أوروبا

“ما وراء العنصرية”.. اشتباكات ومظاهرات الأكراد في فرنسا

تعيش فرنسا حالة من التوتر الشديد بعد اندلاع الاشتباكات بها عقب مقتل ثلاثة أشخاص جراء إطلاق النار على مركز ثقافي كردي في وسط باريس، ما يجعل دوافع الحادث تشير إلى العنصرية، بينما يراه بعض المسؤولين الفرنسيين على أنه “تصرف فردي”، ولكن الأكراد يتبنون رواية العنصرية بشكل كبير، ما جعلهم يتظاهرون في قلب العاصمة تحديدًا في منطقة الحادث، بشكل أدى إلى وقوع مواجهات بينهم وبين الشرطة الفرنسية، انتهت بإطلاق الأخيرة الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين لفضّهم.

ماذا نعرف عن الهجوم؟ ومن يستهدف؟

أطلق شخص يبلغ من العمر 69 عامًا النار بشكل عشوائي في الدائرة العاشرة من باريس، وهي المنطقة التي يقع بها شارع “دانجين” الذي يوجد بداخله مركز “أحمد كايا”، المركز الثقافي للجالية الكردية، وهو بمثابة سفارة كردية في باريس، يتم الاجتماع بداخله وإقامة الفعاليات الثقافية والمناقشات السياسية والمساعدة في إجراءات الهجرة واللجوء للأكراد، وبجانبه مقهى كردي.

وقد نتج عن إطلاق النار مقتل ثلاثة أشخاص، رجلين وامرأة، وبالمناسبة أعلنت السلطان أنهم “غير معروفين لدى أجهزة الشرطة الفرنسية”، بينما أصيب أربعة آخرون. وقد تمكنت الشرطة الفرنسية من القبض على مطلق النار بدون مقاومة، واتضح أنه فرنسي الجنسية، متقاعد من شركة السكك الحديدة، وقد سبق له التورط في محاولتي قتل: إحداهما عام 2016، والأخرى عام 2021، حيث حاول مهاجمة مخيم للاجئين والمهاجرين في باريس، وسُجن على خلفية ذلك.

وأعلنت النيابة العامة في باريس أنها ستبدأ على الفور التحقيق بشأن “أعمال عنف وقتل متعمد وجرائم اغتيال”، وسيكون الدافع العنصري جزءًا من التحقيق، وأوكلت التحقيقات إلى الفريق الجنائي التابع للشرطة القضائية في العاصمة، على أن يتم استجواب المتهم الذي يقع رهن الاعتقال، أو ما يسمى في القانون الفرنسي بـ ” الحراسة النظرية”.

ولكن حتى الآن، لم يتم الإعلان عن دوافعه التي جعلته يرتكب هذا الفعل المرعب، أو الإعلان عن انتمائه لأي حركة أيديولوجية متطرفة، ما يعني أن الساعات القليلة القادمة هي التي ستحدد ما إذا كان سيتم فتح تحقيق من خلال شرطة مكافحة الإرهاب؟ أم سيبقى الأمر جنائيًا فقط. مع العلم أن النيابة المتخصصة في شؤون الإرهاب تتابع عن قرب تطورات الملف بالرغم من أنه لم يُنقل إليها حتى الآن.

استجابة الحكومة الفرنسية للحادث

أدان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الحادث، واصفًا إياه بالشنيع والمشين، وأشاد برجال الشرطة وشجاعتهم التي أدت إلى اعتقال المتهم بسرعة، موجهًا تعازيه لأسر الضحايا وأحبائهم. وقال ماكرون: “أكراد فرنسا استهدفهم هجوم شنيع في قلب باريس. قلوبنا مع الضحايا والذين يصارعون من أجل الحياة، وعائلاتهم وأحبائهم”.

وكذلك أدان وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانان” الحادث المأساوي، مقدمًا تعازيه لأسر الضحايا، ومتمنيًا الشفاء للمصابين. واستعرض العملية الأمنية التي سيتم توفيرها فترة الأعياد للجميع، بما فيهم بالطبع الجالية الكردية، مشيرًا إلى أوامر الحكومة بتشديد الإجراءات الأمنية في أماكن التجمعات الكردية، وفي محيط المقرات الدبلوماسية التركية؛ مؤكدًا أن المسؤولين الأمنيين سوف يجتمعون للنظر في وجود تهديدات أمنية للأكراد في باريس أو في مكان آخر على الأراضي الفرنسية.

وأعرب “جيرالد دارمانان” كذلك عن قلقه من الغضب الكردي، موجهًا إليهم رسالة خاصة، وهي التأكيد على أن الحادث يعد حالة فردية قام به رجل مسن، معروف لدى السلطات الفرنسية الجنائية، وأنه سيأخذ جزاءه جراء ما فعل.

من هم الأكراد المستهدفون؟

أعادت الحادثة إلى الأذهان نشأة الجالية الكردية، فالأكراد هم أحد أكبر المجموعات في العالم بدون دولة قومية؛ إذ تشير التقديرات إلى أن عدد السكان الأكراد حول العالم يتراوح بين 30 و40 مليونًا، ويعيش أغلبيتهم في أرمينيا وإيران والعراق وتركيا وسوريا، وعلى أراضيهم التقليدية التي تسمى كردستان في جبال غرب آسيا. ومع ذلك، وبسبب الاضطرابات السياسية المستمرة في الشرق الأوسط، يواجه الأكراد اضطهادًا متزايدًا. وهذا الضعف المستمر لم يترك للكثير من الأكراد أي خيار سوى مغادرة أوطانهم، وبالتالي، من المتوقع أن يصل عدد الشتات الكردي المتزايد حاليًا إلى حوالي مليوني شخص. 

ووصل المهاجرون الأكراد لأول مرة إلى فرنسيا قادمين من تركيا في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، وفر الآلاف من اللاجئين الكرد واللاجئين السياسيين من تركيا خلال سبعينيات القرن العشرين وما بعده، ليتبعهم آخرون من العراق وإيران خلال الثمانينات والتسعينات، وأخيرًا من سوريا عام 2011 عقب الصراع الدامي المستمر حتى الآن.

وانخرط الأكراد في المجتمع الفرنسي إلى حد كبير، حتى وصل حالهم إلى حال أي لاجئين آخرين، لديهم العديد من الواجبات، ويمارسون حقوقهم بشكل طبيعي. ففي عام 2014، نظم الكرد في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى مظاهرات احتجاجية على هجوم تنظيم داعش الإرهابي على مدينة كوباني في سوريا آنذاك، وفي يوليو 2015، قام مناصرو حزب العمال الكردستاني في فرنسا بمسيرة في باريس للاحتجاج على ضربات الجيش التركي على معاقل الحزب.

وخصصت الحكومة الفرنسية عام 2020، لأول مرة في تاريخها، درسًا في المناهج الفرنسية للحديث عن الأكراد، في حادثة عُدّت سابقة من نوعها آنذاك، جعلت الأنظار تتجه إلى باريس على أنها حليف استراتيجي للأكراد، مثيرة بذلك غضب تركيا التي كانت تجمعها بها آنذاك ملفات متوترة وحساسة، وتطرق الدرس للحديث عن “أن “الأكراد” شعب بلا دولة، وأنهم جالية تناضل من أجل الحصول على حكم ذاتي منذ بداية القرن العشرين سعيًا وراء السيادة”.

“رد الفعل” بين الاشتباكات والمطالبات بوصف الحادث بـ “الإرهابي”

بات الجميع متخوفًا من الغضب الكردي في باريس وبقية المدن الفرنسية، خاصة وأنهم يعتقدون إلى حد التأكيد بأن الهجوم قد استهدفهم بالتحديد، وأن فرضية الاعتداء العنصري أصبحت واقعًا، وأن السلطات الفرنسية فشلت في حماية الأكراد في باريس. ما جعل حالة الغضب تتصاعد بين المحتجين، ووصلت إلى الاشتباك مع رجال الشرطة بمنطقة الحادث، وقاموا بإضرام النيران وسط الطريق، وحطموا نوافذ السيارات وواجهات المحال التجارية، رافعين شعارات حزب العمال الكردستاني ومرددين هتافات مؤيدة له، ما جعل شرطة مكافحة الشغب ترد عليهم بالغاز المسيل للدموع.

