آسيا

رسائل الجولة الخارجية الأولى للرئيس الصيني منذ الجائحة

توجه الرئيس الصيني “شي جين بينج” في أول جولة خارجية له منذ بداية جائحة “كورونا” إلى كل من كازاخستان وأوزباكستان، وتأتي تلك الجولة في سياق مليء بالأحداث. فعلى الجانب الخارجي؛ يأتي أبرزها تطورات الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على أسواق الطاقة العالمية، بجانب التصعيد الذي يشهده مضيق تايوان مؤخرًا خاصةً عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” لتايبيه. ويحمل السياق في طياته كذلك التوجه الصيني والروسي لتعزيز الشراكات البينية من ناحية، والشراكات الصينية مع دول آسيا الوسطى في إطار انعقاد قمة منظمة “شنغهاي” للتعاون من ناحية أخرى، والتي جاءت في الوقت الذي تكثف فيه إدارة “بايدن” جهودها لإضفاء الطابع الرسمي على المجموعات الاقتصادية والأمنية؛ استجابة لما تعدّه الولايات المتحدة هيمنة عسكرية واقتصادية متزايدة للصين.

وعلى المستوى الداخلي، تعكس تلك الجولة ثقة “شي” في تمرير المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني المزمع انعقاده في 16 من أكتوبر لقرار توليه ولاية ثالثة لأول مرة بعد تعديل الدستور في عام 2018 ودحر خطط المنافسين في الداخل. ومن المرجح أن الجولة تمثل تأكيدًا أيضًا على نجاح الخطوات التي تتخذها البلاد نحو سياسة “صفر كوفيد” لأنها كانت تتبع سياسة شديدة الصرامة للقضاء على الفيروس خاصةً مع ظهور متحورات عديدة وزيادة عمليات الإغلاق التي كان آخرها في شنغهاي، وهذا ما كان يدفع “شي” لعدم التوجه في زيارات خارجية. ويعد اتخاذه لهذه الخطوة أحد مؤشرات الثقة في خطوات مواجهة الجائحة، والانفتاح التدريجي أمام الوافدين من الخارج مع الالتزام بالحجر الصحي، فقد أثيرت أنباء عن الاستعداد لفتح الأبواب أمام الطلاب الوافدين هذا الخريف.

دعم كازاخستان في مواجهة محتملة مع روسيا

وجه الرئيس “شي” خلال زيارته إلى كازاخستان رسائل ضمنية مفادها الحفاظ على “استقلال وسيادة ووحدة أراضي” كازاخستان، ومعارضة أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، حتى وإن كان من غير المتوقع أن يكون هناك تعامل روسيا سريع مع تلك الجهة في الوقت الحالي لأن كازاخستان من الدول التي تقطن بها أقلية روسية كبيرة تمثل حوالي 18% من السكان، وهو ما يجعلها ذات يوم محل انتباه لروسيا لتحرير هذه الأقلية. 

استهدفت زيارة “شي” إلى كازاخستان التأكيد على أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للصين، فقد حصلت كازاخستان –الجارة الشمالية الغربية للصين- على استثمارات في مجال الطاقة من الصين منذ عام 2019 بحوالي 14 مليار دولار، وزادت تلك الأهمية بشكل أكبر في ظل ما تشهده سوق الطاقة العالمية من فوضى جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يجعلها ذات ضرورة كبيرة لاستراتيجية أمن الطاقة الصيني. 

وعلاوة على ذلك، كانت كازاخستان منذ عام 2013 إحدى النقاط الجديدة لانطلاق مبادرة الحزام والطريق كجسر يربط بين الصين وآسيا الوسطى وأوروبا، واستهدفت الزيارة محاولة معالجة التحديات التي تواجه المبادرة مؤخرًا وتنشيطها وتجديد الوعود الخاصة بها، وتم الاستناد إلى بيانات التجارة المشتركة للتأكيد على عمق العلاقات بين الدولتين، بعد أن كان حجم التجارة الثنائية في عام 1992 حوالي 368 مليون دولار فقط، وصل إلى 25.25 مليار دولار في عام 2021، وبلغ في الفترة من يناير إلى يوليو 2022 17.67 مليار دولار.

يضاف إلى ذلك ما تم التأكيد عليه خلال الزيارة برغبة الصين في تعميق التعاون في إنفاذ القانون والأمن والدفاع مع كازاخستان استرشادًا بمبادرة الأمن العالمي عبر العمل على أساس مفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والعمل لتعزيز تنفيذ مبادرة التعاون في أمن البيانات الخاصة بالصين ودول آسيا الوسطى. 

نزاعات حدودية تهيمن على قمة “سمرقند”

بعد انتهاء زيارته إلى كازاخستان، توجه الرئيس “شي” إلى أوزبكستان للمشاركة في الاجتماع الثاني والعشرين لمنظمة شنغهاي للتعاون الذي لم ينعقد بشكل شخصي منذ عام 2019، واشتملت قمة سمرقند على العديد من القضايا، منها: النزاعات الحدودية بين الدول الأعضاء، والحرب الروسية الأوكرانية، وأمن الطاقة، والتنمية المشتركة. 

بالإضافة إلى ذلك، جاءت القمة في ظل تجدد النزاعات الحدودية بين كل من أرمينيا وأذربيجان رغم الدعوات التي وجهها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى الطرفين للالتزام باتفاق وقف النار والعودة إلى نظام التهدئة، وقد يكون لقاء “بوتين” مع الرئيس التركي “أردوغان” على الحدود بين المتنازعين علامة على نقاش هذه الأزمة المتجددة. بجانب هذا النزاع، هناك اشتباكات مسلحة على الحدود بين طاجيكستان وقرغيزستان، وهو ما ألقى بظلاله على نقاشات القمة؛ خاصةً أن كلا الدولتين من المؤسسين لمنظمة شنغهاي، وتشارك بالحضور كل من أرمينيا وأذربيجان.

وقد تضمنت الأعمال الهامشية للقمة أيضًا لقاءات ثنائية بين قادة الصين وإيران؛ إذ تشهد القمة استكمال إجراءات عضوية طهران في المنظمة، وقد أوضح “رئيسي” أن بلاده “تريد أن تستفيد بأفضل ما يمكن من القدرات الاقتصادية للمنطقة والدول الآسيوية لما فيه صالح الأمة الإيرانية”، مما يعكس ضمنيًا وجود توجهات من المنظمة بتكوين جبهة مشتركة ضد الغرب بقيادة صينية روسية.  ومن أبرز ما شهدته القمة في نسختها الأخيرة كان حصول كل من مصر وقطر على صفة “شركاء الحوار” في المنظمة، وتم توقيع مذكرات التفاهم بشأن منحهما هذه الصفة ومشاركتهما في أعمال القمة الحالية.

تأكيد نفوذ الصين على المستوى الآسيوي

استهدفت بكين من خلال قمة منظمة “شنغهاي” توجيه رسالة لدول آسيا الوسطى مفادها أن الصين مستمرة في تعزيز ثقة تلك الدول فيها وتعزيز الأمن واستغلال الشعبية التي يوليها لها قادة تلك الدول لبكين التي عملت السنوات الماضية على تأسيس تلك الثقة استنادًا إلى العمل ضد المساعي الأمريكية لخلخلة الأمن في دول تلك المنطقة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتحتل آسيا الوسطى كذلك مكانة مهمة في التفكير الاستراتيجي الصيني لأنها مساحة مناسبة تختبر فيها الصين باستمرار الأفكار الجديدة، ولديها شبكة من العلاقات والمصالح المرتبطة ببعض مخاوفها الأمنية الوطنية الأكثر حساسية.

وقد أكدت كلمة الرئيس “شي” خلال القمة على خمس نقاط تمثل الروح التي قامت عليها المنظمة، فهي تقوم على احترام المصالح الأساسية للدول الأعضاء وبعضها البعض لتعزيز مسألة الثقة السياسية، بالإضافة إلى أن المنظمة تستوعب مبدأ التشاور والتعاون المربح لكل الأطراف بما يعزز استراتيجيات التنمية والتوجه نحو الازدهار المشترك، وهذا انطلاقًا من مبدأ المساواة بين الدول جميعها بغض النظر عن حجمها، وهذا يدعم مبدأ التعايش وحوار الثقافات ونبذ الخلافات. 

وفي ظل ما يشهده النظام الدولي من حالة عدم اليقين في ظل الصراعات الإقليمية المستمرة واستدعاء عقلية الحرب الباردة، دعا “شي” في كلمته إلى ضرورة الانتباه إلى المحاولات الخارجية للتحريض على ما أسماه “الثورة الملونة” ومعارضة أي محاولة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وألقى الضوء على ضرورة توسيع المنظمة في اهتمامها بالتعاون الأمني لمعالجة عجز السلام وتحديات الأمن العالمي في إطار ما طرحته بكين مؤخرًا من مبادرة الأمن العالمي لبناء هيكل أمني متوازن وفعال، وهو ما دفعه إلى الإشارة إلى أهمية دعم التعددية لتجنيب العالم خطر الانقسام والمواجهة.

وفي تناوله لجوانب التنمية، أكد “شي” أهمية التركيز العالمي على التنمية، وأبدى استعداد بلاده للعمل المشترك مع أصحاب المصلحة لمتابعة مبادرات التنمية المستدامة والخضراء في المنطقة لتنفيذ البيانين المتعلقين بحماية الطاقة والأمن الغذائي على الصعيد الدولي، وعرض تقديم الصين مساعدات إنسانية طارئة من الحبوب وإمدادات أخرى بقيمة 1.5 مليار يوان.

ألقى “شي” الضوء على مسألة تسوية المعاملات المالية بعملات غير الدولار حين أشار إلى أهمية توسيع الدول الأعضاء في المنظمة للتعاون بتطوير نظام الدفع والتسوية عبر الحدود بالعملات المحلية، وإنشاء بنك تنمية للمنظمة؛ كي يسهم في التكامل الاقتصادي على المستوى الإقليمي.

وقد خرجت القمة في “إعلان سمرقند” بمجموعة من النتائج؛ كان أبرزها: زيادة التعاون في مجال الدفاع والأمن، والتأكيد على أهمية عقد التدريبات العسكرية المشتركة لمكافحة الإرهاب وزيادة التفاعل في مواجهة التشكيلات المسلحة للمنظمات الإرهابية الدولية، فقد تم الاتفاق على وضع قائمة موحدة للمنظمات الإرهابية والانفصالية والمتطرفة على أن تسعى كل دولة من الأعضاء القيام بذلك وفقًا لقوانينها الوطنية. 

ووجه الإعلان الدعوة إلى الامتثال لاتفاقية حظر تطوير وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيميائية، وضرورة تشكيل حكومة شاملة في أفغانستان تضم ممثلين عن جميع الفئات العرقية والدينية والسياسية، بجانب التنفيذ المستدام لخطة العمل بشأن البرنامج النووي الإيراني. وتبنت القمة تنفيذ معاهدة منظمة شنغهاي بشأن حسن الجوار والصداقة والتعاون على المدى الطويل للفترة بين 2023 -2027 لتنفيذ التعاون بشكل كامل في مجالات مثل التجارة والاستثمار والبنية التحتية.

توثيق الشراكة مع روسيا

من أبرز اللقاءات الهامشية لقمة شنغهاي كانت قمة جمعت بين الجانبين الصيني والروسي، هي الثانية خلال هذا العام منذ لقاء بكين في فبراير الذي تم فيه التعهد ببدء “صداقة بلا حدود” بين البلدين، والأولى منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ومن المتوقع أن يحمل هذا اللقاء تأكيدًا وتجديدًا للشراكة بينهما خاصةً في ظل التطورات التي كشفت عنها الحرب وحاجة سوق الطاقة الروسية لبدائل ترويجية وجدتها في الصين بجانب الهند، بجانب أن اللقاء الثنائي له أهمية رمزية كبيرة في ظل ما يواجهه الجانبان من توترات مع الغرب في الآونة الأخيرة. 

وتعبر الصين من جانب آخر عن شق تحذيري لواشنطن بتقارب وجهات النظر مع موسكو والدول الآسيوية في ظل ما يتم من استفزازات مؤخرًا بدعم تايوان. في خلفية هذا اللقاء الثنائي، هناك الدعم الخطابي الذي تقدمه بكين لموسكو في الحرب ومشاركة وجهات النظر المعادية للغرب، لكنها في نفس الوقت لا تخفي محافظتها على علاقات دبلوماسية مع كييف في الوقت الذي دعّم خطابها الرسمي روسيا. 

بالنسبة لروسيا، يأتي هذا اللقاء في وقت سيئ بالنسبة لها في ضوء تراجع القوات الروسية في شمال شرق أوكرانيا، حيث خسرت في أسبوع مساحة أكبر من الأراضي التي استولت عليها في خمسة أشهر. وبالنسبة للصين، تصبح احتمالية خسارة موسكو للحرب مصدر قلق كبير في مواجهة الغرب.  

وتستهدف كل من الصين وروسيا من خلال عقد قمة “شنغهاي” في سمرقند تعزيز مسألة عالم متعدد الأقطاب على اعتبار أنها بديل قوي للهياكل والآليات الغربية، بفضل ما تمثله من تنوع حضاري وثقافي وسياسي، ما يجعلها مؤهلة لتكون منظمة فعالة في النظام الدولي لأنها تقوم على مبادئ المساواة، والمنفعة المتبادلة، واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. 

وأشار الكرملين إلى أن القمة تعد مناسبة مهمة لحشد مؤيدين وحلفاء لموسكو، خاصًة أن كل أعضاء المنظمة تقريبًا لم يتخذوا بعد مواقف أو خطوات معلنة لدعم ما تقوم به روسيا في أوكرانيا، ومن ناحية أخرى تشكل هذه القمة فرصة لإظهار أن روسيا ليست معزولة عن الساحة العالمية. يمكن تلخيص الرسائل التي يريد “شي” توجيهها من خلال تلك الجولة في أنه يثق في نجاح خطوات بلاده لمكافحة جائحة كورونا وتأكيد سلطاته المعززة في الحزب الشيوعي الصيني كقائد ورئيس للدولة لولاية ثالثة. وتبلور الجولة قوة الصين الخارجية في مواجهة الولايات المتحدة التي تعمل على اتخاذ خطوات لاحتوائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك عبر تأكيد مستويات الشراكة والتعاون والتنمية والصداقة مع كل من روسيا وكازاخستان –عبر التطمين من خطر التهديد الروسي- والدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون بما يجعلها تبرز كلاعب قوي على الساحة الدولية باستغلال حالة عدم اليقين التي خلفتها الجائحة ثم الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

فردوس عبد الباقي

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى