكمن المشكلة الأكبر في أن هذا الوضع قد يزداد سوءًا مع الوقت بسبب أكثر من عنصر. وتأتي على رأس تلك العناصر الزيادة السكانية غير المتحكم فيها منذ القرن الفائت. إذ تضاعف عدد السكان بمصر خلال آخر 60 عامًا خمسة أضعاف.
وطوال أعوام عديدة، طالب المتخصصون في مجالات الهندسة البيئية والموارد المائية بتطبيق الحلول التكنولوجية المختلفة؛ بهدف تحسين كيفية إدارة موارد المياه بصورة مستدامة، علمًا بأن هذه الحلول التي طالما تم اقتراحها لا تسعى فقط إلى زيادة حصص المياه المستغلة، بل وإيقاف الهدر للمصادر المستخدمة فعلًا، وتقليل الفواقد ودعم فرص إعادة تدوير مياه الصرف الصحي. ليس هذا فقط، ولكن تم المطالبة أيضًا بتحسين كفاءة شبكات المياه والصرف الصحي للمدن والقرى بجميع أنحاء مصر والبدء في الاستثمار لتطوير تكنولوجيا تحلية المياه حتى تزيد الجدوى الاقتصادية منها وتخفيض التكلفة مقارنة باستيراد الحلول الأجنبية.
ورغم تباطؤ الحكومات المتعاقبة للدولة في تنفيذ هذه الإجراءات الحرجة والمطلوبة بشدة، فإن الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة وبعد خروجها من مضمار الاضطرابات السياسية، تفهمت أبعاد المشكلة ودخلت في سباق محموم؛ بهدف تغطية هذا العجز قبل انفجار الأزمة. وعلى هذا الأساس، كان لزامًا بحث الطرق المختلفة لزيادة كمية الموارد المائية وتعديد أنواعها وتقليل المهدر من الاستهلاك.
مشروعات تطوير قنوات الري
على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي يواجهها العالم بفعل تداعيات جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية وما كان لهاتين الأزمتين من تأثيرات بالغة الحدة على الاقتصاد المصري، حرصت الدولة على المضي قدمًا في تنفيذ المشروعات المائية التي تحقق تقليلًا في الهدر المائي من جهة، وتحسينًا لأوجه حياة المواطنين من جهة أخرى. وعلى رأس هذه المشروعات مشروع تم إغفاله رغم أهميته ورغم الحديث عنه ودراسته أكثر من مرة خلال أخر 30 سنة، وهو مشروع إعادة تأهيل وتبطين ترع الري؛ بهدف الحفاظ على كميات المياه اللي تم هدرها على مدار عقود وقرون بعد تسربها للتربة وهروبها إلى باطن الأرض. فعلى سبيل المثال، تسرب التربة الطينية ما يتراوح من 5 مم لـ10 مم من عمق المياه كل ساعة. ومن المتوقع توفير حوالي 5 مليارات متر مكعب من المياه التي كانت تهدر بطول مجاري الشبكة المائية في كافة أنحاء الجمهورية المصرية.
وصيانة الترع وقنوات الري ستؤدي إلى تناقص كمية البخر للمياه وتقليل نسب الشوائب التي تصل إلى نهاية الترع وتقلص من كفاءتها ومقدار التصرفات الممكن استعماله مباشرة دون معالجة. إضافة إلى ما سبق، فإن المشروع سيضمن وصول المياه بصورة أسرع دون أعطال للأراضي الزراعية، مع القدرة على تحقيق العدالة في توزيع المياه وزيادة الإنتاجية لتلك الأراضي، وسيقلل تكاليف الصيانة السنوية للمجاري المائية بأنواعها. ذلك بالإضافة إلى تحسين جودة الحياة للمواطنين على المستويين البيئي والزراعي؛ إذ كانت هذه المجاري المائية متجمعًا للعديد من مصادر التلوث التي تؤثر على حياة المواطنين، فضلًا عن أن المشروع يمثل تحسينًا لقدرات المزارعين على ري أراضيهم بمياه نظيفة وبشكل أيسر.
ورغم وجود المشروع في كل استراتيجيات وزارة الري ووزارة الزراعة وأجندات الحكومات المتعاقبة خلال الألفية الجديدة بل ومنذ نهايات القرن العشرين، ورغم أهميته الشديدة، إلا أن السبب الرئيس في تأخير تنفيذه كان احتياجه إلى وجود التمويل الضخم لمدة زمنية طويلة. مع الأخذ في الحسبان أن العمليات المطلوبة لإنهاء المشروع تتطلب ألا تكون هناك أي فترات توقف بين خطواتها حتى لا تؤثر على الكفاءة النهائية للمشروع ككل.
وعند حساب المخطط النهائي لبرنامج تأهيل وتطوير الترع الرئيسية على مستوى الجمهورية، وجد أن تكلفته تصل إلى 18 مليار جنيه. ويشمل المخطط الذي تم إطلاقه في 2020 تبطين وصيانة 7 آلاف ونصف كيلو متر من الترع والقنوات. وكان يجري في الظروف العادية تبطين 50 كيلومترًا من الترع سنويًا، إلا أن الحاجة الملحة أدت إلى تعديل الخطة القومية في البداية لتبطين حوالي 2000 كيلومتر من الترع كل سنة ولمدة عشرة أعوام؛ وذلك لتعويض زمن التأخير في إطلاقه واعتباره مشروعًا قوميًا ملحًا.
وينقسم المشروع إلى مرحلتين يتم تنفيذهما في 19 محافظة، تبلغ الأولى منها حوالي 3 آلاف ونصف كيلومتر، والثانية 4 آلاف ب19 محافظة. وستكون كلفة تنفيذ المرحلة الثانية وحدها 8 مليارات جنيه. وتخدم المرحلة الأولى في بدايتها القرى الأكثر فقرًا المسجلة في مبادرة “حياة كريمة”، وهي توفر نحو 9 آلاف فرصة عمل. وتتمثل مصادر التمويل الموضوعة حاليًا في %60 من الاعتمادات المحلية و%25 من قروض خارجية و%15 في شكل منح من مؤسسات التمويل الدولية المهتمة بقضايا المياه والادارة المستدامة لها وتقليل المهدر في استهلاكها.
تم البدء الفعلي في تنفيذ الجزء الأول من المرحلة الأولى أثناء الربع الثاني من عام 2021. وشمل ذلك الجزء عمليات تأهيل وتبطين 40 ترعة رئيسية في شمال الصعيد وغرب الدلتا، التي تظهر الإحصائيات أنها الأكثر هدرًا للمياه. وتقع في محافظات الإسماعيلية، والجيزة، وأسوان، وبنى سويف، وأسيوط بتكلفة إجمالية 480 مليون جنيه وحجم أطوال يصل إلى 190 كيلومترًا، ومولت تلك المرحلة كاملة بتمويلات ذاتية من مخصصات وزارة الري.
وتشمل أعمال التبطين تنوعًا مختلفًا بين استخدام “الدبش” المغطى بطبقة خرسانة عادية والتبطين بالخرسانة المسلحة، وذلك بعد دراسة حالة كل ترعة أو قناة على حدة. وتتراوح تكلفة عملية التبطين من مليون إلى مليونين لكل كيلو متر طولي طبقًا لنوع التبطين المستخدم وحالة المجرى المائي.
ورغم إعطاء أولوية ضخمة للمشروع، إلا أنه يأتي ضمن خطة طموحة لزيادة حجم الاستفادة من موارد المياه بمصر وتوفيرها لتلبية احتياجات التنمية المطلوبة. تستهدف الخطة تحسين الوضع الزراعي بمصر كونه المستخدم الأكبر للمياه بنسبة تتراوح ما بين 80 إلى 90%. وسيأتي ذلك عن طريق إعادة تقييم طرق الري في مساحات تعادل مليون فدان. وستزيد من قدرات إعادة تدوير مياه الصرف المهدرة ومعالجة كميات أكبر منها ما يقدر بنحو 2 مليار متر مكعب من مشروع مصرف بحر البقر فقط.
باحث ببرنامج السياسات العامة



