أوروبا

“الله.. الوطن.. العائلة”.. كيف صعد اليمين القومي في إيطاليا؟

شهدت الجمهورية الإيطالية تحولًا تاريخيًا في مزاج الناخبين، وذلك في الانتخابات البرلمانية التي عُقدت يوم 25 سبتمبر 2022؛ فقد فاز حزب إخوة إيطاليا بـ 119 مقعدًا من أصل 400 مقعد يتألف منها مجلس النواب، معززًا تفوق ائتلاف اليمين الذي حصد 237 مقعدًا أمام ائتلاف اليسار الذي حصد 85 مقعدًا.

وحلت حركة النجوم الخمس في الترتيب الثالث بــ 52 مقعدًا، لتخسر 175 مقعدًا دفعة واحدة عن البرلمان السابق، وتتحول الحركة التي كانت في السنوات الأخيرة الحزب الحاكم وصانعة الحكومات في إيطاليا إلى صفوف المعارضة وتحتل المركز الخامس في ترتيبات الأحزاب داخل البرلمان.

ومع الفوز التاريخي لحزب إخوة إيطاليا، وتأهب السيدة جورجيا ميلوني لتشكيل الحكومة لتصبح أول سيدة تشكل الوزارة الإيطالية؛ بدأت بيوت السياسة ومراكز الأبحاث في الغرب التحذير من موجة صعود جديدة للتيار القومي في الغرب وربطها بالفاشية الإيطالية والنازية الألمانية اللتين تسببتا في اندلاع الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين.

موجة جديدة لليمين القومي

كانت إيطاليا قد شهدت خلال الانتخابات العامة السابقة عام 2018 صعودًا مماثلًا لليمين القومي عبر حزب الرابطة برئاسة ماتيو سالفيني، وقد شارك حزب الرابطة في حكومتي جوزيبي كونتي وماريو دراجي، وحصد سالفيني منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية عامي 2018 و2019، وحاول باستقالته عام 2019 الذهاب إلى انتخابات مبكرة ولكنه فشل.

ويعود صعود الرابطة الإيطالية عام 2018 إلى أحداث سياسية عصفت بالعالم عقب الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت التجارة الدولية ما بين عامي 2008 و2013؛ إذ ضجرت الشعوب الغربية من القوى السياسية التقليدية، سواء اليمين المحافظ أو الوسط الليبرالي واليسار الاشتراكي إضافة إلى الخضر، وتقاربت القوى الأربع لتشكل بوتقة نيوليبرالية دائمة للعولمة الرأسمالية، وسعت الشعوب الأوروبية إلى البحث عن بديل وطني وأيديولوجي جديد، وكان الوطنيون والقوميون حاضرين في الاضطرابات الشعبية التي اجتاحت أوروبا وأمريكا وبعض المناطق الأخرى في العالم على وقع الأزمة الاقتصادية العالمية.

وقام القوميون من رحم تلك الأزمة العالمية بتشكيل أحزاب قومية شكلت الموجة الأولى من صعود التيار القومي عالميًا ما بين عامي 2016 و2020، ممثلة في تيار بريكست وحكومة بوريس جونسون في بريطانيا، وصعود الترامبية ودونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى المكاسب الانتخابية الضخمة لحزب البديل الألماني والرابطة الإيطالي وفوكس الإسباني، وانتخاب الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري وحزب التجمع الوطني الفرنسي برئاسة مارين لوبان.

وشكل صعود الدولة الوطنية على أنقاض الإسلام السياسي في الشرق الأوسط واحد من مظاهر صعود التيار الوطني القومي على مستوى العالم، إضافة إلى صعود القوميين الهنود برئاسة ناريندرا مودي وحزب الإنصاف الباكستاني برئاسة عمران خان والانفصاليين في اسكتلندا وكتالونيا، وحزب المستقبل الإسرائيلي برئاسة يائير لابيد وحزب الشعب النمساوي برئاسة مستشار النمسا سيباستيان كورتس.

ولكن المد القومي تعرض عام 2020 إلى انتكاسة ضخمة، سواء مع اندلاع أزمة كورونا، أو خسارة ترامب لانتخابات الرئاسة في نوفمبر 2020 وما تبعه من صعود للتحالف النيوليبرالي ضد التيار القومي. ولكن خلال عام 2022، بدأت الموجة القومية الثانية، على وقع سياسات الغرب في معاقبة روسيا، وآثار الحرب الأوكرانية، وضعف معالجة الحكومات لآثار كورونا، إضافة إلى أزمات الإغلاق الكبير عام 2020 ثم التضخم العالمي عام 2021 والركود العالمي عام 2022 وبوادر انهيار سوق السندات العالمي في سبتمبر 2022 إضافة إلى تسجيل كورونا لحضور قوي عبر متحورات دلتا وأوميكرون وغيرها.

ووسط هذه الأزمات الدولية، ضجرت الشعوب الغربية من سياسات احتواء اللاجئين سواء من الشرق الأوسط أو من أوكرانيا، أو محاولة الحكومات النيوليبرالية أن تفرض أنماطًا ثقافية تنتمي إلى قواميس الصوابية السياسية وقيم العولمة دون مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية وحتى الدينية لكل مجتمع.

لذا صعد حزب إخوة إيطاليا في انتخابات 2022 بشعار “الله.. الوطن.. العائلة”، ومهاجمة ما أسموه “لوبي المثليين” و”لوبي الهجرة الجماعية”؛ وذلك في ضوء محاولة دوائر العولمة الترويج للشذوذ الجنسي والإجهاض وتفكيك الشكل التقليدي للأسرة من أجل تمجيد العابرين جنسيًا ومرضى البيدفيليا ومزدوجي الجنس.

تلك الأفكار التي يروج البعض أنها تعبر عن الغرب كانت في واقع الأمر أهم قضية انتخابية في إيطاليا 2022 ولاحقًا في انتخابات الكونجرس الأمريكي نوفمبر 2022، حيث أصبحت أجندة المنصات الرقمية نتفليكس وامازون وديزني هي موضع النقاشات الغربية، وأظهرت الشعوب الغربية رفضًا لهذا الخروج عن الفطرة السوية عبر انتخاب من سوف يوقف الترويج لهذه القيم سياسيًا واقتصاديًا.

وقد سارعت دوائر العولمة، خاصة الجناح الفكري لها سواء النيوليبراليين أو مؤيدي قواميس الصوابية السياسية، في مهاجمة التيار الوطني القومي منذ بدء صعوده عام 2008 في ميادين الاضطرابات ضد النظام العالمي عقب الانهيار الاقتصادي الذي جرى في سبتمبر 2008.

وكان نعت التيار القومي بالمتطرف والفاشي والنازي هو خط الدفاع الأول للقوى السياسية التقليدية أمام ظهور الحركات السياسية الجديدة، والزعم بوجود روابط سياسية وأيديولوجية بين اليمين القومي والمستشار الألماني أدولف هتلر ورئيس الوزراء الإيطالي بينيتو موسوليني.

ولعل الربط بين اليمين القومي من جهة والفاشية والنازية من جهة أخرى يعكس جهلًا أيديولوجيًا؛ إذ إن بينيتو موسوليني مؤسس الفاشية الإيطالية كان تلميذًا أيديولوجيًا للماركسي الشيوعي تشارلز بيجوي، وكان يساريًا طيلة حياته، وعضوًا نشطًا في الحزب الاشتراكي الإيطالي قبل أن يؤسس حزبه الفاشي، وحينما حكم جمهورية إيطالية صغيرة ما بين عامي 1943 و1945 أطلق عليها جمهورية إيطاليا الاشتراكية.

أما أدولف هتلر فإن أفكاره وأفكار حزبه انتسبت إلى الاشتراكية، فالحزب النازي هو حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني الذي نادى بتطبيق اشتراكية صارمة. وهكذا فإن فكرة تسبب صعود اليمين القومي في اندلاع الحرب العالمية الثانية هي كذبة أيديولوجية وسياسية، فالفاشية الإيطالية والنازية الألمانية هما أفكار يسارية وليست يمينية أو قومية.

وفي ضوء هذه الحقيقة التاريخية، فإن محاولات الربط بين حزب إخوة إيطاليا ومن قبله حزب الرابطة الإيطالية من جهة، وبينيتو موسوليني من جهة أخرى هي دعاية كاذبة، استغلت تصريحًا أدلت به جورجيا ميلوني إبان مراهقتها بأنها معجبة بموسوليني. ولكن بعيدًا عن هذا التصريح، فإن حزب إخوة إيطاليا وسياسات ميلوني طيلة ترؤسها للحزب أو عملها الوزاري كانت بعيدة عن الفاشية الإيطالية بجذورها الشيوعية، وكذا حزب الرابطة الإيطالية.

البرنامج الانتخابي لائتلاف اليمين

ويضم ائتلاف اليمين، إلى جانب حزبي إخوة إيطاليا والرابطة، حزب تحيا إيطاليا برئاسة إمبراطور الإعلام ورجل الأعمال والزعيم التاريخي لليمين التقليدي الإيطالي سيلفيو برلسكوني الذي شكل الحكومة الإيطالية ثلاث مرات من قبل. وتتضمن أفكار الحزب، إلى جانب التصدي للاستعمار الثقافي وحرب الأفكار المتعلقة بالعولمة النيوليبرالية والصوابية السياسية، معارضة توجهات الاتحاد الأوروبي بمقاطعة الغاز والنفط الروسي، والبدء في مفاوضات مع روسيا من أجل إعادة الغاز إلى ثالث أقوى اقتصاد في أوروبا.

وتضم الأجندة الطموحة لليمين القومي الإيطالي كذلك تنظيم استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي على نمط البريكست البريطاني، إضافة إلى سلسلة من التفاعلات الاقتصادية للخروج من منطقة يورو والعودة إلى الليرة الإيطالية. وتتضمن كذلك معارضة النفوذ الفرنسي في ليبيا، والعمل على ضرب وجود الإسلام السياسي خاصة النفوذ التركي في الأراضي الليبية والأفريقية، والتوقف عن توطين عناصر الإسلام السياسي في إيطاليا تحت مسمى اللاجئين أو تمكين ودمج الأقليات الافريقية.

ومن المرجح أن يعود ماتيو سالفيني إلى مجلس الوزراء نائبًا لجورجيا ميلوني ووزيرًا للداخلية، ولكن من غير المتوقع أن يشغل سيلفيو برلسكوني منصبًا وزاريًا، وإن كان يسعى إلى اختتام حياته السياسية الحافلة بأن يترشح إلى منصب رئيس الدولة الشرفي في انتخابات 2029، وإن كان البعض يرجح أن يتقدم الرئيس الحالي سيرجيو ماتاريلا باستقالته في المستقبل القريب.

وكان سيرجيو ماتاريلا قد انتخب لولاية ثانية في يناير 2022، بعد سبع جولات فاشلة في البرلمان الإيطالي لانتخاب رئيس للدولة، وغاب سيرجيو ماتاريلا عن الجولات السبع واستجاب لتوسلات النخب الإيطالية بالترشح في الجولة الثامنة من أجل تجنب حل البرلمان.

تخوف فرنسي وألماني

مع صعود حزب ديمقراطيي السويد، ثم إخوة إيطاليا، إلى جانب حكومات اليمين القومي في النمسا والمجر وصربيا، تتخوف أوروبا من مد قومي ثانٍ يهدد باريس وبرلين على وجه التحديد. وكانت الانتخابات البرلمانية الفرنسية قد انتهت بخسارة حزب النهضة الموالي للرئيس إيمانويل ماكرون للأغلبية البرلمانية، مقابل حزب التجمع الوطني برئاسة مارين لوبان وائتلاف اليسار برئاسة جان لوك ميلانشون، وشكلت إليزابيث بورن حكومة أقلية بينما يحاول ماكرون ألا يذهب إلى خيار حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة قبل ترميم شعبيته، بينما ينظر بعض المراقبين إلى ماكرون بوصفه آخر رئيس للجمهورية الخامسة، وأن الجمهورية الفرنسية السادسة سوف تكون بين اليمين القومي واليسار الجديد بعد انهيار الثنائية التي حكمت الجمهورية الخامسة بين اليمين الديجولي واليسار الاشتراكي.

انهيار الثنائيات الحاكمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعدها له جذور لما قبل الحربين هو الهاجس الأساسي في الغرب اليوم، في ضوء صعود القوى القومية واليسارية والانفصالية الجديدة. أما في ألمانيا، فإن الائتلاف الثلاثي يتخوف من الغضب الشعبي في ضوء حقيقة أن ألمانيا هي الأكثر تأثرًا بالعقوبات الغربية على روسيا وأثار الحرب الأوكرانية وتوطين قرابة مليون لاجئ أوكراني سبقهم قرابة مليون ونصف لاجئ من “دول الحرب على الإرهاب والربيع العربي”.

وإذا كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قد نجحت في إخماد الفتنة الترامبية في حزبها حينما سلمت قيادة الحزب المسيحي الديمقراطي إلى الجناح المعتدل –وفقًا للأدبيات الألمانية– على حساب الجناح القومي، وتحديدًا أرمين لاشيت، على حساب فريدرش ميرتس ووزيرة الدفاع انجريت كرامب كارينباور، فإن خسارة لاشيت الانتخابات البرلمانية عام 2021 قد فتح الباب أمام انتخاب فريدرش ميرتس رئيسًا للحزب في 31 يناير 2022.

ويسعى ميرتس أو “ترامب ألمانيا” كما يطلق عليه إلى توظيف الآثار السياسية والاقتصادية للحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا من أجل الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة وإسقاط حكومة المستشار أولاف شولتس التي تمثل ائتلافًا نيوليبرالي بين الأحزاب الاشتراكي والخضر والليبراليين.

ولا يخفى على أحد أن اليمين القومي في الحزب الجمهوري الأمريكي أو الترامبيين ينظرون إلى انتصارات القوميين في إيطاليا والسويد بوصفها دعمًا معنويًا وجماهيريًا لهم في انتخابات الكونجرس نوفمبر 2022. وهكذا فإن انتصار اليمين القومي في إيطاليا ينتظر أن تكون له ارتدادات في ثلاث عواصم رئيسة في الغرب: واشنطن، وباريس، وبرلين، ما يعني استمرار الحرب الأيديولوجية في الغرب بين القوميين والنيوليبراليين.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى