
الدوافع والتداعيات المحتملة لخطاب “لابيد” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة
مثّل خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي “يائير لابيد” صدمة في الأوساط السياسية والمجتمعية في إسرائيل؛ إذ أكد على تبنيه حل الدولتين في حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وعدّه الحل الأمثل لضمان أمن إسرائيل. وترتسم مجموعة من الدوافع السياسية والاستراتيجية في خطاب لابيد، ويُحتمل ظهور تداعيات لهذا الخطاب الفريد.
دوافع متعددة الأبعاد
فرضت مجموعة من المتغيرات التي طرأت على إسرائيل في عدة جبهات، تمثلت في مجموعة من الدوافع التي حددت الخطاب الإسرائيلي الرسمي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة:
- الضفة الغربية
ويُعنى بالضفة الغربية أمرين اثنين هما: السلطة الفلسطينية، والشارع الفلسطيني في الضفة الغربية. تقول نتائج استطلاعات الرأي الفلسطينية في الأشهر الأخيرة وبالتحديد في بداية عام 2022، هناك ميلًا واسعًا لتبني المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة ضد الإسرائيليين. في حين حملت حكومة بينيت-لابيد منذ تقلدها السلطة على عاتقها ضرورة تقوية السلطة الفلسطينية في الضفة درءً للفوضى الشعبية المحتملة.
أما الشارع الفلسطيني، فمنذ بداية 2022 واندلعت مواجهات متفرقة في جميع أنحاء الضفة تقريبًا، وتعدت الخط الأخضر لتصل إلى المدن اليهودية الإسرائيلية. على إثرها أطلقت إسرائيل عمليتها العسكرية كاسر الأمواج في نهاية مارس 2022، والتي تحققت من اتجاهات المقاومة المسلحة الفلسطينية ضد الإسرائيليين.
وتعتقد إسرائيل أن خطاب حل الدولتين في الأمم المتحدة يحمل آفاقًا وآمالًا سياسية للفلسطينيين قد يتسبب في الحد من انتشار ظواهر المقاومة المسلحة في الضفة.
- السلوك الانتخابي للمجتمع العربي في إسرائيل
تشير نتائج استطلاعات الرأي بين عرب الداخل عزوفهم عن المشاركة في الانتخابات القادمة؛ لدوافع عديدة من بينها غياب الاتجاهات الإيجابية في الحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه المجتمع العربي الطامح لحلول اقتصادية ترفع من كفاءته المعيشية، والطامح كذلك لأفق سياسي باتجاه حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وتقدر إسرائيل أن منح المجتمع العربي آفاقًا سياسية واقتصادية إيجابية قد يدفعه إلى العدول عن موقفه وبالتالي التصويت في الانتخابات القادمة؛ كون عزوف العرب عن التصويت يمنح فرصًا أكبر لبنيامين نتانياهو.
- الصورة الإقليمية
صرّح المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي “أنور قرقاش” أن على الدول العربية المُطبعة مع إسرائيل إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل عقب التصعيد الإسرائيلي العسكري في الضفة الغربية وغزة الشهر الماضي. وعبّرت كذلك دول عربية أخرى عن استيائها من غياب خطوات إسرائيلية سلمية تجاه حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا تزال تؤكد مصر أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هو بؤرة عدم الاستقرار الأمني في المنطقة.
لذلك عبّرت الإشارة اللفظية الأخيرة لإسرائيل في الأمم المتحدة (أي كلمة يائير لابيد أمام الجمعية العامة) إلى تبنيها حل الدولتين كأساس لحل القضية الفلسطينية؛ أملًا في تحقيق صورة إقليمية إيجابية قد تسهم في ترسيخ التطبيع وتقدمه مع دول عربية جديدة. وهو ما انعكس في تصريح وزير خارجية السعودية الذي رأى الخطاب إيجابيًا “في حال تمت ترجمته إلى أفعال”. علاوة على ذلك، ترغب إسرائيل ترسيخ العلاقة مع الأردن بهدف التعاون على ضبط الوضع الأمني في الضفة الغربية، وبالتحديد في مناطق المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية.
- الصورة الدولية
حقّقت إسرائيل اختراقًا دبلوماسيًا في ملف الاتفاق النووي الإيراني مع دول الترويكا (ألمانيا – فرنسا – المملكة المتحدة) ومع الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ نجحت إسرائيل نسبيًا في التشديد على أهمية المراقبة على الأنشطة النووية والأنشطة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط. لكن تظل تلك الدول تنظر بريبة إلى الخطوات الإسرائيلية في حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولذلك يمنح خطاب يائير لابيد اقترابًا مهمًا للمحددات العلاقات الإسرائيلية مع الدول الأوروبية ومع الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة.
ويمنح كذلك اقترابًا مهمًا في تنسيق الجهود بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة الايباك اليهودية؛ إذ تعقد الأخيرة حملة سياسية مع أعضاء الكونجرس الديمقراطيين والجمهوريين اتساقًا مع الانتخابات النصفية للكونجرس. من جهة أخرى، شجّع يائير لابيد الدول العربية والإسلامية “من إندونيسيا إلى السعودية” –من خلال خطابه في الأمم المتحدة- على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
- الهوية الإسرائيلية
نشر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي INSS رؤيته البحثية تجاه مجموعة من التحديات الوجودية التي تواجهها إسرائيل. وأكد مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” سابقا “تامير هايمان” أن التحدي الوجودي الأول هو فقدان إسرائيل لهويتها الديمقراطية اليهودية تحت شعار حل الدولة الواحدة؛ إذ يعني القول في هذا السياق إن خطاب يائير لابيد يتسق مع مدركات النخبة العسكرية الإسرائيلية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي ينعكس في الوضع الأمني بالضفة الغربية وعلى أمن المستوطنين.
التداعيات المحتملة
قد يتسبب تشجيع رئيس حكومة إسرائيل لحل الدولتين في تداعيات عديدة محتملة، يمكن توضيح أبرزها فيما يلي:
- المزاج العام الإسرائيلي
ذكر يائير لابيد أن غالبية الرأي العام الإسرائيلي يؤيد حل الدولتين، على الفور سارعت القنوات والمراكز البحثية الإسرائيلية في عقد استطلاع رأي بين الإسرائيليين للوقوف على حقيقة المزاج الإسرائيلي العام تجاه حل الدولتين. تبين أن 32% فقط من الإسرائيليين يؤيدون حل الدولتين فيما يعارضه 48%، وفي بعض الاستطلاعات عارضه 49% ووافق عليه فقط 23% من الإسرائيليين المستطلع آرائهم.
في الواقع، ليس هناك ما يؤكد أن الإسرائيليين يرون في حل الدولتين حلًا واقعيًا أو قابلًا للتحقق في المستقبل. ويعني ذلك أن لابيد قد يواجه أزمة سياسية مع المجتمعات اليهودية الرافضة لحل الدولتين، ولكن مغامرته تسير باتجاه الرهان على المجتمع العربي للتصويت للمعسكر الوسط-اليسار بقيادة لابيد.
- المجتمع الحريدي
لم ينجح لابيد حتى الآن في ربط قاعدة شعبية له داخل المجتمع الحريدي؛ إذ ما زالت أسعار الشقق والوحدات الاستيطانية لا تصل إلى المستوى المعقول مقارنة بالوضع الاقتصادي للحريديم، وكذلك لا يزال معدل الفقر مرتفعًا للغاية بين شباب الحريديم.
تنتشر بين المجتمع الحريدي حركات اجتماعية-سياسية متطرفة مثل حركة بن جفير التي ترفض أي حق سياسي للفلسطينيين. لا يوافق بن جفير الائتلاف مع يائير لابيد ويراه مدافعًا عن وجود الدولة الفلسطينية. من ناحية أخرى، كانت الأحزاب الدينية المتطرفة قد صرّحت اعتزامها عدم رفض الائتلاف مع معسكر لابيد، ولكن من المحتمل بعد تصريح لابيد أن يعدل الساسة الحريديم عن موقفهم السابق.
- تنامي أسهم زعيم المعارضة “نتنياهو”
جعل زعيم المعارضة ومعسكر اليمين المتطرف من خطاب لابيد موضوعًا مركزيًا لخطابه السياسي؛ بهدف الحشد السياسي داخل المجتمع الحريدي والمجتمع القومي الديني في إسرائيل قبيل الانتخابات العامة في نوفمبر. مما قد يعني تزايد فرص نجاح نتنياهو في نتائج الانتخابات القادمة.
ختامًا، يمكن القول إن خطاب يائير لابيد يظل في إشارته اللفظية التي لا تؤكدها مؤشرات قوية حتى في أدنى مستوياتها في شكل العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ إذ تعاني الأخيرة من استمرار أزمة المقاصة الضريبية. ولكن يحمل هذا الخطاب عددًا من الدوافع ترتسم في شكل المغامرة السياسية والاستراتيجية على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. وقد تتسبب في تداعيات سلبية على فرص نجاح يائير لابيد في الانتخابات القادمة.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية



