
ملامح مستقبل السياسة النقدية محليًا في ضوء المتغيرات المحلية والعالمية
استقرار الأسعار، وخفض البطالة، والتوسع في الشمول المالي، وتعزيز قدرة الدولة على جذب استثمار أجنبي مباشر، وتعزيز احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية؛ تلك هي الملفات المهمة التي يحمل البنك المركزي المصري على عاتقه تحقيقها في الفترة المقبلة، مع الحفاظ على سلامة واستقرار القطاع المصرفي، بل والعمل على تعزيز استقراره وصلابته. ولأن السياسات النقدية تؤثر على المواطنين بشكل مباشر، فكيف يمكن للمركزي المصري تحقيق تلك المعادلة في ضوء المتغيرات العالمية والمحلية؟
ما هي السياسة النقدية
السياسة النقدية هي إحدى السياسات الاقتصادية التي يديرها البنك المركزي والتي تختص بإدارة النقد بالبلاد. ولأن النقد هو الأهم في إجراء المعاملات التجارية أو تسوية المدفوعات، فهي تؤثر في اقتصاد أي دولة وتعيد رسم السياسة الاقتصادية العامة لها. ويمكن تعريفها بشكل أكثر عمقًا بأنها مجموعة السياسات التي تقوم بها السلطة النقدية ممثلة في البنك المركزي بهدف إدارة النقود والائتمان وتنظيم السيولة في الاقتصاد.
وعادة ما يكون الهدف الأول للسياسة النقدية هو الحفاظ على استقرار الأسعار، لكن أهدافًا أخرى تأتي ضمن إطار تحقيق ذلك الهدف تتضمن هدف توفير السيولة والذي يتطلب الحفاظ علي سلامة النظام المصرفي، والتأكد من توافر السيولة الكافية التي تحقق التوظيف الكامل لموارد الدولة بهدف المساهمة في خلق فرص عمل ومن ثم خفض معدلات البطالة.
وبالطبع تعد إحدى وظائف البنك المركزي المهمة هو إدارة النقد الأجنبي بالبلاد، والاحتفاظ بقدر كافٍ من السيولة بالعملات الأجنبية لتوفير احتياجات الدولة من السلع المستوردة. ولكون توفير النقد الأجنبي أحد أهم المهام الرئيسة للمركزي، فتقع على عاتقه إدارة العمليات الخارجية لمصر، والتي تتمثل في سداد قيمة واردات مصر من العالم الخارجي من خلال آلية تسمي الاعتمادات المستندية، وتحصيل حصيلة تصدير مصر للعالم الخارجي.
ملفات مهمة
بالنظر إلى دولاب عمل البنك المركزي المصري في الفترة المقبلة، فيمكن استنباط أهم الملفات التي سيركز عليها المركزي، والتي يعد أولها الحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تطبقه مصر منذ عام 2016، والذي يترتب عليه الحفاظ على موارد مصر من النقد الأجنبي مع إجراء سياسات أكثر مرونة في التعامل مع سعر صرف الجنيه المصري، وهو ما يجنبنا ظهور السوق السوداء غير القانونية لتجارة العملة خارج إطار الجهاز المصرفي مرة أخرى.
التضخم هو أحد الملفات المهمة التي ينظر إليها البنك المركزي المصري بعين الاعتبار، خاصة مع الارتفاعات الأخيرة التي أضافت لمعدل التضخم في مصر حوالي 6% فوق نسب العام الماضي، ليبلغ حوالي 13.4% حتى يوليو 2022. وعلى الرغم من ذلك فإن الجزء الأكبر من ذلك التضخم هو مستورد جراء الأزمة العالمية بين روسيا وأوكرانيا والتي دفعت بأسعار السلع خاصة الغذاء والطاقة والمعادن إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيًا.
وهو ما أضاف أعباءً إضافية على فاتورة معاملات مصر الخارجية في جانب الاستيراد، وتسبب في نقص في السيولة المتاحة من العملات الأجنبية، والتي دفعت بالمركزي إلى إعادة تسعير الجنيه المصري ليعبر عن قيمته الحقيقية، ويخفف من الضغط الاستيرادي الذي يستنزف موارد مصر من العملات الأجنبية، مع إجراء رفع استباقي لأسعار الفائدة في مصر لاحتواء معدلات التضخم التي بدأت في الارتفاع.
جاء الضغط التصاعدي الرئيس من أسعار المواد الغذائية والمشروبات (22.4٪ مقابل 22.3٪ في يونيو)، وهو الأكثر ارتباطًا إلى حد بعيد بسلة مؤشر أسعار المستهلك، هذا بالإضافة إلى الارتفاع الأخير في تكاليف الوقود وارتفاع أسعار المساكن والمرافق في التضخم الكلي. على أساس شهري، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 1.3، منتعشة من انخفاض بنسبة 0.1٪ في يونيو.