ويأتي هذا الحادث بعد تقريبًا 10 أعوام من قتل ثلاث نساء ناشطات كرديات في مقر معهد للأكراد شرق باريس بالرصاص، وهن “سكينة كنسيز”، إحدى مؤسسات حزب العمال الكردستاني، و”ليلى سليماز” ناشطة شابة من أجل قضية الأكراد، اللتان كانتا في ضيافة “فيدان دوجان” التي تشغل المتحدثة باسم حزب العمال الكردستاني في فرنسا والمسؤولة الإعلامية في المركز، وتم قتلهن بعد أن تلقين تهديدات بالتصفية من قبل تيار متشدد داخل حزب العمال الكردستاني، ولكن لم يتم حتى الآن تحديد أي صلة رسمية بين الحادثين. ولكن من المقرر تنظيم مظاهرة أخرى للمنظمات الكردية في فرنسا في ساحة الجمهورية بالعاصمة اليوم السبت.

وأكد الناطق باسم المجلس الديمقراطي الكردي “أجيت بولات” أن أحد القتلى لاجئ سياسي، وملاحق في تركيا بسبب فنه، بينما المرأة كانت قد تقدمت بطلب للجوء سياسي “رفضته السلطات الفرنسية”، ويأتي هذا ردًا على سؤال حول ما إذا كان أيّ من الضحايا في إطلاق النار على صلة بحزب العمال الكردستاني المصنّف منظمة “إرهابية” في الاتحاد الأوروبي ودول أخرى.

وقد أصدر المجلس الديمقراطي الكردي بيانًا تناقل خلاله أقاويل عن هجوم “سياسي”، مطالبًا السلطات الفرنسية بتوفير حماية أفضل للجالية الكردية، ويرى أنه من “غير المقبول” عدم وصف إطلاق النار بأنه “هجوم إرهابي”، ومحاولة الإيحاء بأنه مجرد فعل فردي من ناشط يميني متطرف حاول الهجوم على المقر الكردي، خاصة وأن الوضع السياسي في تركيا فيما يتعلق بالحركة الكردية يدفع بشكل واضح إلى الاعتقاد بأن هذه اغتيالات سياسية، ويعتقد المجلس أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمخابرات التركية يقفان وراء هذه الاغتيالات.

ودعا ممثلو المجلس الديمقراطي الكردي السلطات الفرنسية إلى “الكف عن مراعاة السلطات التركية عندما يتعلق الأمر بأمن الأكراد”، خاصة وأن المجلس قد عبّر للاستخبارات الفرنسية عن “مخاوف” تتعلق بأمن النشطاء الأكراد قبل 20 يومًا فقط.

ووفقًا لما سبق، تواجه فرنسا الآن اتهامات بالفشل في حماية الأقليات بداخلها، خاصة بعد 10 أعوام من جريمة مشابهة راح ضحيتها ثلاث ناشطات كرديات. ولا يبدو هذا الحادث منفصلًا عن التوجهات الشعبية الأوروبية والفرنسية خلال الفترة الأخيرة بتبني رؤى يمينية معارضة للاجئين والمهاجرين والأقليات بشكل واسع لأسباب عدة يأتي في مقدمتها الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها الدول الأوروبية ومنها فرنسا. وهي التوجهات التي برزت في نتائج الانتخابات الفرنسية الأخيرة الرئاسية والتشريعية بارتفاع عدد مقاعد حزب التجمع الوطني اليميني من ثمانية مقاعد إلى 89 مقعدًا، وحصول رئيسة الحزب ماري لوبان على نحو 42% من أصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة في مواجهة الرئيس ماكرون. وسيتحتم على فرنسا تكثيف مجهوداتها بالتحقيق في دوافع الحادث، والإجابة عن تساؤلات المحتجين الأكراد الغاضبين في الشوارع، وقد تستجيب لضغوطات المجلس الديمقراطي الكردي، وتعتبر الهجوم “إرهابيًا”، ما يعني إحالة الملف برمته إلى النيابة المتخصصة في شؤون الإرهاب. 

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى