
إجراءات مصر للتقشف وخطط إنقاذ محدودي الدخل
صرحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في يونيو 2022 بأن الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة والغذاء التي تفاقمت معها سيؤديان إلى تراجع حاد في النمو الاقتصادي العالمي ورفع مستويات التضخم هذا العام. يبدو أن العالم، الذي لا يزال يعاني من الآثار السلبية على الاقتصاد بسبب أزمة وباء كوفيد-19 التي نتج عنها تباطؤ في معدلات النمو خلال العامين الأخيرين، يتعرض للمزيد من التهديدات الاقتصادية بسبب الحرب التي بدأت في فبراير 2022.
تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يتوسع الاقتصاد العالمي بنسبة 3٪ في عام 2022، انخفاضًا من 4.5٪ التي توقعتها في ديسمبر 2021. ومن المتوقع كذلك أن يبلغ معدل التضخم حوالي 9٪، أي ما يقرب من ضعف التقدير السابق، في الدول الأعضاء للمنظمة والبالغ عددهم 38 دولة، والتي تشمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والعديد من الدول الأوروبية.
جلبت الحرب بين روسيا وأوكرانيا صدمة كبيرة لأسواق الغذاء العالمية؛ فارتفع مؤشر أسعار السلع الغذائية للبنك الدولي ووصل إلى مستوى قياسي بالقيمة الاسمية خلال الفترة من مارس إلى أبريل 2022، بنسبة 15٪ مقارنة بفترة ما قبل الحرب مباشرة، وأكثر من 80٪ أعلى مما كان عليه قبل عامين. وارتفعت أسعار الغلال الاساسية ومنها القمح والذرة والعديد من زيوت الطعام؛ إذ إن أوكرانيا وروسيا من أهم المصدرين لهذه السلع. وأضافت خسائر الحرب إلى الارتفاع الواسع النطاق في أسعار السلع الأساسية الذي بدأ في منتصف عام 2020 مع العديد من قيود سلسلة التوريد والطلب المتزايد. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار المواد الغذائية بنحو 20٪ هذا العام قبل أن تتراجع في عام 2023.
وتشمل المخاطر المتوقعة: المزيد من اضطرابات الإمدادات، وارتفاع تكاليف المدخلات، وقيود السياسة. وتنتظر أوروبا شتاءً قد يكون هو الأسوأ منذ عقود، مع تضرر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وتأثر إمدادات الغاز الطبيعي الموجهة لقطاعات عدة منها التدفئة. مع تزايد الصعوبات الاقتصادية العالمية. وبناء على ذلك، انتهجت دول عدة خططًا للترشيد؛ بهدف تقليل حجم الأضرار على فئات الشعب المختلفة، بهدف حمايتهم.
خطة ترشيد شاملة
قررت الدولة المصرية، بالتوازي مع الأزمة الاقتصادية العالمية، أن تتبنى عدة خطط تهدف إلى حماية طبقات الشعب من المضاعفات المختلفة، خاصة طبقة محدودي الدخل. واتخذت الحكومة إجراءات منهجية لترشيد استهلاك الطاقة والمياه، على سبيل المثال. إذ كشف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في 9 أغسطس من العام الجاري 2022، عن خطة الحكومة لخفض وترشيد استهلاك الطاقة والمياه على الصعيد الوطني وسط أزمة الطاقة العالمية.
وأكد رئيس الوزراء أن الحكومة تعمل على ترشيد الطاقة لتوفير الغاز الطبيعي لإعادة توجيهه للتصدير وزيادة مصادر النقد الأجنبي في مصر خلال الأزمة غير المسبوقة للطاقة خاصة بعد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. أوضح كذلك أن هدف الدولة من توفير الكميات الكبيرة المستهدفة من الغاز يكمن في أهمية الحصول على العملات الأجنبية لاستخدامها في تقليل الخسائر المترتبة من تفاقم الوضع الاقتصادي في مصر والعالم.
وكذلك كشف وزير الإسكان عاصم الجزار في وقت سابق عن توجيهات لوزارته بدراسة خطة لترشيد استهلاك الطاقة والمياه. بعدها تم نشر هذه الخطة المتعلقة باستهلاك الطاقة والكهرباء، والتي بدأ تفعيلها اعتبارًا من يوم 11 أغسطس 2022.
ونصت الخطة على عدة أوجه، منها تطبيق إعدادات التوقيت الصيفي في المولات التي تتضمن الغلق الساعة 11 مساءً. وتضمنت عدم إضاءة واجهات المباني الحكومية ليلًا، وعدم إنارة المباني الحكومية بعد الدوام الرسمي باستثناء القطاعات الخدمية. ونصت كذلك على تقليل إنارة الشوارع والساحات. كذلك عدم تثبيت المكيفات المركزية على درجات حرارة أقل من 25 درجة في المباني والمجمعات التجارية. وفعلت الخطة إجراءات خاصة للحد من إنارة النوادي والملاعب والمؤسسات الرياضية عن طريق توحيد استخدام مصابيح من نوع LED الأمامية الموفر للطاقة في إضاءة جميع الملاعب ونوادي الشباب الرياضية.
تحديات استمرار الأزمة
تشير جميع التحليلات الاقتصادية إلى عدم وضوح مدة استمرار الأزمة، وهو ما دفع رئيس الوزراء إلى التصريح بأن للمواطنين والحكومة دورًا في ترشيد استخدام الطاقة. كانت مصر قد غيرت من طريقة تعاملها مع موارد الطاقة والكهرباء بعد معاناة المواطن لسنوات من انقطاع التيار الكهربائي بالساعات. إلا أن الوضع حاليًا أفضل بعد التطوير الضخم في القطاع. ففي بيان رسمي على لسان المتحدث لوزارة الكهرباء المصرية في يونيو 2022، أكدت الوزارة بأن فائض الكهرباء في مصر يزيد على 25 في المائة. وبينما يتم توليد معظم الطاقة في مصر من الغاز، تخطط الدولة لزيادة إمدادات الكهرباء المولدة من مصادر متجددة إلى 42٪ بحلول عام 2035.
إلا أن هدف الترشيد يأتي من تأثير الأزمة على مصادر الدخل وارتفاع الأسعار العالمية. فأصبحت الحاجة إلى تقليل استخدام البترول أكثر إلحاحًا وسط ارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء العالم في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية، التي أجبرت مصر في شهر يوليو على رفع أسعار منتجات الوقود بما يصل إلى جنيه واحد للتر في المراجعة ربع السنوية. كان هذا هو الارتفاع الأكبر في أسعار الوقود منذ أكتوبر 2019. كما كان من المتوقع أن يكون هناك زيادة في أسعار الكهرباء هي الأخرى، إلا أن الحكومة المصرية أعلنت تأجيل تلك الزيادة الدورية المقررة، على أن تبدأ العام المقبل في يناير 2023 بدلًا من يوليو 2022 لتخفيف معاناة المواطنين وسط ارتفاع التكلفة المعيشية.
الغاز المستخدم في محطات الكهرباء
بناءً على كل هذه الخطوات، تتضح رؤية الحكومة المصرية في اتجاهها لترشيد استهلاك الغاز في محطات الكهرباء لتحقيق عوائد مالية من تصدير الغاز الطبيعي إلى الخارج، خاصة مع كل تلك الخطوات السابقة خلال الأعوام الأخيرة صوب زيادة الاستكشافات وتحويل مصر إلى بؤرة لتجميع الغاز وتكريره ونقله بالمنطقة، بالإضافة إلى التحديات اللي يواجهها العديد من الدول مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. ومع استهلاك مصر لأكثر من 60٪ من إنتاجها من الغاز الطبيعي في إنتاج الكهرباء، كان من الواجب إعادة النظر في السياسة الاستهلاكية بهدف الاستفادة من النسبة التي من الممكن توفيرها.
وصرح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، بأن الخطة لترشيد استهلاك الغاز بدأت منذ أكتوبر 2021، حيث اتفقت وزارتا الكهرباء والبترول على استبدال الغاز بالديزل في محطات الكهرباء، وذلك بالتزامن مع الإجراءات الاقتصادية الاصلاحية ما بعد أزمة وباء كوفيد 19. إلا أن الوضع زاد سوءًا مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بشكل كبير عالميًا في 2022. علاوة على ذلك، أدى تراجع احتياطيات العملات الأجنبية إلى زيادة الضغط على الدولة.
وتقوم الدولة المصرية بتسعير الغاز الطبيعي للاستخدام المحلي بسعر 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية (MMBtu)، لكنها قد تصل إلى 30 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية إذا تم تصديرها. وهو ما يعني أن أسعار الكهرباء الحالية مدعومة بشكل غير مسبوق يصل إلى عُشر قيمتها الفعلية في السوق العالمية، والسعر الحقيقي أعلى من السعر المطبق على الجمهور بخمسة أضعاف الأسعار الحالية على الأقل.
فالتكلفة الفعلية لإنتاج كيلو وات ساعة واحدة كانت 1.09 جنيه قبل ارتفاع سعر الصرف، وشرائح الاستهلاك الأربعة الأولى لذوي الدخل المنخفض هي 0.48 جنيه، 0.58، 0.77، 0.95 جنيه. ولكن بعد ارتفاع سعر الصرف، ارتفعت التكلفة الفعلية لإنتاج كيلو وات ساعة واحدة من 1.09 جنيه إلى 1.19 جنيه مع احتمال ارتفاعها مجددًا.
ومع هذه التكاليف الإضافية التي تتحملها الدولة، تقرر الاتجاه لترشيد استهلاك الغاز الطبيعي في محطات الكهرباء، بهدف زيادة صادراته وبالتالي زيادة احتياطيات النقد الأجنبي، عوضًا عن فرض المزيد من الزيادات الأخرى على المواطن. وصرحت كذلك الشركة القابضة للكهرباء بأن خطة الترشيد للغاز الطبيعي تشمل الاعتماد المتزايد على الديزل لتشغيل محطات الطاقة البخارية بدلًا من الغاز الطبيعي.
وتهدف الخطة إلى توفير ما بين 22 و25 مليون متر مكعب من الغاز. وتشمل إيقاف وحدات إنتاج الطاقة المستنفذة للوقود واستبدالها محطات أكثر كفاءة في الاستهلاك محلها. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشغيل حوالي 75٪ من محطات الكهرباء التي تنفذها شركة سيمنس، وعلى الرغم من أنها تعمل بالغاز الطبيعي، إلا أنها فعالة في الاستهلاك وتتجاوز كفاءتها 60٪، وهو ما يعتبر كفاءة جيدة نسبيًا.
خطط أخرى للدعم المالي وترشيد الغذاء والمياه
لم تتوقف خطط الدولة المصرية على ترشيد الكهرباء وموارد الطاقة فقط، بل امتدت لتشمل موارد أخرى. فوضعت مصر، التي تعد واحدة من أكثر دول العالم التي تعاني من ندرة المياه، خطة لترشيد استهلاك المياه وتحسين جودة المياه من خلال استراتيجية تستمر حتى عام 2050 بتكلفة تصل إلى 900 مليار جنيه. ودعت الحكومة المصريين إلى ترشيد استهلاك السلع الاستراتيجية لتخفيف عبء العملة الأجنبية على الدولة، لكنها أكدت توافر السلع الأساسية باحتياطات استراتيجية آمنة حتى نهاية العام على الأقل.
ونفذت الدولة كذلك عدة إجراءات للدعم. تضمن الدعم المالي تقديم المساعدة لمؤسسات الأعمال والقطاعات الأشد تضررًا منذ أزمة كوفيد-19، مثل السياحة والصناعة التحويلية. ووضعت الحكومة تسهيلات لتأجيل سداد الضرائب وتوسعات في برامج التحويلات النقدية إلى الأسر الفقيرة والعمالة غير المنتظمة. كما اضطرت الحكومة المصرية لوضع إجراءات جديدة لتنظيم الاستيراد، وذلك سعيًا منها لاحتواء العجز في ميزان المعاملات الذي ارتفع في العام المالي 2020-2021 إلى 18.4 مليار دولار عوضًا عن 11.4 مليار دولار في العام المالي الذي سبقه.
ويبدو أنه مع استمرار الأزمة العالمية الراهنة، لا يوجد مفر من المزيد من الإجراءات التقشفية من قبل حكومات العالم؛ كي تساهم في تقليل حجم المخاطر على المستوى المعيشي للمواطن ولو بصورة نسبية.
باحث ببرنامج السياسات العامة