قرارات تخالف التوقعات
في اجتماع لجنة السياسات النقدية في أغسطس، قررت لجنة السياسات النقدية تثبيت أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض عند مستويات 11.25% للإيداع ونسبة 12.25% للإقراض، وهو أمر خالف توقعات معظم الاقتصاديين الذين تم استقصاء آرائهم من جانب عدد من المؤسسات العالمية والمحلية خلال الأسابيع الماضية. لكن لم يكن أمرًا مفاجئًا؛ إذ غيّر المحللون توقعاتهم قبل اجتماع لجنة السياسات النقدية بيوم واحد من رفع سعر الفائدة إلى تثبيت أسعار الفائدة.
ويعطي ذلك التثبيت قبلة الحياة إلى مناخ الأعمال في مصر والذي كان يخشى إقدام المركزي على رفع أسعار الفائدة، لكن وقبل يوم واحد من ذلك الاجتماع سحب البنك المركزي 100 مليار جنيه من سيولة البنوك المصرية في عطاء أسبوعي مقابل معدل فائدة 11.75 %. ويمكن تفسير ذلك القرار بأنه إجراء اعتيادي من جانب البنك المركزي للتأكد من أنه لا توجد سيولة زائدة بالبنوك المصرية، فوجود سيولة زائدة سيؤثر على معدل “الإنتربنك” (المعدل الذي تستخدمه البنوك المصرية لإقراض بعضها البعض).
ولأن هناك نسبة سيولة مرتفعة بالبنوك المصرية، فإن تلك السيولة الزائدة قد تؤثر على ذلك المعدل بالانخفاض، وعليه فقد أقدم المركزي بسحب ذلك المبلغ من السوق للحفاظ على نسب المعروض من السيولة النقدية عند مستويات تتناسب مع الطلب. لكن المثير في الأمر ليس إقدام المركزي على سحب مبلغ 100 مليار جنيه سيولة، المثير هو أن البنوك المصرية عرضت 400 مليار جنيه وهو أمر أعلى من المتوسطات السابقة التي كانت تبلغ 110 – 150 مليار جنيه، لكن من أين حصلت البنوك المصرية على تلك السيولة؟!
لا توجد إجابة قاطعة لذلك التساؤل، لكن التكهنات تشير إلى أحد أمرين: أولهما أن البنك المركزي تدخل بشراء دولارات من البنوك المصرية مقابل إعطائهم الجنيه المصري، وهو ما ترتب عليه زيادة في نسب تلك السيولة، والثاني أن البنوك المصرية كانت تتوقع قرارًا من المركزي برفع أسعار الفائدة لكن تلك التوقعات تغيرت بعد المستجدات التي حدثت في المركزي، فاحتفظت البنوك المصرية بتلك السيولة لتوظيفها بمعدلات فائدة أعلى من الحالية قبل أن تقرر التخلص منها في ضوء تثبيت المركزي لأسعار الفائدة.
البطالة وخلق فرص العمل هي أحد الملفات المهمة في دولاب عمل المركزي المصري، ويمكن الربط إلى حد كبير بين تثبيت المركزي لأسعار الفائدة وبين نيته دعم القطاع الخاص وقطاع الأعمال في مصر. ومن الجدير بالذكر أن هناك شريحة ليست بالصغيرة من المجتمعات وشركات القطاع الخاص في مصر ما زالت تستفيد من مبادرات البنك المركزي بالفائدة المدعومة في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية والسياحة، وهو ما كان له فضل في الحفاظ على معدلات البطالة عند مستوياتها الحالية دون تغيير عند مستوى 7.2% في الربع الثاني من عام 2022.
سعر صرف عادل
ينظر إلى سعر صرف الجنيه المصري على أنه واحد من أكثر الملفات أهمية في دولاب عمل السياسة النقدية؛ إذ يرتبط سعر صرف الجنيه المصري بعدد من العوامل التي تمس أسس الاقتصاد القومي، فهو يرتبط بقدرة المصنعين المصريين على جعل سلعهم أكثر تنافسية في سوق الصادرات، ويؤثر بشكل مباشر على القدرات الاستيرادية للشركات خاصة في المنتجات تامة الصنع، ويرتبط بشكل مباشر بقدرة مصر على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر أو حتى الاستثمارات في حافظة الاستثمارات والتي يطلق عليها الأموال الساخنة، وبتسعير سوق الأوراق المالية المصري، وبميزان المدفوعات المصري خاصة في شقة التجاري والخدمات، وأخيرًا كل تلك التفاعلات تؤثر بشكل مباشر على الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي المصري.

يمكننا القول من خلال بيانات أداء الميزان التجاري والجاري لمصر خلال الثلاثة أرباع الاولى من عام 2022 أن سعر صرف الجنيه المصري في الوقت الحالي غير صحيح؛ إذ إن الجنيه مسعر بأعلى من قيمته. بالطبع للبنك المركزي المصري دور في ذلك من خلال قيامه بضخ دولار بالسوق للحفاظ على سعر صرف الجنيه المصري عند تلك المستويات، لكن ذلك الوضع نتج عنه عجز في الميزان التجاري المصري بمبلغ 33.5 مليار دولار في الثلاثة أرباع الأولى من عام 2022، وعجز في ميزان الخدمات بحوالي 13.6 مليار دولار.
هذا فضلا عن انخفاض الاستثمارات بحافظة الاستثمارات بشكل كبير إلى صافي استثمارات سالبة بمقدار 14.8 مليار دولار (استثمارات مصر في الخارج اكبر من استثمارات الأجانب في مصر في تلك الفئة من الأصول)، مقابل استثمارات موجبة بحوالي 18.7 مليار دولار في عام 2021. كل تلك المؤشرات تشير إلى أن سعر الصرف الحالي للجنيه المصري لا يمكنه الاستمرار بالوضع الحالي؛ إذ إن بقاءه يعني استمرار النزيف، وعليه فمن الأفضل خفض قيمة الجنيه المصري بنسبة تتراوح بين 10 – 15% للنظر في رد فعل السوق والسلوك الاستهلاكي تجاه تلك التسعيرات الجديدة.
الحفاظ على السيولة وتعزيز احتياطيات مصر من النقد الأجنبي هو الآخر يأتي على رأس قائمة الملفات المهمة، خاصة وأن هناك اهتمامًا بالغًا من جانب الدولة المصرية بتعزيز السيولة من النقد الأجنبي، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة بالقطاع الخاص المصري والتي تأتي في إطار تنفيذ استراتيجية مصر ووثيقة ملكية الدولة بتعزيز دور القطاع الخاص المحلي والأجنبي لتبلغ حصته 65% من الاقتصاد المصري. وهوما يتم تنفيذه في ضوء استراتيجية الدولة بالتخارج من عدد من القطاعات والاحتفاظ بالأخرى، والسماح للقطاع الخاص بالمشاركة بالأخرى بهدف تعظيم حجم القطاع.
ومن ثم فإن نجاحات ذلك الملف مرتبطة بالأساس بوجود تسعير عادل لسعر صرف الجنيه كما سبق الإشارة. ومن الجدير بالذكر أن احتياطيات البنك المركزي واجهت ضغطًا شديدًا خلال الأشهر الماضية جراء الحرب الروسية الأوكرانية والتي تسببت في دفع معدلات التضخم للارتفاع، وهو ما تسبب في توجه البنوك المركزية عالميًا والسياسة النقدية بشكل عام إلى تضييق إمكانية الوصول إلى السيولة فيما يسمى بالسياسات النقدية الانكماشية.
وقد ترتب على ذلك خروج جزء كبير من استثمارات الأجانب بمحفظة الاستثمارات الأجنبية، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية بشكل عام عالميًا وبالمنطقة، وهو ما كان له تأثير على انخفاض نصيب مصر من الاستثمار الأجنبي المباشر. ذلك بالإضافة إلى تأثر قطاع السياحة بشكل عام والذي يشكل الروس والأوكرانيون ثلث ذلك السوق، وتأثر السياحة من باقي الدول بالمعدلات المرتفعة للتضخم والذي غير سلوك المستهلكين إلى الإنفاق على الاحتياجات الأساسية للعيش بدلًا من الإنفاق على السياحة.
إجمالًا، تحديات مكثفة تلوح في الأفق، وملفات متعددة مطروحة أمام البنك المركزي، لكن الأهم في الفترة الحالية هو تعزيز مرونة الاقتصاد المصري وقدرته على الصمود أمام الأزمة الحالية، والعمل على توفير السيولة من العملات الأجنبية من خلال إدارة سعر الفائدة والصرف بالبلاد بالشكل الفعال لتحقيق تلك المعادلة. هذا بالطبع إلى جانب احتواء معدل التضخم، والتأكد من عدم دخول البلاد في دائرة الركود الاقتصادي، مع التحول إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمستدامة مقابل خفض الاهتمام بالأموال الساخنة قدر الإمكان؛ مع وجود سعر عادل لسعر صرف الجنيه المصري يمنح الاقتصاد المصري القدرة على المنافسة ويحافظ على احتياطيات النقد الأجنبي، ويوفر السيولة المطلوبة بالسوق، ويساعد في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر للسوق المصرية.