الأزمة الأوكرانية

رسائل للداخل والخارج.. قراءة لأبرز ما تضمنه خِطاب “بوتين”مع القادة العسكريين

بعد ما يقرب من 10 أشهر مُنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي انطلقت في الرابع والعشرين من فبراير 2022، وما تمخّض عنها من سيطرة القوات الروسية على مساحات شاسعة من جنوب وشرق أوكرانيا على طول جبهة امتدت لحوالي 1100 كيلومتر، والسيطرة على عدد من المدن الأوكرانية؛ إلا أن القوات الروسية باتت تعاني سلسلة من الهزائم في الآونة الأخيرة، وفقدت مدينة “خيرسون” المهمة لصالح القوات الأوكرانية، الأمر الذي غير من زخم الحرب لصالح “كييف” نتيجة الدعم السخي الذي تتلقاه من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي من ناحية، ومن ناحية أخرى فشل الجنرالات العسكريين الروس في حسم الحرب خلال فترة وجيزة؛ كل تلك الأمور دفعت الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى الإعلان في 7 ديسمبر بأن روسيا قد تقاتل في أوكرانيا لفترة طويلة.

في السياق ذاته، عقد الرئيس “بوتين” اجتماعًا موسعًا مع قادة الجيش الروسي يوم 21 ديسمبر؛ لوضع يا يُمكن وصفه بـ “الاستراتيجية العسكرية الجديدة للجيش الروسي”، فما أبرز ما تضمنته تلك الاستراتيجية؟ وما هي دلالات التوقيت؟ وكيف ينعكس ذلك على مسار الحرب الروسية الأوكرانية؟ هذا ما سنتطرق إليه في السطور التالية. 

دوافع الإصلاح العسكري

تمثلت أبرز دوافع خِطاب الرئيس “بوتين” في معالجة التحديات التي يواجهها الجيش الروسي؛ إذ عبَّر الكثير من المحللين والكُتاب الروس المؤيدين للحرب عن غضبهم من أداء الجنرالات الروس في العملية العسكرية، فضلًا عما وصفوه بالسلوك الفوضوي للتعبئة التي أمر بها الرئيس الروسي في شهر سبتمبر الماضي. الأمر الآخر الذي كان بمثابة “صّب الزيت على النار” تمثل في الانسحاب العسكري والتخلي عن مدينة “خيرسون” إحدى من المدن الأربع التي استولت عليها روسيا منذ بداية العملية العسكرية في أوكرانيا. 

هذا الأمر دفع الرئيس الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى عقد اجتماع مُوسع مع قادة الجيش؛ لبث الروح الوطنية في صفوف القادة العسكريين، ولوضع تصور حول مُتطلبات الجيش الروسي في الأيام القادمة، مع التأكيد على مواصلة الحوار من قِبل وزارة الدفاع مع الشعب الروسي، والتأكيد على الوحدة بين الجيش والشعب.

في السياق ذاته، وعد “بوتين” بتوفير كل ما يحتاجه الجيش الروسي في العمليات العسكرية، مؤكدًا أنه لا توجد قيود مالية على ما ستقدمه الحكومة من معدات وأجهزة. وللمرة الأولى، اعترف الرئيس “بوتين” بأن استدعاء 300 ألف من جنود الاحتياط الذي أمر به في سبتمبر “لم يتم بسلاسة”، مُضيفًا أن المشاكل التي ظهرت يجب معالجتها على وجه السرعة. في السياق ذاته، واصل “بوتين” توجيه اتهاماته للغرب ولحلف الناتو، موضحًا أن الحلف يستخدم كافة قدراته في مواجهة الدولة الروسية. 

قراءة في خِطاب “بوتين”

خلال اجتماعه مع كِبار القادة العسكريين، وضع الرئيس “بوتين” ووزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” ما يُمكن وصفه بـ “الاستراتيجية العسكرية الروسية الجديدة”، مع التعهد بمواصلة الحملة العسكرية الروسية للقتال في أوكرانيا حتى تحقيق أهدافها. 

في السياق ذاته، أعلن وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويغو” عن خطة لزيادة الجيش الروسي من مليون فرد إلى 1.5 مليون، وإنشاء وحدات جديدة متعددة؛ في محاولة لتعزيز القوات التي فقدت زخمها مع عمليات القتال المُتعددة في الحرب الأوكرانية. وأعلن “شويجو” عن خطط لتشكيل وحدات عسكرية جديدة في غرب روسيا لموازنة خطط فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو.

 ويمكن بلورة أبرز ما جاء خِطاب الرئيس “بوتين” في الآتي:

عامل الخِبرة: بحث القادة العسكريون المجتمعون الاستفادة من الخبرة التي اكتسبوها من القتال في “سوريا” وخلال ما تسميه موسكو “عمليتها العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، مع الحاجة إلى استخدام الدروس المستفادة خلال القتال لتحديث القوات المسلحة.

بث الروح الوطنية: بالإشادة بالجنود الروس وقادة الدفاع وصفهم بـ “الأبطال”.

مُعالجة المُشكلات: مع ضرورة الإصغاء للنقد البنَّاء، والانتباه من قِبل وزارة الدفاع لجميع المبادرات المدنية، بما في ذلك مراعاة الانتقادات والرد بشكل صحيح وفي الوقت المناسب.

التفوق العسكري: من خلال التأكيد بشكل خاص على أهمية الطائرات بدون طيار، وتوسيع نطاق استخدامها في الحرب؛ نتيجة للدور الكبير الذي لعبته في الصراع الراهن. 

تحديد الأهداف: حيث أكد “بوتين” على أهمية تعزيز الاتصالات وتحسين تكتيكات المدفعية، خاصة مع ما لوحظ من ضعف في النسيق بين الوحداث، الأمر الذي استغرق وقتًا طويلًا للقادة لتحديد وتوضيح أهداف لضربات المدفعية والصواريخ. 

زيادة عمليات التصنيع: وعد “بوتين” بأن الصناعات العسكرية ستزيد من إنتاج الأسلحة، وأن روسيا ستنشر المزيد من الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، مع التأكيد بأن ذلك لن يستنزف موارد البلاد أو يضر بالاقتصاد الروسي. 

تحديث القوات النووية: تعهد “بوتين” بالتركيز بشكل خاص على تحديث القوات النووية الروسية، والتي وصفها بأنها “الضمان الرئيس لسيادتنا ووحدة أراضينا، وتكافؤنا الاستراتيجي وتوازن القوى العالمي”.

وفي هذا السياق، أوضح الرئيس “بوتين” أن الصاروخ الباليستي العابر للقارات “سارمات” سيدخل الخدمة قريبًا. ويهدف صاروخ “سارمات” إلى استبدال الصواريخ الباليستية القديمة التي صنعها الاتحاد السوفيتي وتشكل نواة القوات النووية الروسية، جدير بالذكر أن لهذه الصواريخ القدرة على تفادي أي دفاعات صاروخية، ولديها القدرة على شن ضربات نووية ضد الولايات المتحدة الأمريكية. في السياق ذاته، ألمح “بوتين” إلى أن أول سفينة حربية مجهزة بأحدث صواريخ “زيركون” التي تفوق سرعتها سرعة الصوت ستدخل سلاح البحرية الشهر القادم. 

توجيه الاتهامات الغرب

في السياق ذاته، واصل “بوتين” توجيه اتهاماته للغرب، مُتهمًا إياه بإثارة الصراع في أوكرانيا كجزء من جهود استمرت لقرون لإضعاف روسيا وتفكيكها، وأيضًا للرد على أوكرانيا وحلفائها الغربيين، الذين وصفوا العملية العسكرية الروسية بالعمل العدواني غير المُبرر. وفي محاولة لاستمالة الشعب الأوكراني، أعلن بوتين أن الشعب الأوكراني شقيق لروسيا، واصفًا ما يحدث اليوم “بالمأساة”، ولكنه نفى أن تكون سببها السياسات الروسية.

اعتبر “بوتين” أن الخصوم الاستراتيجيين لروسيا ولقرون وضعوا هدفًا لتفكيك روسيا وإضعافها، وينظرون إليها على أنها أكبر من اللازم، وتشكل تهديدًا مُحتملًا. كما اعتبر “بوتين” أن إرسال قواته إلى أوكرانيا في فبراير كان بمثابة عملية تهدف إلى “نزع السلاح” من أوكرانيا ومنعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والتحول إلى حصن مناهض لروسيا، فضلًا عن تحرير أوكرانيا من الجماعات القومية الراديكالية والنازية الجديدة على حد وصفه. 

إصلاح الجيش الروسي

يبلغ تعداد الجيش الروسي حاليًا نحو مليون جندي. اعتبر الكرملين في السابق أن حجم جيشه كافٍ، لكن الحسابات تغيرت بعد أن تحطمت الآمال في تحقيق نصر سريع على جارته بسبب المقاومة الأوكرانية الشرسة. وفي خِضم الحرب، حافظت كل من روسيا وأوكرانيا على سرية خسائرهم العسكرية، ففي سبتمبر أعلن الجيش الروسي أن خسائره القتالية بلغت “5937” جندي، لكنًّ الغرب أشار أن لديه تقديرات أعلى من ذلك تُشير إلى أن روسيا خسرت أكثر من”100″ ألف جندي قتلوا أو أصيبوا أوفروا من الخِدمة منذ بدء العملية العسكرية. 

في أغسطس 2022، أمر “بوتين” بزيادة حجم الجيش الروسي إلى 1.15 مليون اعتبارًا من 1 يناير، في سبتمبر 2022، أمر بتعبئة 300000 جندي احتياطي لتعزيز قواته في أوكرانيا، مع إصدار مرسوم تعبئة مفتوح المدة، بما يسمح للجيش باستدعاء المزيد من جنود الاحتياط عند الحاجة. كما حظر مرسوم بوتين الجنود المتطوعين من إنهاء عقودهم.

من جانبها أشارت وزارة الدفاع إلى أنها تعتمد بشكل حصري على المتطوعين في أوكرانيا، ولا تشارك المجندين في عمليات القتال، وتشير تقديرات أن عدد المتعاقدين لدى الجيش الروسي حوالي 400.000 جندي متعاقد، منهم 150.000 في القوات البرية. في السياق ذاته، أوضح وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” أن الجيش الروسي الموسع سيضم 695 ألف جندي متطوع بنظام التعاقد. 521 ألف منهم سيتم تجنيدهم بحلول نهاية عام 2023.

يُلزم جميع الرجال الروس الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و27 عامًا بالخدمة العسكرية لمدة عام واحد، لكن العديد منهم يستخدمون تأجيل الدراسة والإعفاءات الصحية لتجنب التجنيد. وقال “شويجو” إن الفئة العمرية للتجنيد سيتم تغييرها إلى من 21 إلى 30، وسيُعرض على المجندين الاختيار بين الخدمة لمدة عام واحد كمتطوعين أو توقيع عقد مع الجيش كمتطوعين، والهدف من ذلك يتمثل في توسيع هذه الممارسة من قبل وزير الدفاع الروسي. 

  • تشجيع المتطوعين

يحدث في بعض الأحيان أن يتم إجبار بعض المجندين الشباب على التسجيل كمتطوعين، في سياق آخر فإن العديد من الرجال الروس –وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق التي تعاني اقتصاديًا- يسجلون في الخدمة للحصول راتب لائق. وبالإضافة إلى رواتب العسكريين، وعدتهم السلطات أيضًا بمدفوعات إضافية مقابل المشاركة في القتال والمكافآت، حيث وعدهم الرئيس “بوتين” بالحصول على أجر شهري لا يقل عن 195 ألف روبل (حوالي 2800 دولار)، أي حوالي خمسة أضعاف متوسط الراتب في روسيا. وعدت بعض السلطات الإقليمية بأن تتفوق على ذلك بمكافآت خاصة بها.

ويحق لعائلات الجنود الذين قُتلوا أثناء القتال في أوكرانيا الحصول على تعويضات مختلفة تقوم بها الدولة والتي قد تتجاوز في المجمل 12 مليون روبل (أكثر من 170000 ألف دولار). وعلى الرغم من المدفوعات والامتيازات الأخرى، دفع أمر التعبئة الذي أصدره بوتين مئات الآلاف إلى الفرار إلى الخارج لتجنب الاستدعاء. هذا وتتخوف السلطات الروسية من أن التعبئة قد تؤجج استياءً واسعًا في أرجاء البلاد، خاصة مع توقع أن تقوم روسيا باستدعاء أعداد كبيرة بداية العام 2023.

  • إعادة تشكيل الهيكل العسكري

حدد “شويجو” خططًا لتشكيل وحدات عسكرية جديدة ومجموعات من القوات في غرب روسيا، بما في ذلك فيلق من الجيش سيتم نشره في منطقة كاريليا الشمالية الغربية بالقرب من فنلندا. وتمثل الخطط عودة إلى الهيكل العسكري في الحقبة السوفيتية، والذي تخلت عنه روسيا خلال الإصلاحات العسكرية الأخيرة التي شهدت إنشاء وحدات أصغر وأكثر قدرة على الحركة. وجادل بعض الخبراء العسكريين الروس بأن مثل هذه الوحدات الصغيرة المخصصة للاستخدام في النزاعات المحلية كانت تفتقر إلى العدد الكافي وغير مجهزة للقتال الضخم مثل العمل في أوكرانيا.

وأعلن “شويجو” كذلك أنه سيتم إعادة تشكيل ألوية المشاة والألوية المحمولة جوًا والبحرية الحالية إلى فرق، ووحدات أكبر كانت تمتلكها روسيا في الماضي، وأن الولايات المتحدة وبعض حلفاء الناتو لا يزالون يملكونها. وأعلن أنه سيتم تشكيل عدة أقسام جديدة. إضافة إلى ذلك، سيتم إنشاء منطقتين عسكريتين جديدتين في – موسكو ولينينجراد- إضافة للمناطق العسكرية الموجودة في المناطق الغربية والوسطى والجنوبية والشرقية. وكجزء من الإصلاح المخطط، ستخضع بعض وحدات القوات الجوية لمجموعات من القوات البرية في محاولة واضحة لزيادة التنسيق فيما بينها والتي قال العديد من المراقبين إنها أثبتت أنها غير كافية أثناء القتال في أوكرانيا.

  • أولويات القوة النووية: تعهد بوتين بالتركيز بشكل خاص على تحديث القوات النووية الروسية، والتي وصفها بأنها، الضمان الرئيس لسيادة روسيا ووحدة أراضيها، وتُحقق التكافؤ الاستراتيجي والتوازن بين القوى العالمية.

ملاحظات خِتامية

في الأخير، يُمكننا استخلاص عدد من الملاحظات الختامية حول خِطاب الرئيس “بوتين” أمام القادة العسكريين الرووس: 

أولًا: أراد “فلاديمير بوتين” الرد على المزاعم القائلة بأن الكرملين ترك القوات المسلحة الروسية تقاتل بدون معدات رئيسية، قائلاً إن الحرب في أوكرانيا يمكن تمويلها دون “حدود” وأمر الجيش بالانفتاح على الانتقادات. 

ثانيًا: أراد “بوتين” تسليط الضوء على القضايا التي تحتاج للعمل عليها في العملية العسكرية، خاصة تلك المرتبطة بالاتصالات والتنسيق العسكري بين والوحدات.

ثالثًا: قلل بوتين من تأثير الحرب على الاقتصاد الروسي الذي من المقرر أن ينكمش بنسبة 3.5 % وهو انخفاض أقل بكثير مما كان متوقعًا في وقت سابق من هذا العام عندما تم فرض العقوبات الغربية لأول مرة.

رابعًا: أرد “بوتين” التأكيد على عدم “عسكرة” الاقتصاد الروسي، مُصرًا على أنه لا يريد “تكرار أخطاء الماضي”، عندما دمرت روسيا اقتصادها لأغراض دفاعية. 

خامسًا: أراد “بوتين” إيصال رسالة للغرب بأن روسيا تعرف كل شيء عن موارد وقدرات “الناتو”، وأنها تقوم بدراستها بدقة واستخدامها لزيادة قدرتها العسكرية. 

سادسًا: سعى بوتين إلى إرسال رسالة ضِمنية بأن روسيا على استعداد للحفاظ على سيادتها وأمنها القومي وتوازن القوى في العالم، حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة النووية، حيث ألمح إلى تعهد روسيا بالحفاظ على الاستعداد القتالي للثالوث النووي الروسي، الذي يمكنه إطلاق الصواريخ من منصات إطلاق أرضية وغواصات وطائرات استراتيجية. 

سابعًا: برر “بوتين”حاجة روسيا إلى إنشاء تجمع عسكري في شمال غرب البلاد بأنه يأتي ردًا على تطورات “الناتو”؛ فعقب العملية العسكرية في أوكرانيا، طلت فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف.

في الختام يُمكن قراءة أبرز ما تضمنه خِطاب بوتين والقادة العسكريين الروس بأنهم ماضون ومُصممون –في حال إذا كان هناك تصميم غربي على مواصلة الدعم ولا سيما العسكري للجانب الأوكراني- فهناك في المقابل تصميم روسي على مواجهة هذا الدعم والاستمرار في العليات العسكرية في أوكرانيا حتى تحقيق النصر.

أحمد السيد

باحث ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى