شرق المتوسط

تجدد الخلافات… خلفيات عودة التوتر بين أثينا وأنقرة

كان التوتر -متعدد الطبقات والاتجاهات- أحد أهم معالم العلاقة بين اليونان وتركيا منذ حقبة الدولة العثمانية وحتى اليوم. هذا التوتر، الذي تتعدد أسبابه ودوافعه، بدأ يتخذ شكلًا تصعيديًا ملحوظًا منذ أوائل العام الجاري، على خلفيات داخلية وإقليمية ودولية، بعد ما بدا أنه بوادر للتقارب بين أثينا وأنقرة عبر اللقاء الذي جمع في شهر مارس الماضي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس مايتسوتاكيس.

عنوان ما يمكن أن نعدّه “جولة جديدة” من جولات الخلاف بين الجانبين هو في الواقع استنساخ للخلاف التاريخي الرئيس بين الجانبين حول قسم من جزر بحر إيجة، وتحديدًا جزر “منتشه”؛ وهي عبارة عن أربع عشرة جزيرة تواجه الساحل التركي المطل على بحر إيجة. تجدد هذا الخلاف جاء بعد أن رصدت الطائرات التركية بدون طيار نقل سفن الإنزال البرمائي اليونانية مجموعة من العربات المدرعة إلى جزيرتي “لسبوس” و”ساموس” الواقعتين في القطاع المتنازع عليه من جزر بحر إيجة، بواقع 23 مدرعة في الجزيرة الأولى، و18 مدرعة في الجزيرة الثانية.

أثارت هذه الخطوة غضب أنقرة، ليس فقط بسبب أن هذه التعزيزات العسكرية قد تمت على جزر تقع على مسافة وجيزة جدًا من الساحل التركي (جزيرة ساموس تقع على بعد نحو 2 كيلومتر عن الساحل، في حين تقع جزيرة لسبوس على بعد 15 كيلو متر)، لكن أيضًا بسبب ما تراه أنقرة “تقاربًا أمريكيًا يونانيًا” يستهدف تقويض نفوذ أنقرة في منطقة شرق المتوسط، وكذا الإجراءات اليونانية المتعددة التي تراكمت خلال الأشهر الأخيرة، وبدا منها ملامح محاولة استفزاز تركيا، خاصة على المستوى العسكري.

بحر إيجة…. نزاع تاريخي لم يهدأ يومًا

ملف جزر بحر إيجة كان من ضمن أهم معالم المرحلة الأخيرة من حقبة الدولة العثمانية، وقد كان اتفاق أثينا الموقع في نوفمبر 1913 بين الدولة العثمانية واليونان بمثابة البداية الفعلية للنزاع المستمر حتى الآن بين الجانبين حول هذه الجزر، فقد وافقت الدولة العثمانية في هذا الاتفاق “ضمنيًا” على الاعتراف بسيادة اليونان على جزر بحر إيجة التي سيطرت عليها أثينا أثناء انشغال الدولة العثمانية في حرب البلقان بين عامي 1912 و1913، عدا جزر “غوكتشه أدا” و”بوزجه أدا” و”ميس”، التي تمت إعادتها للدولة العثمانية بموجب معاهدة لندن التي تم توقيعها قبل أشهر من اتفاق أثينا، وتم من خلالها إنهاء حرب البلقان. من أهم بنود اتفاق أثينا كان بندًا خاص بعدم تمركز أية قطع عسكرية في الجزر التي تسيطر عليها اليونان في بحر إيجة.

اعتراف الدولة العثمانية بسيادة اليونان على جزر بحر إيجة تكرر بعد ذلك ضمن “معاهدة سيفر للسلام” الموقعة عقب نهاية الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1920، لكن قامت أنقرة لاحقًا، عقب تأسيس الجمهورية التركية، بالتراجع عن هذا الاعتراف، ودخل كلا الجانبين في نزاع حول ملكية هذه الجزر، إلى أن تم توقيع معاهدة سلام جديدة في يوليو 1923 سميت “اتفاقية لوزان”، والتي كرست تبعية جزر بحر إيجة لكل من اليونان وإيطاليا، مقابل عدم تسليح الجزر اليونانية المقابلة للساحل التركي، حيث نصت المادة الثانية عشر من هذه الاتفاقية البنود الخاصة بعدم إنشاء قواعد عسكرية في هذه الجزر والتي تضمنتها سابقًا معاهدتا أثينا ولندن.

خلال الحرب العالمية الثانية، انتقلت الجزر التي كانت تحت السيطرة الإيطالية في بحر إيجة، وعددها نحو أربعة عشر جزيرة، إلى ألمانيا النازية، ثم إلى بريطانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم دخلت هذه الجزر التي تسمى بمجموعة جزر “منتشه” ضمن السيادة اليونانية بموجب اتفاق “باريس” للسلام الموقع بين الحلفاء وإيطاليا عام 1947، وهو ما لم تقبله أنقرة التي رأت أن إدخال هذه الجزر ضمن السيادة اليونانية قد تم دون التوافق مع الحكومة التركية. الموقف التركي في هذا الصدد يعد أساس الخلاف المعاصر مع اليونان بشأن جزر بحر إيجة. 

حقيقة الأمر أن الخلاف بين الجانبين في هذا الصدد يحمل مستويات مختلفة؛ المستوى الأول هو ملف “عسكرة الجزر”، فأنقرة تقول إن أثينا عملت بشكل تدريجي منذ عام 1960 على توسيع حضورها العسكري في هذه الجزر، وتحديدًا جزر “ساموس” و”ليسفوس” و”خيوس” و”إيكاريا” الأقرب للساحل التركي. هذا الوضع دفع البلدين إلى حافة المواجهة العسكرية الشاملة مرتين على الأقل: الأولى عام 1987، والثانية كانت منتصف تسعينيات القرن الماضي. 

الاعتراض التركي في هذا الصدد مبني على البنود الخاصة بعدم تسليح هذه الجزر، والتي وردت في اتفاقية “لوزان” ومعاهدة باريس، في حين ترى أثينا أن احتلال تركيا للقسم الشمالي من جزيرة قبرص عام 1947، وكذا بنود اتفاقية “مونترو” لإدارة المضائق الموقعة عام 1936، منحت تركيا -بالمخالفة لبنود اتفاقية لوزان- حق تسليح الجزر المحيطة بالمضائق التي تسيطر عليها، وهو ما يعطى الحق لليونان بالتعامل بالمثل مع البنود الخاصة بعدم تسليح جزر بحر إيجة.

عودة الحديث عن الوجود العسكري اليوناني في جزر بحر إيجة دفع أنقرة إلى إعادة طرح ملف “السيادة حول هذه الجزر”، وهو طرح تصعيدي متقدم؛ نظرًا إلى أن تركيا حتى وقت قريب كانت تعترف ولو ضمنيًا بسيادة اليونان على هذه الجزر، لكنها في نفس الوقت ترى أن بعض الجزر الموجودة في هذا النطاق لم يتم تحديد موقف السيادة عليها بشكل واضح، مثل جزر “إيميا”. 

لوحظ مؤخرًا تزايد تصريحات المسؤولين الأتراك حول حقيقة هذه السيادة، وهو ما دفع الحكومة اليونانية في مايو الماضي إلى إرسال خطاب إلى الأمم المتحدة تطالب فيه بوقف التشكيك التركي في سيادتها على جزر بحر إيجة، لكن تصاعدت التصريحات التركية بشكل كبير خلال الأسابيع الأخيرة، لدرجة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصف في تصريحات صحفية هذه الجزر بالـ”محتلة”، فنشرت الخارجية اليونانية -ردًا على ذلك- خرائط تعود إلى عام 1923 توضح أحقية أثينا في ممارسة السيادة على هذه الجزر.

ملف “السيادة” يضم بين ثناياه ملفات خلافية مهمة أخرى، من بينها: ملف ترسيم المياه الإقليمية، وحدود المجال الجوي المحلي لكل دولة، والمناطق الاقتصادية الخاصة. عدم اعتراف تركيا الكامل بسيادة اليونان على جزر بحر إيجة كان سببًا رئيسًا في امتناع أنقرة عن التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار السارية منذ نوفمبر 1994، وهذا جعلها عمليًا غير معترفة بالمياه الإقليمية والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان. 

تنص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على أن يكون مدى المنطقة الاقتصادية الخالصة 200 ميل بحري من شواطئ آخر جزيرة تابعة للدولة، وتكون المياه الإقليمية على مسافة 12 ميلًا بحريًا، في حين لا تعترف تركيا سوى بمدى 6 أميال بحرية فقط كمياه إقليمية لليونان، ولا تعترف بوجود منطقة اقتصادية خالصة للجزر اليونانية المتاخمة للساحل التركي على بحر إيجة؛ لخشيتها من تأثير ذلك على المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا في بحر إيجة، حيث توجد جزر -مثل جزيرة “كاستيلوريزو”- على بعد أقل من 2 كيلو متر من الساحل التركي، وهو ما يقلص بشكل حاد من إمكانية استغلال أنقرة للثروات الموجودة في هذا النطاق؛ نظرًا إلى أنها -في حالة اعترافها بالمطالبات اليونانية الخاصة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة- سوف تمنح اليونان معظم مساحة بحر إيجة.

هذا الوضع ينسحب أيضًا على المجال الجوي اليوناني الذي تعترف به تركيا فوق بحر إيجة؛ فترى أثينا أنه يتراوح بين 10 و12 ميلًا بحريًا، في حين ترى تركيا أنه 6 أميال بحرية فقط. وأدى هذا إلى تكرار حوادث اختراق طائرات كلا الطرفين للمجال الجوي للطرف الآخر. 

الأكيد في هذا الإطار أن تركيا باتت تضع مسألة السيادة اليونانية على هذه الجزر على رأس الملفات الخلافية بينها وبين اليونان بعد فترة من تسيد الملف القبرصي هذه الملفات، وهذا يمكن ملاحظته من خلال التصريحات الأخيرة للرئيس التركي التي قال فيها بوضوح إن تركيا لا تعترف بالوجود اليوناني في هذه الجزر، وأنها سوف تقوم “حين غرة” بفعل “ما هو ضروري” لتغيير هذا الوضع. رغم وضوح الرؤية التركية في هذا الصدد، فإن إعادة طرح هذه القضية في التوقيت الحالي ربما يمكن اعتباره بمثابة رد فعل على تقارب يوناني – قبرصي – أمريكي واضح، خاصة على المستوى العسكري. 

تقارب عسكري يوناني قبرصي مع الولايات المتحدة الأمريكية

إشارات عديدة رصدتها أنقرة خلال الفترة الماضية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وفرنسا من جهة، وكل من قبرص واليونان من جهة أخرى، كان الجانب العسكري هو جوهرها الأساسي، بشكل يمكن من خلال تجميع أوصاله فهم أسباب وموجبات التحفز التركي ضد الطرفين، منذ إعادة إحياء أزمة حي “فاروشا” في مدينة “فاماغوستا” القبرصية منتصف العام الماضي، وصولًا إلى تناول ملف سيادة اليونان على جزر بحر إيجة، وكذا حديث الرئيس التركي منذ أيام عن بدء تركيا تعزيز وجودها العسكري شمال قبرص.

الإشارة الأولى في هذا الصدد كانت بدايتها مع قبرص، وتحديدًا في ديسمبر 2019، حين تضمن مشروع قانون ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع، لعام 2020، الذي صدق عليه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رفع حظر توريد الأسلحة عن قبرص اليونانية، وهو ما تم تضمينه في بنود قانون “التعاون في مجال الطاقة والأمن لشرق المتوسط” الملحق بمشروع الميزانية التي أقرها الكونجرس لاحقًا، والذي يتضمن تأكيدًا على التعاون مع قبرص واليونان وإسرائيل في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وعدم تسليم أنقرة مقاتلات “إف-35″، وكذا رفع الحظر عن توريد قبرص اليونانية بالسلاح. 

تلا ذلك مباشرة إعلان واشنطن اعتزامها تنفيذ مناورات عسكرية مع الجيش القبرصي، وعن بدء التجهيزات لإطلاق برنامج للتدريبات العسكرية؛ بهدف تدريب عناصر الحرس الوطني القبرصي، وذلك في إطار برنامج التدريب والتعليم العسكري الدولي “IMET”. وهو ما تم تفعيله بالفعل، بداية من إجراء المناورات الأولى من نوعها بين البحرية الأمريكية والبحرية القبرصية في سبتمبر 2020، وصولًا إلى إعلان الخارجية الأمريكية مؤخرًا عن رفع القيود المفروضة على الصادرات الدفاعية لقبرص.

بالنسبة لليونان، تبدو الخطوات الأمريكية أكثر وضوحًا وقوة؛ فقد كان التعاون العسكري بين الجانبين مرتكزًا على اتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل الموقعة عام 1990، والتي بموجبها نظمت أثينا إطار استغلال البحرية الأمريكية قاعدة “سودا” في جزيرة كريت، وهو الاستغلال الذي كان قائمًا عمليًا منذ اواخر ستينيات القرن الماضي. لكن تلقت هذه الاتفاقية دفعة جديدة للأمام في أكتوبر 2019، بعد أن اتفق الجانبان على استغلال الولايات المتحدة الأمريكية لثلاث قواعد عسكرية يونانية بالإضافة إلى قاعدة “سودا” البحرية”، وهي قاعدة “جورجولا” في مقاطعة “فولوس” وسط اليونان، وساحة للتدريب العسكري في منطقة “ليتوتشورو”، بجانب قاعدة “يانولي” العسكرية في مقاطعة “إفروس” شمالي البلاد. 

هذا التعديل تم التصديق عليه من جانب البرلمان اليوناني في مايو الماضي، وقد انتقدت أنقرة بشدة هذه الخطوة، خاصة ان التعديلات الجديدة على هذه الاتفاقية تضمنت تحديث قاعدة سودا البحرية، وتجديد قاعدتي “لاريسا” و”ستيفانوفيكيو” الجويتين، وتعميق وتحديث ميناء “ألكساندروبولي” المطل على بحر إيجة، وهي جميعها خطوات أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قناعته بأنها موجهة ضد تركيا وليس ضد روسيا.

تصعيد التعاون العسكري بين أثينا وواشنطن لم يقتصر على هذا الحد فحسب، فقد تلقت أثينا الأسابيع الماضية طائرتين مقاتلتين من نوع “إف-16 فايبر” كدفعة أولى من برنامج لتحديث القوة الجوية اليونانية تبلغ قيمته الإجمالية 1.5 مليار دولار، يتضمن تحديث 83 مقاتلة يونانية من هذا النوع إلى المعيار “فايبر”، على ان تصل أربعة طائرات محدثة إضافية إلى اليونان قبل نهاية العام الجاري، ناهيك عن دخول اليونان في مراحل متقدمة من التفاوض مع الولايات المتحدة، على شراء عدة طائرات بدون طيار من نوع “إم كيو-9”.

تنظر أنقرة إلى التعاون في المجال التسليحي بين أثينا وواشنطن على أنه موجه بشكل رئيس ضدها لاعتبارات عديدة، أهمها الدور الذي لعبه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا في عرقلة الكونجرس الأمريكي مفاوضات بيع مقاتلات “إف-16” إلى انقرة، في حين كان يسيرًا على أثينا التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن تحديث مقاتلاتها، وكذلك الحصول على موافقة واشنطن على حصول سلاح الجو اليوناني مستقبلًا على مقاتلات “إف-35” المتفوقة. دور ميتسوتاكيس في هذا الملف كان سببًا رئيسًا في تصعيد الرئيس التركي منذ مايو الماضي لهجته ضد اليونان، خاصة أنه يتهم رئيس الوزراء اليوناني بأنه تواصل مع برلين لمنع حصول أنقرة على المزيد من الغواصات الألمانية.

ما أثار غضب أنقرة بشكل أكبر بشأن التواصل بين الجانبين اليوناني والأمريكي كان حقيقة أن المدرعات التي قامت أثينا بإرسالها إلى جزيرتي “لسبوس” و”ساموس” كانت المدرعات التكتيكية “إم-117 جارديان” الأمريكية الصنع، والتي وصلت دفعة أولى منها تبلغ 44 مدرعة إلى اليونان في أبريل الماضي، من إجمالي 1200 مدرعة سترسلها واشنطن إلى أثينا. 

ولا يمكن بالطبع إغفال ارتباط التصاعد الواضح في مستوى العلاقات العسكرية بين اليونان والولايات المتحدة، عن التطورات الحالية في أوكرانيا؛ إذ ترتكز واشنطن بشكل كبير على الموانئ اليونانية لإيصال المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، ناهيك عن قيام أثينا في فبراير الماضي بإرسال مساعدات عسكرية إلى كييف، تمثلت في 40 طنًا من المعدات الدفاعية، بجانب إعلان وزارة الدفاع اليونانية منذ أسابيع عن بدء توريد 40 ناقلة جند مدرعة من نوع “بي أم بي-1” سوفيتية الصنع من مخزونها العسكري إلى اوكرانيا، على أن تتلقى بدلًا منها مدرعات “ماردير” الألمانية.

العلاقات العسكرية بين باريس وأثينا تبقى كذلك ضمن دائرة المتابعة التركية، خاصة بعد توقيع كلا الجانبين منتصف العام الماضي اتفاقية دفاعية تنص على مساعدة كل منهما الآخر في حالة وجود تهديد خارجي، ناهيك عن تلقى اليونان في يناير الماضي الدفعة الأولى من صفقة مقاتلات “رافال” الأربعة والعشرين، وكذا اتفاق كلا الجانبين في مارس الماضي على تصنيع فرنسا ثلاث فرقاطات من الفئة “FDI” على أن يبدأ تسليمها عام 2025.

غاز شرق المتوسط وملفات خلافية أخرى

رغم ما بدا أنه “تهدئة” في ملف غاز شرق المتوسط، فإن هذا الملف عاد ليشهد تطورات ساخنة خلال الأشهر الأخيرة، يمكن إضافتها إلى الخلافات التي بدأت بشكل واضح عام 2020 بين اليونان وقبرص من جهة وتركيا من جهة أخرى حول المناطق الاقتصادية الخالصة وعمليات التنقيب عن الغاز. بداية هذه التطورات كانت في ديسمبر الماضي، بعد احتجاج أنقرة على قرار جمهورية قبرص منح حقوق استكشاف الغاز الطبيعي لشركتي إكسون موبيل وقطر للبترول في البلوك 5 من منطقتها الاقتصادية الخالصة، والمضي قدمًا في أعمال الحفر الاستكشافية في منطقة البلوك 10. 

قبرص من جانبها صعدت أكثر في هذا الملف في أغسطس الماضي، بعد إعلان حكومتها عن اكتشاف شركتي “إيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية، حقلًا غازيًا ضخمًا في بئر “كرونوس-1” الواقع في البلوك السادس، يحتوي على احتياطيات محتملة تبلغ نحو 70 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما ردت عليه تركيا آنيًا في نفس الشهر عبر العودة إلى سياسة “سفن التنقيب”، فأرسلت سفينة التنقيب “عبد الحميد خان” للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.

التطورات الجديدة في ملف غاز شرق المتوسط وما سبقها وصاحبها من تصاعد واضح في ملف “عسكرة بحر إيجة” ترافقها ملفات أخرى أسهمت بشكل أو بآخر في زيادة حجم التوتر في العلاقة بين الجانبين، منها اعتقال السلطات التركية لأحد الأشخاص المشتبه في انتمائه لتنظيم فتح الله جولن، وحديثها عن أنه تلقى تدريبات في معسكر للاجئين يقع قرب العاصمة اليونانية، وكذا حديث أنقرة المتكرر عن تعرض بعض الأقليات التركية المسلمة في اليونان إلى “ممارسات تمييزية”، مثل المسلمين القاطنين في منطقة “تراقيا الغربية” المتاخمة للحدود مع تركيا.

يضاف هذا إلى الغضب التركي من طريقة نشر القيادة البرية لحلف الناتو أواخر أغسطس الماضي للتهنئة الموجهة لأنقرة بمناسبة الذكرى المئوية لعيد النصر التركي، والذي يوافق ذكرى معركة “دوملو بينار” بين القوات التركية واليونانية؛ نظرًا إلى أن الحلف بعد أن نشر نص التهنئة الموجهة لتركيا، قام بحذفه بناء على اعتراض أثينا، ومن ثم أعاد نشر التهنئة بعد تعديل نصها.

حتى على مستوى ملف اللاجئين، والذي شهد خلال السنوات الأخيرة هدوءًا حذرًا بين اليونان وتركيا، عاد التوتر إليه بشكل أو بآخر؛ خاصة بعد التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سواء خلال القمة الثانية والعشرين لمنظمة شنغهاي للتعاون أو خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي وجه فيها انتقادات حادة لليونان في ما يتعلق بملف اللاجئين، واتهمها بتحويل بحر إيجة إلى مقبرة للاجئين، وهو ما رد عليه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بالقول إن تركيا هي النقطة التي تنطلق منها قوارب اللاجئين نحو الساحل اليوناني.

إذًا بالنظر إلى ما تقدم، يمكن القول إن كلا الجانبين يصعدان اللهجة في كافة الملفات الخلافية التي تجمع بينهما، لكن يبدو التركيز بشكل أكبر على المشهد العسكري في بحر إيجة على خلفية التطورات الحالية في أوكرانيا، هذا فيما يتعلق بالبعد المحلي من الخلاف بين الجانبين. 

لكن على المستوى الدولي، يبدو أن كلًا من موسكو وواشنطن تتخذان من الخلاف بين أنقرة وأثينا كوسيلة أخرى من وسائل المواجهة غير المباشرة بينهما، خاصة أن واشنطن أعربت عدة مرات عن عدم رضاها عن المواقف التركية من موسكو، حتى قبل الأزمة الأوكرانية، مثل الموقف من منظومات “إس-400″، لذا تنظر أنقرة بتوجس إلى التعزيز العسكري الأمريكي في اليونان، ليس فقط لأنه يبدو أقل ارتباطًا بالملف الأوكراني، لكن أيضًا لأنه يتضمن تعزيزًا نوعيًا للقدرات التسليحية والعسكرية اليونانية، وهو ما يمثل إخلالًا كبيرًا بتوازن القوى في النطاق الجغرافي الأقرب لتركيا.

رغم تصاعد هذا التوتر فإن طغيان التطورات الأخيرة في أوكرانيا يجبر القوى الأوروبية على محاولة لجم الطرفين التركي واليوناني عن الدخول في مواجهة عسكرية على خلفية الوضع في بحر إيجة، خاصة وأن كافة الأطراف لا تمتلك الموارد اللازمة لتحمل تبعات حدوث مثل هذه المواجهة في التوقيت الحالي. وأغلب الظن أن نتائج هذا التوتر ربما تظهر بشكل أكبر على المدى الطويل في العلاقات بين الجانبين اللذين يدخلان منتصف العام المقبل في دوامة الانتخابات العامة. 

هذا الوضع لا يمنع تماس الجانبين عسكريًا في نطاق بحر إيجة، خاصة وأن اليونان قامت في أغسطس الماضي بتفعيل منظومات الدفاع الجوي “إس-300” انطلاقًا من جزيرة كريت، وتتبعت راداريًا المقاتلات التابعة لسلاح الجو التركي، وهي تعتزم كذلك نشر منظومات مضادة للطائرات بدون طيار في عدة جزر ببحر إيجة؛ لمواجهة أنشطة طائرات “بيرقدار” التركية، وطائرات “أكسونجار” التي بدأت مؤخرًا في العمل بأجواء بحر إيجة، وقامت إحداهما برصد عمليات التعزيز العسكري الأخيرة للجيش اليوناني.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى