إيران

مظاهرات إيران: ارتدادات الثيوقراطية

في خطوة لامتصاص الغضب الشعبي الذي فشلت قوات الأمن الإيرانية في السيطرة عليه ووصل إلى اقتحام مقرات للحرس الثوري بالأمس، وجه الرئيس الإيراني الذي عاد لتوه من نيويورك بفتح تحقيق في كواليس مقتل الشابة الإيرانية ذات الأصول الكردية “مهسا أميني” بسبب العنف الذي مارسته ضدها شرطة الأخلاق بعد أن أشارت التقارير المبدئية إلى أن الفتاة توفيت جراء كسر في الجمجمة.

الحادثة اندلعت على أساسها احتجاجات عمّت البلاد، لم تستهدف فقط التنديد بمقتل الفتاة جراء ممارسة العنف، ولكنها فتحت الباب واسعًا أمام العديد من الأطروحات داخل المجتمع الإيراني والتي من أهمها التساؤل حول أهمية وشرعية وجود “شرطة أخلاق” من الأساس. ومن هذا المنطلق، تنبغي الإشارة إلى ماهية شرطة الأخلاق من حيث النشأة والدور داخل المجتمع الإيراني.

شرطة الأخلاق الإيرانية

بالنسبة لتوصيف شرطة الأخلاق الإيرانية والتي تعرف أيضًا باسم “دوريات التوجيه”، فهي عبارة عن جهة إنفاذ قانون باستخدام القوة، وتتميز بقدرتها على الوصول لأماكن الاحتجاز للإبقاء على المتهمين فيها. ومما يثير الاندهاش أن شرطة الأخلاق تمتلك أيضًا مراكز لإعادة تأهيل المقبوض عليهم حسب مدة حكمهم. وتستهدف القوة بشكل أساسي تقويم الرجال والنساء غير الملتزمين بالزي الإسلامي أو بعبارة أخرى يخرقون قواعد الاحتشام.

وفي الوقت الذي تختص فيه مراكز إعادة التأهيل بإيصال دروس محملة بمضامين دينية للمحكومين لتقويم سلوكهم، يُشترط لإطلاق سراحهم التوقيع على ورقة يؤكدون خلالها التزامهم بمعايير الاحتشام والزي الإسلامي. وعلى الرغم من أن مراكز شرطة الأخلاق لا تستند إلى أي نص قانوني، فإنها تعدت منذ إنشائها على عدد لا يحصى من النساء، ولكن لم تسجل حالات قتل جراء ممارسة العنف ضدهن. 

وتكمن الأزمة الحقيقية لما يعرف بدوريات التوجيه في أنها لا تستند في حد ذاتها إلى الشريعة الإسلامية كمصدر –رغم كون ذلك سيظل غريبًا- ولكنها تستند إلى تفسير النظام الثيوقراطي في إيران للشريعة الإسلامية بما يتضمنه من فهم ضيق أو مختلف، بمعنى آخر فإنها تؤكد على احتكار النظام أو السلطة في إيران لما هو ديني ولما هو غير ديني بما يتضمن شكلًا من أشكال الوصاية على المجتمع، وهي الوصاية التي اختفت في نوعها وقدرها منذ القرون الوسطى. من ناحية أخرى، لا تتوفر لشرطة الأخلاق شروط معينة توصّف اللباس المحتشم، ومن ثم فإن الأمر متروك لمسـألة التقدير الشخصي، مما يجعل الوضع أكثر تأزمًا.

هل الحالة الإيرانية متفردة؟

بالنظر إلى أوضاع حقوق الإنسان في إيران، نجد أنها قريبة الشبه بمثيلاتها من الأنظمة الثيوقراطية التي يصعب فيها الحديث عن حقوق الإنسان في حال مقارنة تلك الحقوق مع تشريعات دينية معينة، ولكن خصوصية الحالة الإيرانية تكمن في أن البلاد تعاني من تردي الأوضاع الاقتصادية متأثرة بممارسات النظام على مستوى المد الميليشياوي وعلى مستوى تطوير سلاح نووي.

وعلى الرغم من أن بعض التفسيرات تجد أن مقتل “مهسا أميني” ليس محركًا كافيًا لخروج مظاهرات بهذا الحجم وتُرجع الأمر إلى احتقان المجتمع الإيراني الذي وجد الدافع أو المبرر في مقتل الفتاة، فإنه لا يجب التقليل من أهمية الحدث، على الأقل على صعيد الداخل الإيراني من الناحية الإنسانية؛ لأنه يتضمن تبريرًا للدول الكبرى التي أصدرت إدانات للحدث ولكنها لم تتخذ إجراءات عقابية تذكر ضد النظام الإيراني. 

ومما يستدل به على ذلك أن المظاهرات الحالية لم تخرج للمطالبة بمطالب سياسية على سبيل المثال- صحيح أن المتظاهرين أطلقوا هتافات ضد المرشد الأعلى- وهو الأمر الذي يقلل من جانب آخر من أهمية التصريحات التي أطلقتها السلطة في إيران والتي تضمنت أن المظاهرات تدار من خلال سفارات دول أجنبية.

ومن هنا يمكننا أن نفهم أن ثقافة الشعب الإيراني ليست متقاربة مع النظام الديني الذي يحكمه منذ الثورة الإسلامية في عام 1979، وذلك لأن “مهسا أميني” مورس العنف ضدها باسم شرطة الأخلاق التي تلزم النساء والرجال بالزي الشرعي؛ ومن ثم فإن أصل الأمور في التوجه الديني للنظام الإيراني.

انعكاسات التوقيت

لم تستطع السلطة في إيران السيطرة على المظاهرات التي اجتاحت عموم البلاد حتى بعد أن أسقطت حوالي 35 قتيلًا، مما وضع علامات استفهام حول اختلاف هذه الاحتجاجات عن سابقاتها التي تمكن النظام الإيراني من إخضاعها على الرغم من أنها كانت بدوافع سياسية. ويمكن تفسير ذلك من خلال أن النظام الإيراني بصدد حالة يحاول خلالها إعادة إنتاج الشرعية العقائدية بعد توارد الأنباء عن وجود خلافات داخل النظام الإيراني كانت سابقة ومتزامنة لما تم تداوله عن تدهور الحالة الصحية للمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، خصوصًا أن نسبة غير قليلة من الإيرانيين باتت تنظر إلى النظام الحاكم هناك بوصفه يمثل عقائدية عسكرية لا تتشابه في مجملها مع جموع الشعب الإيراني. 

وبالتالي فإن الحل المتبقي أمام النظام الإيراني هو ممارسة العنف المفرط ضد المتظاهرين، وهو ليس بالقرار السهل. من ناحية أخرى، فإن المراقب لتصريحات الدول الغربية التي اعتادت التنديد بأوضاع حقوق الإنسان يلاحظ أن ردود الأفعال الحالية أقل من المتوقع؛ ويعزى ذلك إلى عدد من النقاط التي يمكن إجمالها في انشغال القوى الكبرى بأزمات اقتصادية ضخمة نجمت عن الحرب الروسية- الأوكرانية، وانصباب الاهتمام على البحث لمخرج لهذه الأزمات، خصوصًا في ظل استمرار حالة الحرب بل تصعيدها.

كذلك؛ فإن مجموعة 5+1 لم تفقد الأمل تمامًا في الاتفاق النووي بعد، ولا تزال تبحث عن الخروج بصفقة تمنع إيران من تطوير سلاح نووي. وبطبيعة الحال، فإن التنديد بأوضاع داخلية في إيران الآن ليس مطلوبًا. مع الأخذ بالحسبان أن النظام الإيراني يعاني اقتصاديًا من عقوبات بلغت مداها الأقصى منذ فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والضغط في هذا الاتجاه قد يؤدي إلى انفجار الأمور داخل إيران بشكل تصعب السيطرة عليه، مما سينجم عنه العديد من المخاطر على المستويات الأمنية تحديدًا بطريقة تشكل تهديدًا عالميًا.

ومن الناحية الأهم على المستوى الداخلي، فإن الاحتجاجات في إيران تأتي بالتزامن مع التعيينات التي أقرها المرشد الأعلى بخصوص مجلس تشخيص مصلحة النظام وغياب بعض الشخصيات عن التعيينات ومنها الرئيس السابق حسن روحاني، وما يحمله ذلك من رسائل، من ضمنها الإبقاء على أحمدي نجاد الرئيس الأسبق ضمن تشكيلة المجلس على الرغم من اتباعه لمنهج مضاد للسلطات في إيران في السنوات التي تلت توليه للرئاسة ولكنه كان من الذين اتخذوا مواقف متشددة حيال الملف النووي الإيراني في فترة ولايته، ويعطي ذلك مؤشرات على اتجاهات النظام الإيراني بخصوص الصفقة النووية خلال الفترة القادمة .

مما سبق، فإن نواحي التفرد في الأحداث التي تجري حاليًا في إيران متعددة، ويضاف إلى ما تمت الإشارة إليه سلفًا أنه حتى على المستوى النوعي كانت هناك مشاركات ضخمة من العنصر النسائي في المظاهرات مما يعني أن المرأة الإيرانية تخطت حاجز الخوف من النظام الديني في إيران؛ خصوصًا أن عددًا كبيرًا منهن قمن بخلع الحجاب وقص شعورهن بل حتى إشعال النار في غطاء الرأس، وفي ذلك منعطف مهم يطعن في شرعية النظام الإيراني من الناحية العقائدية، ويوحي بأن أركان النظام الديني لم تعد مستقرة مثلما كان الحال. مما يتطلب من النظام مناورة من نوع آخر، تتضمن تراجعًا عن ممارسات الشرطة الأخلاقية كاتجاه متطرف أو مذموم في الداخل الإيراني، ولكن مرة أخرى سيعني ذلك أن السلطة الإيرانية خسرت المعركة أمام المتظاهرين؛ وتلك هي المعضلة الكبرى لأن النظام الإيراني لا يعرف كيف يخسر. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى