
التجلي الأخير للغنوشي.. تونس نحو مسار ديمقراطي ينبذ الإسلام السياسي
في حين تواجه قيادات حركة النهضة، فرع جماعة الإخوان بتونس، والمصنفة جماعة إرهابية في عدد من البلدان العربية، تحقيقات قضائية تتصل بتهم تتعلق بقضايا تسفير الشباب نحو بؤرة التوتر، وتعبئة هذه العناصر في جماعات ميلشياوية مسلحة، فضلًا عن تهم تبييض الأموال؛ فإن جبهة الخلاص التي تمثل حركة النهضة ركنًا أساسيًا فيها، عمدت إلى التحريض لحركة احتجاج في 15 أكتوبر بالتزامن مع الاحتفال بذكرى عيد الجلاء، حيث خرج بعض المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، ونظم الحزب الدستوري الحر مظاهرات مشابهة. في غضون ذلك، شارك الرئيس التونسي قيس سعيد في موكب إحياء الذكرى الـ59 لعيد الجلاء، قائلًا: “سنصنع جلاءً جديدًا ليس من قوى الاستعمار ولكن من عملائه، وعلينا أن نتخلص من كل من يريد أن يضرب استقلال تونس ويتعامل مع قوى الخارج ويكون عميلًا خائنًا”.
غير مرة، وخلال الشهور الأخيرة إثر قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد في ٢٥ يوليو، تواصل حركة النهضة وبعض القوى الرديفة التي تظهر بمسميات مختلفة، سيما حركة “مواطنون ضد الانقلاب” نشاطها العدواني ضد مؤسسات وأجهزة الدولة في تونس بغرض تأبيد حالة الاستقطاب السياسي والصراع الذي يؤدي إلى الانقسام أو بالأحرى الخصومة بين قطاعات وأجهزة الدولة كما جرى في السابق بين البرلمان والرئاسة.
تسعى هذه الحركات الإسلاموية نحو تثوير الشارع والتحالف مع بعض القوى السياسية التي تناوئ توجهات الرئيس التونسي. بيد أن تلك المحاولات جميعها لم تصادف أي أثر أو نتيجة بين المواطنين. بينما فشلت بشكل واضح وصريح في حشد أي عدد يناصر توجهاتها وتصوراتها على أرض الميدان.
يشي الواقع بكثير من الأزمات الحياتية التي تتعلق بغياب كثير من السلع الأساسية، ومواد الطاقة، مما يبرز غضب المواطنين على خلفية صعوبة الحصول على مواردهم الأساسية. الأمر الذي دفع الرئيس سعيد إلى إصدار بيان بعد اجتماعه برئيس الحكومة نجلاء بودن أوضح فيه حتمية الاستعداد والتحضير الجيد لأي أزمات مرتقبة، تمس احتياجات المواطنين. وبيّن سعيد أن تلك الأزمات منها الحقيقي ومنها المفتعل والمصنوع.
يرجح سعيد أن سبب الأزمة الحالية هم المضاربون في السوق السوداء والخصوم السياسيين. غير أن خبراء اقتصاديين يقولون إن ذلك يعود إلى شح الموارد المالية وعدم قدرة الدولة على مواصلة توريد الغذاء والطاقة، خاصة مع تأخر إتمام إجراءات الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.
إلى ذلك، ظهر الغنوشي في حواره الأخير مع “الجزيرة نت” مطلع الهشر الجاري وهو يطرح تصورات نظرية وعملية نحو تجاوز قبضة الرئيس قيس سعيد في الحكم، تحديدًا حين قال لقد “فاتنا الانتصار بالضربة القاضية كما فعل الأتراك ولكن بقى أمامنا الانتصار بالنقاط”. فضلًا عن مقولاته التكتيكية التي ينظر لها كل حين، منها أن حركته وأنصاره هم في “موقع الثورة” بينما الأطراف الأخرى وخصومه هم “في حيز الثورة المضادة”!!
وعليه، بدا الغنوشي في حواره حمال أوجه، حين حرص في أكثر من موضع على بعث رسائل سياسية محددة للقوى الدولية، وقد عرج على مقولات الحرية والديمقراطية التي يستقطب بها الغرب، وتحديد انحيازات حركته بعيدًا عن تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وهي الحيلة التكتيكية التي لطالما اعتمدتها قوى الإسلام السياسي بصورة متكررة وتقليدية. ثم صياغة مقاربة خاصة لتجربة تياره في الحكم بعيدًا عن التجارب المماثلة بعد مظاهرات العام ٢٠١١.
يضغط رجل النهضة التاريخي نحو فصل حركته عن سياق الإسلام السياسي؛ إذ يقول في نص الحوار “في الحقيقة لا يوجد إسلام سياسي واحد”. كما يحرص على التخلص أو التملص من تحمل مسؤولية إخفاق وفشل حركته في تجربة الحكم خلال العقد الأخير، بينما يطرح في ذلك مقاربة تتصل بتداعي بعض الأحزاب في تونس وقد أشار إلى تفكك حزب نداء تونس.
إذ يؤكد على مقدرة قيادات الحركة في تجربة الحكم. وأنهم اضطلعوا بكافة ما عليهم من مهام ومسؤوليات إبان تلك السنوات. غير أن الواقع ومختلف الأحداث التي جرت في تونس خلال تلك العشرية تكشف بيقين عن إخفاق تام (ومحتوم) وقعت فيه الحركة سواء عندما استقلت برئاسة الحكومة أو دفعت بشخصيات تحالفت معها لتظهر أنها بعيدة عن دائرة السلطة، بشكل مباشر، واكتفت بالهيمنة على مجلس النواب. ومن خلال ذلك كانت تدير البلاد قسرًا.
إلى ذلك، يعمد الغنوشي أن يغفل الكثير من الحقائق، خلال تلك السنوات، والتي كانت فيها النهضة تحكم في كافة سنواتها سواء بشكل منفرد أو تفاعليا مع قوى أخرى وهي الذريعة التي يحاول أن يمر من خلالها لتبرير السقوط الحر التي تتهاوى إليه الحركة خلال السنوات الأخيرة وبدا ذلك واضحًا في استجابة الجماهير لقرارات الخامس والعشرين من يوليو، والتي أسفرت عن تضاعف شعبية الرئيس قيس سعيد حينها.
من الصعوبة النظر إلى المحددات التي ارتكز من خلالها الرئيس التونسي في قراراته بعزل الحكومة، وتجميد البرلمان، والدعوة إلى الاستفتاء لدستور وانتخابات برلمانية جديدة، بعيدًا عن كافة محاولاته التي سعى فيها، بشكل مباشر، إلى توافق بين كافة القوى الوازنة في البلاد، ثم دعوته نحو التكامل بين الأطراف واحترام دولة القانون وأن يعي رئيس البرلمان حينها “راشد الغنوشي” مدلول وقيمة ما يصكه من اصطلاح يردده كثيرًا “الاسلام الديمقراطي التشاركي”.
يدرك راشد الغنوشي جيدًا أن المؤتمر القادم لحركة النهضة يحمل أنباءً غير سارة من معظم قيادات الحركة بشأن استمراره على كرسي السلطة. وجاء مضمون ذلك غير مرة في تصريحاتهم. لذا؛ حرص أن يكشف في حواره أنه غير عازم ترشيح نفسه مرة جديدة في المؤتمر القادم. بيد أنه ألمح في موضع آخر قدرة المؤتمر على تنقيح مواده بحيث يسمح للرئيس الحالي (راشد الغنوشي) إعادة ترشيح نفسه.
ليس ثمة شك أن الهدف الرئيس في حوار راشد الغنوشي في تلك اللحظة الدالة يتعلق بأمر التحقيقات التي تجريها الدولة بشأن الاتهامات الخاصة بقضية التسفير وتبييض الأموال واغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي. ويضاف إلى ذلك، تخوف الغنوشي وكذا قادة النهضة من نتائج تلك التحقيقات وعدم قبولهم لتكتيكات اللحظة الراهنة وخضوعهم لسقوطهم السياسي والميداني خلال سنوات العقد الفائت، مما أدى إلى خروجهم من دائرة السلطة.
نحو ذلك تجد في سياق الحوار ثمة حديث واضح ومباشر يتعلق بقوله إن الرئيس يرغب في تحويل “ملف حركة النهضة من ملف سياسي إلى ملف أمني”. فضلًا عن قوله إن المؤتمر القادم سيشهد خروجه من قيادة الحركة. ولا يمكن عزل ذلك عن تلويح الرجل بالقوة مرة عبر المظاهرات الأخيرة، وأخرى حين يؤكد أن الرئيس فقد شعبيته وكونه يعتمد على القوة الصلبة الجيش والأمن. بيد أنه تغافل تمامًا نزيفه المستمر والممتد عبر السنوات الأخيرة والذي بدا واضحًا للجميع منذ يوليو من العام الماضي.
قد يبدو من غير المنطقي الحديث عن غياب تام لحركة النهضة في سياق التحول السياسي الذي ينبغي أن تشهده تونس. بيد أن المقبول هو ثمة تحضيرات تدفع الوضع سياسيًا وميدانيًا نحو الضغط صوب تأويل جديد للحركة خارج مقولات الدين وتوظيفه سياسيًا وأيدولوجيًا، وكذا بعيدًا عن التحالفات والاستقطاب الاقليمي، وأن يدرك القادة الجدد عدم واقعية المقولات والآليات القديمة.



