
مناورة جديدة: كيف يمكن قراءة تطورات أزمة الإخوان مع عودة “الكماليين”؟
شهدت أزمة تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي خلال الأيام الماضية العديد من التطورات اللافتة التي تجاوزت فكرة الصراع بين جبهتي لندن وإسطنبول، إلى إعادة إحياء الجبهة المعروفة بـ “الكماليين” أو “تيار التغيير” داخل الجماعة، فضلًا عن التطور الآخر المهم المتمثل في سعي جبهة لندن إلى مغازلة الدولة المصرية عبر القول إن الجماعة “لن تخوض أي صراعات سياسية على السلطة في مصر”، وهي المؤشرات التي عبرت في مجملها عن حراك داخلي إخواني متصاعد يستهدف تحريك المياه الراكدة، والتعاطي مع الواقع المأزوم للتنظيم على كافة المستويات.
مؤتمر لـ “جبهة التغيير”
أعلن ما يُعرف بـ “تيار التغيير” -وهو أحد الاتجاهات المتصارعة على السلطة داخل جماعة الإخوان المسلمين، أو بمعنى أدق “جبهة المكتب العام”- في الخامس عشر من أكتوبر الجاري عن تنظيم مؤتمر بفندق “وند هام جراند جونشلي” في إسطنبول بتركيا، تحت شعار “الوثيقة الأولى.. الإصدار السياسي”، وكان من أهم المشاركين في المؤتمر: سيف عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية، والمستشار السابق لمحمد مرسي، ونزيه علي رئيس ما يسمى “مؤسسة الرؤية” بالمكتب العام للإخوان، وبعض قيادات الإخوان الأخرى التي تتبنى نهج العنف مثل: محمد إلهامي (أحد منظري العنف الشرعيين داخل الإخوان)، رضا فهمي (رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس الشعب في عهد مرسي)، عبد الغفار صالحين (رئيس لجنة الصحة بمجلس الشورى في عهد مرسي)، وجمال عبد الستار (القيادي الإخواني المعروف).
وأشاد المشاركون في هذا المؤتمر بالقيادي الإخواني الراحل محمد كمال، وهو المؤسس الحقيقي للجان النوعية المسلحة لتنظيم الإخوان، والتي نشطت في مصر في مرحلة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو، حيث أصدرت اللجنة الإدارية العليا التي كان يرأسها “كمال”، ما عُرف بـ “دراسة فقه المقاومة”، وهي الدراسة التي تم توزيعها على مكاتب الإخوان الداخلية في مصر في تلك الحقبة، وحثتهم على انتهاج العنف في مواجهة الدولة المصرية.
ويعكس توقيت عقد هذا المؤتمر وما شهده من إشادة بـ “كمال”، بعض الدلالات المهمة، وذلك على النحو التالي:
1- جاء عقد المؤتمر بالتزامن مع ذكرى مقتل القيادي الإخواني الراحل محمد كمال، والذي نجحت قوات الأمن المصرية في الإيقاع به في أكتوبر 2016، بعد تدشينه لما عُرف بـ “اللجان النوعية” المسلحة للجماعة داخل مصر، وتنظيمات “حسم” و”لواء الثورة”، فيما يبدو أنه محاولة من هذا الاتجاه لإعادة إحياء نهج العنف مرة أخرى.
ويعزز من احتمالية هذه الفرضية إعلان القيادي بالجماعة رضا فهمي عن تأسيس ما عُرف بـ “جمعية ميدان”، وهي الجمعية التي أشارت العديد من الدوائر إلى أنها بدأت في التنسيق مع العديد من الاتجاهات الإخوانية والسلفية في الخارج؛ للعمل على تبني استراتيجية جديدة تستهدف العمل على مخططات العنف والفوضى وتنفيذ عمليات إرهابية في الداخل المصري في الفترة المقبلة.
2- يُعبر عقد “جبهة التغيير” لهذا المؤتمر عن صعود كبير لجبهة المكتب العام، وسعيها إلى الإطاحة بجبهتي لندن وإسطنبول من المشهد، والسيطرة على مفاصل تنظيم الإخوان؛ إذ لا تعترف هذه الجبهة بالجبهتين المتصارعتين، وترى أن قيادة الإخوان لا تزال لدى “محمد بديع”. وتسعى هذه الجبهة إلى استغلال كون غالبية قواعد الإخوان المتبقية في الداخل المصري، أقرب إلى موالاة تيار “الكماليين” أو “المكتب العام”.
مغازلة “جبهة لندن” للدولة المصرية
أصدرت “جبهة لندن” بقيادة إبراهيم منير القائم بأعمال مرشد الإخوان ما أسمته بـ”الوثيقة السياسية”، وهي وثيقة يعود تاريخها إلى 18 سبتمبر الماضي، لكن الجبهة لم تنشرها إلا منذ يومين، وأعلنت عبرها عما وصفته بـ”تجاوز الصراع على السلطة داخل مصر”، وأكدت الجبهة قبل ساعات من انعقاد مؤتمر الجبهة الثالثة لتنظيم “الإخوان” والمعروفة بـ”جبهة التغيير”، أن “غاية (الإخوان) لا تتضمن الوصول إلى الحكم”.
وحددت الوثيقة التي أوردها تنظيم الإخوان عبر موقع “إخوان سايت” (3) أولويات سياسية للعمل في المرحلة المقبلة، للتعاطي مع ما وصفته بـ”اللحظة الحرجة” من تاريخ مصر، تضمنت: “إنهاء ما أطلقت عليه ملف (السجناء السياسيين)، وتحقيق المصالحة المجتمعية، وبناء شراكة وطنية واسعة تتبنّى مطالب الشعب في تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي” وفق نص الوثيقة. وأكدت أن هذه الأولويات تتطلب “تجاوز الصراع على السلطة”، لافتةً إلى اعتمادها على منهج يتضمن “خيارات ومسارات متنوعة”، تبدأ من مخاطبة الرأي العام وتوعيته حتى توجيه النصح للحكومة أو معارضتها، وفق نص الوثيقة.
وقد حمل هذا التوجه من جبهة لندن بعض الدلالات المهمة، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- يعود تاريخ الوثيقة المنشورة إلى 18 سبتمبر الماضي، لكنها لم تُنشر إلا منذ يومين، ما يعكس ارتباط إصدار هذه الوثيقة بالمؤتمر الذي عقدته ما عُرفت بـ “جبهة التغيير” في إسطنبول، فيما يبدو أنه محاولة لاحتواء تحركات الجبهة الثالثة، وتأكيد على أولويات الإخوان في المرحلة المقبلة، في ضوء رؤية جبهة لندن.
2- تمثل إشارة الوثيقة الصادرة عن جبهة لندن إلى “أن الإخوان ستتجاوز الصراع على السلطة السياسية في مصر”، مغازلة واضحة للدولة المصرية، بعد فشل محاولات المغازلة التي تبنتها الجبهة في أكثر من مناسبة مؤخرًا، إذ تُريد الجبهة ممارسة مناورة سياسية توظف من خلالها الظرف السياسي الداخلي المصري الحالي، والذي يشهد ختامًا للجلسات التحضيرية للحوار الوطني، وقرب البدء الفعلي للحوار.
وكما هو معلوم تحاول الجبهة منذ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إطلاق الحوار الوطني القفز على هذه الدعوة وتوظيفها بما يخدم مخططاتها للعودة إلى المشهد المصري، لكن الدولة المصرية عبرت من خلال رئيسها والمنسق العام للحوار الوطني أن “الحوار قائم على أساس شرعية ثورة يونيو 2013 ودستور 2014، وعدم التورط في التطرف والعنف”، بما ينفي أي آمال إخوانية بهذا الخصوص.
3- عبرت الوثيقة في مضمونها عن المناورات السياسية التي تقوم بها جبهة لندن؛ ففي الوقت الذي تحمل فيه إشارات ضمنية إلى التوجه نحو “تنحية العمل السياسي جانبًا، وعدم خوض أي صراعات على السلطة”، لكن الجبهة تعود لتؤكد في الوقت ذاته أن “دور تنظيم الإخوان السياسي وحضوره في كافة الشؤون العامة كان وسيظل ثابتًا من ثوابت مشروعه الإصلاحي” وفق نص البيان.
وبشكل عام، تُركز تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان، في أوقات الأزمات العميقة، على تبني خطاب يُروج لتنحية السياسية جانبًا، والتحول نحو ممارسة الفعل الدعوي والمجتمعي، إلا أن الواقع العملي والتجربة التاريخية والأدبيات المكونة لعقل الإخوان تُثبت أن العمل الدعوي كان دائمًا مجرد مظلة ومدخل لتحقيق المشروع السياسي للجماعة، وبناء رأس مال اجتماعي يخدم على هذا المشروع.
وفي الختام، يمكن القول إن هذه التطورات تؤكد فشل الإخوان في الحفاظ على التماسك الهرمي والتنظيمي للجماعة، خصوصًا وأن صعود تيار “الكماليين” سوف يدفع باتجاه تنامي الاتجاه الرافض لجبهتي لندن وإسطنبول، ما سيزيد من حدة الاستقطاب الداخلي الإخواني.



