العراقإيران

تصدير الأزمات: أبعاد ودلالات الاستهداف الإيراني لإقليم كردستان العراق

شن الحرس الثوري الإيراني على مدار الأيام الماضية هجمات صاروخية باستخدام طائرات مسيرة على بعض المناطق الواقعة في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، وهي الهجمات التي أسفرت عن سقوط 13 قتيلًا وعشرات الجرحى، فضلًا عن تدمير العديد من البنى التحتية. وجاءت هذه الهجمات لتعيد التذكير بموقع الإقليم في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، فضلًا عن طرحها العديد من التساؤلات حول طبيعة أهدافها، خصوصًا وأنها جاءت بالتزامن مع تصاعد الاحتجاجات في الداخل الإيراني، في أعقاب حادث وفاة الفتاة مهسا أميني.

دوافع عديدة

يشهد إقليم كردستان العراق منذ أعوام هجمات صاروخية مستمرة من قبل إيران، تستهدف على الأرجح مقارًا دبلوماسية أو مناطق اقتصادية مهمة، لكن الهجوم الأخير كان الأعنف منذ الهجمات التي تبناها الحرس الثوري الإيراني في أبريل الماضي. ويمكن القول إن هناك جملة من الدوافع والاعتبارات التي يُمكن في ضوئها فهم تجدد الاستهداف الإيراني لإقليم كردستان، وذلك على النحو التالي:

1- يدخل الاستهداف الإيراني لإقليم كردستان العراق في إطار استراتيجية إيران في التعاطي مع الإقليم منذ استقلال الإقليم في 2017، حيث نظرت إيران إلى هذه الخطوة على أنها تمثل تهديدًا استراتيجيًا لها من منطلق تهديدها للنفوذ الإيراني في الجغرافيا العراقية، في ضوء تبني مبدأ استراتيجي يقوم على “وحدة العراق”، فضلًا عن أن استقلال الإقليم يمثل تحديًا لإيران على مستوى إدارة المناطق الحدودية التي تربطها به (ترتبط إيران بحدود مع الإقليم تمتد لـ 400كم)، وكذا تداعيات هذا الاستقلال على الملف الكردي في الداخل الإيراني، خصوصًا مع إحيائه للنزعات القومية للطائفة الكردية في إيران ودول الجوار. ومع هذه التخوفات الإيرانية بدأت طهران في تبني العديد من التحركات السياسية والأمنية التي استهدفت تطويق الإقليم ومحاصرته، بما يضمن تحجيم الخطر الذي قد يمثله على المصالح الاستراتيجية الإيرانية.

2- امتدت عدوى الاحتجاجات التي يعيشها الداخل الإيراني إلى إقليم كردستان، فقد تظاهر عشرات الإيرانيين والأكراد في إقليم كردستان أمام مبنى الأمم المتحدة بأربيل، تنديدًا بمقتل الإيرانية مهسا أميني على يد سلطات طهران، وخلال الاحتجاجات ندد المشاركون بسياسات النظام الإيراني وكتم الحريات واعتماد الاضطهاد والقتل والترويع ضد أبناء الشعب ممن يخالفون توجهات طهران التي وصفوها بـ”المتطرفة”، وطالبوا الجهات الأممية والمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بالتدخل العاجل لوقف النظام الإيراني عن ممارسة الإجراءات التعسفية وتكميم الأفواه وفرض الدين بالقوة على أبناء المجتمع.

وردد المحتجون شعارات من قبيل “الموت لخامنئي” (مرشد إيران) و”الحرية للمرأة”، وبالتالي لا يمكن فصل الاستهداف الإيراني للإقليم عن سياسة طهران التعسفية والأمنية تجاه الاتجاهات المعارضة. وكانت إيران قد اتهمت الأحزاب الكردية المعارضة لها في إقليم كردستان بالضلوع في دور كبير في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد على مدار الأسبوعين الأخيرين.

وتدخل هذه السردية والتحركات العسكرية الأخيرة لإيران في إقليم كردستان، في إطار مبدأ “تصدير الأزمات”، وهو النهج الذي يقوم على جانبين رئيسين: الأول يتمثل في تعليق الأزمات الداخلية على شماعة بعض الأطراف الخارجية التي تراها الدولة الإيرانية مصدر تهديد لها، أما الجانب الثاني فيتمثل في السعي إلى توظيف هذه السردية من أجل صرف الانتباه عن أحداث الداخل الإيراني والتي تشتعل يومًا بعد يوم، عبر اختلاق معارك خارجية.

3- في أواخر أغسطس الماضي، أعلن حزبان كرديان إيرانيان معارضان يتخذان من إقليم كردستان العراق مقرًا لهما، اندماجهما من جديد بعد انفصالهما لمدة 16 عامًا، وهما (الحزب الديمقراطي الكردستاني) و(الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني)، ونشر الحزبان بيانًا أعلنا فيه عن توحدهما تحت مسمى “الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني”، وأعلنا أن “هذا الإعلان يعبر عن رحلة جديدة في نضال ضد نظام جمهورية إيران، وضد أية عقلية وسطية تنكر التعددية القومية الإيرانية والحقوق الوطنية للمجتمعات المختلفة”.

وتنظر إيران إلى هذه الأحزاب الكردية على أنها منظمات إرهابية، لا يقتصر تهديدها على المصالح الإيرانية في كردستان، وإنما يمتد ليشمل الداخل الإيراني نفسه، حتى أن الخارجية الإيرانية وعبر متحدثها الرسمي ناصر كنعاني بررت الهجمات الأخيرة على إقليم كردستان بأنها جاءت “لاستهداف التنظيمات الإرهابية والانفصالية التي توظف أراضي إقليم كردستان لاستهداف إيران”، في إشارة واضحة إلى الأحزاب الكردية المعارضة للمشروع الإيراني. ذلك فضلًا عن أن العميد محمد باكبور قائد السلاح البري بالحرس الثوري الإيراني كان قد أكد أن الهجمات استهدفت “المجموعات الكردية المعارضة في إقليم كردستان”، وعادةً ما تستهدف الهجمات الإيرانية على الإقليم المناطق الحدودية المجاورة لإيران وتحديدًا جومان وسيدكان، وهي المناطق التي توجد فيها الأحزاب الكردية المعارضة لطهران.

وبالإضافة إلى ذلك، تتهم السلطات الإيرانية دائمًا نظيرتها في إقليم كردستان بأنها فتحت أبوابها لعناصر منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة، واحتضنت هذه العناصر. وتُشير إيران إلى أن هذه العناصر تحظى بوجود كبير في الإقليم عبر التستر تحت رداء منظمات وهمية، وتسعى إلى التنسيق مع القوى المناهضة لإيران من أجل ضرب مصالحها، والدفع باتجاه تكوين إقليم سني، أو على الأقل تحجيم النفوذ الإيراني في كردستان.

4- تقوم السردية الرئيسة لإيران فيما يتعلق باستهداف إقليم كردستان العراق على أن الإقليم يمثل بيئة خصبة ينشط فيها الموساد الإسرائيلي، في ضوء العلاقات التاريخية التي ربطت قادة الإقليم بإسرائيل، حتى أن إيران بررت الهجمات التي شنتها في الأشهر الأخيرة بأنها “جاءت كرد على تحركات الموساد الإسرائيلي في الإقليم”، وهي التحركات التي قصدت بها إيران الأنباء التي تم تداولها في منتصف مارس الماضي من أن ست طائرات مسيرة إسرائيلية انطلقت في فبراير الماضي من إقليم كردستان العراق  واستهدفت معسكرًا في منطقة كرمانشاه الإيرانية، ما أدى إلى تدمير عشرات الطائرات المسيرة الإيرانية، وهو الحادث الذي لم تعلق عليه السلطات الإيرانية، ما يعني أن إقليم كردستان العراق تحول إلى ساحة تنافس أمني واستراتيجي بين إيران وإسرائيل، خصوصًا وأن سلطات كردستان وعلى الرغم من عدم وجود علاقات رسمية لها مع إسرائيل، إلا أن كافة المؤشرات تُشير إلى وجود علاقات استخباراتية وأمنية كبيرة بين الطرفين.

5- أحد الفرضيات المطروحة والتي يُمكن في ضوئها فهم الهجمات الإيرانية الأخيرة على إقليم كردستان ترتبط بامتلاك الإقليم لاحتياطات مهمة وكبيرة من الغاز الطبيعي قدّرتها تقارير بحوالي 25 تريليون قدم مكعبة. ومع تصاعد الحديث عن وجود مفاوضات كردية أوروبية برعاية إسرائيلية لتصدير غاز الإقليم إلى أوروبا عبر تركيا، استشعرت إيران الخطر؛ وذلك من زاوية أن هذا الاتفاق حال إتمامه سيمثل تهديدًا اقتصاديًا لإيران، خصوصًا وأنه سيقوي شوكة الحكومة المركزية العراقية التي تعتمد بشكل رئيس على الغاز الإيراني لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية. ويعزز من صوابية هذه الفرضية استهداف إيران من قبل لقصر رجل الأعمال باز رؤوف البرزنجي، ومصافي شركته “كار”، وهي الشركة الراعية لهذه المفاوضات.

ويُعزز من التخوفات الإيرانية بهذا الخصوص حاجة أوروبا الملحة لإتمام هذا الاتفاق، في ضوء التوجه الأوروبي نحو تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وإيجاد بدائل تُلبي احتياجات القارة العجوز من الطاقة، فضلًا عن رغبة السلطات العراقية في الابتعاد عن دائرة الابتزاز الإيرانية في هذا المجال؛ إذ توظف إيران الاعتماد الكبير للعراق على الغاز الطبيعي لها بما يدعم مشروعها التوسعي في العراق.

مستقبل العلاقات الإيرانية مع إقليم كردستان

تنظر السلطات الإيرانية إلى إقليم كردستان العراق على أنه إقليم يقع ضمن المجال الحيوي الإيراني، ما يدفع طهران إلى تبني مقاربة متعددة الأبعاد للحفاظ على نفوذها في الإقليم، وتحييد أي محاولات تدفع باتجاه تحييد هذا النفوذ أو ضرب مصالحها، وفي هذا السياق يبدو أننا أمام سيناريوهين فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الإيرانية بإقليم كردستان العراق:

1- ترى إيران أن هناك جملة من المهددات المرتبطة بإقليم كردستان العراق، وعلى رأسها: احتمالية تماهي السلطات في الإقليم مع اتجاهات مناوئة لطهران خصوصًا التيار الصدري العراقي، وإسرائيل، فضلًا عن احتمالية توظيف المقدرات الاقتصادية للإقليم وموقعه الاستراتيجي لضرب المصالح الإيرانية، ومع استمرار هذا التهديد ربما نكون أمام توجه إيراني نحو تكثيف هذه الضربات العسكرية بل مع احتمالية تحويلها إلى توغل عسكري إيراني في كردستان، على غرار التوغل العسكري التركي في بعض المناطق العراقية.

2- حال خلق معادلة سياسية تُخدم على النفوذ الإيراني بشكل عام في العراق، مع نجاح الضغوط الإيرانية على إقليم كردستان من أجل تبني توجهات تتفق والرؤية الإيرانية، سوف تستمر حالة “الترقب الحذر” التي تسيطر على العلاقات الثنائية بين الجانبين، مع استمرار إيران في عملياتها النوعية التي تستهدف الاتجاهات المناوئة لها في الإقليم.

وفي الختام، يمكن القول إن إقليم كردستان العراق تحول في السنوات الأخيرة إلى ساحة لتصفية الحساب بين إيران من جانب والمعارضة الإيرانية والقوى الإقليمية المناوئة لها وعلى رأسها إسرائيل من جانب آخر، الأمر الذي دفع طهران إلى تكثيف تحركاتها العسكرية لتطويق الإقليم ومحاصرته، على اعتبار النظر إليه على أنه يقع ضمن المجال الحيوي الإيراني، ويمثل أحد الركائز المهمة للأمن القومي الإيراني، وكذا للمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى