الحوار الوطني

الحوار الوطني وفلسفة الحكم بالجمهورية الجديدة

ثمة مقاربة ضرورية لمفهوم “الجمهورية الجديدة” الذي يتردد اصطلاحه كثيرًا، لا سيما مع طرح الدعوة نحو الحوار الوطني، وتشكيل لجانه، ومحاوره، ثم إعلان أسماء مقررين تلك اللجان وكذا مساعديهم.

جاءت الدعوة إلى الحوار الوطني بعدما أدرك الجميع اصطلاح الجمهورية الجديدة. بيد أن ذلك منحهما زخمًا متدافعًا نحو طرح الأمر كوثيقة وطنية ضمن رؤية مصر 2030 التي جاءت قبلهما ضمن إصدارين؛ الأول في فبراير 2016 والثاني مطلع العام 2018. وعكس ذلك الإطار الاستراتيجي لدى الدولة المصرية نحو تحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة للبلاد.

الجمهورية الجديدة مفهوم يلزمه إطار نظري يقبض بالضرورة على شروحات الوضع الداخلي في مصر، وتفاصيل المتغيرات العنيفة التي طرأت على حالته خلال العقد الأخير، في ظل التطور التكنولوجي الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، واعتماد الكثيرين على ذلك في استقاء المعلومات، وتكوين جبهات الرأي عبر منشوراته المتواترة، بغض النظر عن رجاحتها أو منسوب دقتها ومرجعية مصادرها، فضلًا عن التوترات العميقة التي تضرب الوضع الإقليمي والدولي، بينما تترك آثارها وتداعياتها على كافة الدول عبر كافة قطاعاتها وهياكلها.

ليس ثمة شك أن طرح ذلك كله (الجمهورية الجديدة – الحوار الوطني- رؤية مصر 2030)، خلال السنوات الماضية لم يكن محض صدفة من الدولة المصرية، بل إدراك لحتمية الصياغة الدقيقة لوضعية الدولة والمواطن من ناحية الحقوق والواجبات، لا سيما أن ذلك جاء عقب تجاوز ثورتي 2011 و2013؛ اللتان كان لهما من الأثر والتداعيات الذي تستطيع أن تدركه بصورة كاملة في محيطه الإقليمي على أقل تقدير.

إلى ذلك، كانت إدارة الحوار الوطني ممارسة إجرائية تسعى نحو صياغة محكمة لمفهوم الجمهورية الجديدة، عبر كافة تفصيلاتها السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، واختبار كافة عناصرها وأبعادها التي تضمن وتؤهل بلوغ أهداف رؤية مصر 2030.

ثمة دلالة في كون طرح تلك المفاهيم جاء عبر رسالة فوقية من السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مباشرة، مما يعني الأهمية التي سيتناول من خلالها الجميع القضايا المطروحة. بيد أن ذلك سيفرض أيضًا أهمية الإدارة الذاتية لقضايا المجتمع، وضرورة النفاذ إلى كافة الرؤى والتقديرات الخاصة للقوى السياسية والحزبية والمجتمعية.

ربما من الأهمية بمكان توصيف مصر بدقة خلال سنواتها الماضية، وتحديد ذلك عبر حسم كونها في مرحلة التحول الموضوعي الذي عرفته كافة المجتمعات التي خبرت ثورات وانتفاضات شعبية، ذهب في أثرها أنظمة وحكومات أم في عمق الاستقرار بعدما تصدت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ببسالة لدرء خطر الجماعات الإرهابية المسلحة في كافة انحاء الجمهورية، فضلًا عن عملياتها الشاملة في سيناء. وما يلزم ذلك التوصيف من توطين حالة الحوار الوطني كإجراء استراتيجي في منهاج الدولة، ويحظى بديمومة نشطة في كافة أجهزة الدولة وعقلها السياسي.

ومن ثم، يمكن أن تثمن بشدة تلك الإجراءات وتضعها في كفة الإيجابيات التي تتوافق مع العمر الزمني للبلاد خلال السنوات القليلة الماضية ومجريات الأحداث، سيما أن ذلك صاحبه إطلاق مبادرة العفو الرئاسي التي منحت الحرية لعدد من الموقوفين على ذمة قضايا، ووضعت جدارًا صلبًا أتصور أنه من خلاله سينكسر جمود الأفق المفتوح للحبس الاحتياطي، وسيضحى متوازنًا مع وضعية مصر في تلك المرحلة الزمنية ودلالتها السياسية والحقوقية.

بيقين تام، نستطيع أن نستوعب أن كافة الدول والنظم السياسية، تمر بفترات مراجعة تقتضي اختبار الأفكار والممارسات التي خبرتها في مرحلة معينة، وتمنح طبقات مجتمعها وتنظيماتها السياسية، فرصة المشاركة في وضع صياغات جديدة لشكل البلاد في مرحلة تالية، ومدى نضج تصوراتها نحو المستقبل في إطار الواقع وأزماته وإشكالياته.

مصر في نطاق الشرق الأوسط العربي لم تستطع حتى اللحظة حسم السؤال نحو فلسفة الديمقراطية، في إطار الأنظمة الحاكمة ومدى ملائمة الشكل الأمثل للنظام السياسي الحاكم، وفرز المثالب النظرية والتطبيقية بين الرئاسي والبرلماني والمختلط فيما بينهم، وكذا سياق التجارب السياسية عبر الحقب التاريخية المعاصرة ودراسة حالتها بشكل جاد ورصين، والتماهي بدقة مع كافة مثالب تلك التجارب والاعتراف أيضا بإيجابياتها. ومن خلال ذلك التوافق بقناعة حول ما ينبغي أن يكون عليه نظام الحكم في مصر خلال الحقب المعاصرة، وفقًا لخارطة طريق واضحة ومحددة وتحترم كافة التحديات الراهنة، وكذا اضطراب وترهل النظام الدولي والإقليمي وتداعيات ذلك على الوضع الداخلي في المستقبل القريب والمدى المنظور والبعيد.

خلال حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، صاغ رؤيته عبر فلسفة الثورة ثم تابع ذلك في رؤية مهمة ولافتة عرفت ببيان 30 مارس، والذي جاء بعد هزيمة يونيو عام 1967. كما طرح نظام الرئيس الراحل أنور السادات، تصوراته من خلال تطبيق تجربة الانفتاح الاقتصادي والمنابر السياسية، بعدما استطاع أن يحقق انتصار السادس من أكتوبر في عام 1973. بينما افتتح نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، عصره السياسي بتنظيم مؤتمر اقتصادي يسعى نحو فض الاشتباك مع الأزمات الهيكلية في الاقتصاد المصري، بينما حرص عبر سنين حكمه التي بلغت ثلاثة عقود أن يدخل بعض الإصلاحات في هيكل نظامه السياسي، عبر بعض الممارسات الخاصة بالانتخابات ومظاهر الحريات الاعلامية وكذا التعديلات الدستورية التي أجراها.

الرؤساء الثلاثة، سعوا جميعًا عبر تصوراتهم لنظم الحكم والتعديلات التي أجروها لاحقًا، نحو فض الاشتباك مع إشكالية الحرية السياسية وكيفية ممارستها بالشكل الذي يتوافق ظاهريًا وضمنيًا ضمن تفاعلها مع الأوضاع الداخلية والاقليمية والدولية، خاصة وأن مصر كبلد مركزي في محيطه الاقليمي كان وما زال تحت بصر المجتمع الدولي والقوى الفاعلة والوازنة كونيًا، التي قد تحتاج إلى مساندة القاهرة إلى موقفها في بعض الملفات الحيوية في الإقليم بما يتلاءم مع تطلعاتها.

قد يضحى من المفيد أن السياقات المنطقية التي أفضت نحو الدعوة إلى طرح رؤية مصر 2030 والجمهورية الجديدة والحوار الوطني جاءت تباعًا، ومن داخل قناعات رأس الدولة الذي يبدو أن ثمة ممارسة لطرح نظري يراه واجبًا وحتميًا. بيد أنه يرتبط بتوقيتات معلومة في عمر وتاريخ التحول السياسي الذي عرفته مصر خلال تلك السنوات الماضية.

تأسيسًا على ذلك، نجد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يستجيب بمرونة موضوعية للعلاقة الوطيدة بين الشعب ونسق الحكم رغم عديد التحديات الاقتصادية التي يواجهها الشعب المصري، بدءًا من قرارات الاصلاح الاقتصادي وحتى اللحظة مرورًا بتداعيات فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات تلك الأحداث على الأوضاع الاقتصادية لمختلف طبقات المجتمع المصري، ويواصل حديثه المباشر لكافة فئات المجتمع بغية أن يشرح التحديات والعراقيل التي تواجهها الدولة على كافة القطاعات والمستويات.

أثقل الإسلام السياسي، منذ انبعاثه القرن الماضي، وانخراطه في المجال السياسي خلال الأربعينات من القرن الماضي، ظهر الوطن ونظم الحكم المتعاقبة حتى وإن تباينت الأساليب التي اتبعتها تلك النظم في التعامل معها. وقد تراوحت دومًا فيما بين اللين والشدة. غير أن ثمة ملاحظة دالة ينبغي إدراكها كون تلك التنظيمات ومع ما يشوبها من ضعف وتفكك تنظيمي يضرب بجذوره كافة تشكيلاته. بيد أن حقيقة الأمر وواقعه تبدو نحو قدرة تلك التنظيمات على إحياء ذواتها في نسخ جديدة ومعاصرة، بعيدًا عن القوالب القديمة والأسماء التي ارتبطت بها، خاصة وأن المدى الزمني القريب قد يمنح الأجيال الشابة القدرة على ذلك، بعدما يحسم القدر كلمته في حق بعض القادة التاريخيين استجابة لنمط عمر الطبيعة البشرية.

نحو ذلك قد يضحى من الملائم عند صياغة الأطر الناظمة والحاكمة في الجمهورية الجديدة، حسم بعض الخلايا القديمة العالقة في جسد الوطن والتي تمنح تنظيمات الإسلام السياسي المساحة والفرصة الكافية لإعادة الانتشار والتمدد. لذلك من الأهمية بمكان أن يفضي الحوار الوطني نحو صياغة التصور المناسب للبلاد داخل الحيز المدني الديمقراطي، وكذا الإجابة على كافة النقاط التي من شأنها قد تعرقل الوصول نحو ذلك الهدف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى