
أزمة التيجراي: خطة بديلة وفرض سيطرة
أهداف حيوية تستهدفها قوات آبي أحمد الحكومية في إقليم التيجراي عبر الضربات الجوية؛ فبعد ملعب الأطفال استهدفت مستشفى بالإقليم. فيما تحاول جبهة تحرير التيجراي التمدد عبر الأمهرة لاستعادة السيطرة على أراضيها، مع استمرار التوسع عبر العفر لاستعادة السيطرة الاستراتيجية على خطوط الربط الحيوية الإثيوبية، وفك الحصار عن الإقليم المستمر حتى بعد الهدنة الموقعة في ٢٤ مارس. ليستمر النزال بين الجبهتين مشتعلًا منذ ٢٤ أغسطس الماضي، ليغير شكل السيطرة على الأرض؛ مما يضعنا أمام موقف أكثر توغلًا وبدائل عدة.
الوضع العملياتي في إثيوبيا
يتفاقم الوضع في إثيوبيا منذ 24 أغسطس الماضي عقب كسر الهدنة الهشة التي استمرت نحو خمسة أشهر بين قوات الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير التيجراي، ودخول عدة أطراف في النزاع، لتعيد المشهد القديم المستمر منذ نوفمبر 2020، مع تغير الوضع العسكري وأماكن استهداف الطرفين، مع احتفاظ الحكومة الإثيوبية بتحالفاتها وخطتها القديمة، ويمكن عكس المشهد في التالي:
توسع التيجراي إلى الغرب: في مشهد مختلف عن تحركات جبهة التيجراي في يونيو 2021، والتي توغلت نحو جنوب الإقليم واقتربت من العاصمة أديس أبابا للسيطرة على نظام الحكم، سيطرت الجبهة على عدة مناطق بين الإقليم والإقليم المجاور الأمهرة، واتفق الجانبان على أن بداية المعركة كانت في بلدة “كوبو”التي تقع بالقرب من إقليم أمهرة، وهي البلدة التي شهدت حشودًا عسكرية من قوات الدفاع الوطني الإثيوبية وميليشيا الأمهرة “فانو”.
وشنت التيجراي حملة تجنيد واسعة وإعادة تسليح استولت عليها من الجيش الفيدرالي سابقًا، وهناك مزاعم حول تسليحها من جهات خارجية وإقليمية، في محاولة لاستعادة سيطرتها على الأراضي التي كانت تخضع لها قبل وضع ميلشيا الفانو الأمهرية يدها عليها. وامتد القتال بحسب الحكومة الإثيوبية إلى نحو خمسين كيلومترًا، جنوب حدود تيجراي، داخل منطقة أمهرة المجاورة، وكذلك جنوب شرق منطقة عفر، والتمدد شرقًا إلى الحدود مع السودان؛ في محاولة للزج باسم السودان بمساعدة الجبهة لتدويل النزاع عقب دخول إريتريا العدو التاريخي للتيجراي بجانب الحكومة الإثيوبية.
وعلى الرغم من إعلان استيلاء جبهة التيجراي على الأسلحة وتحقيق الانتصار على قوة هائلة مكونة من 20 فرقة، تنفي الحكومة الإثيوبية تكبد قواتها أي خسائر، إلا أن هناك تقارير تفيد بإخلاء القوات الحكومية من مدينة “كوبو”. ومما يوضح خطة التيجراي لاستعادة سيطرتها بالقوة فقط على أراضيها دون تهديد مقر الحكم بالعاصمة، فإنها لم تقترب من “مدينة وولديا” الواقعة على بعد 50 كم إلى الجنوب، رغم عدم وجود أي قوات حكومية فيها، مع نفي متحدث الجبهة “التقارير التي تفيد بأنها استولت عليها.”
وهو ما يختلف عن العمليات العسكرية الأولى بالعام الماضي، والتي شهدت محاولات سيطرة جبهة التيجراي على مدينتي ديسي وكومبولتشا الاستراتيجيتين في إقليم أمهرة، بجانب مدينة كميسي التي تبعد مسافة 325 كم عن العاصمة، وهددت بالزحف نحو العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بمساعدة حليفها “جبهة تحرير الأورومو”. هذا بجانب محاولات قطع الطريق بين إثيوبيا الدولة الحبيسة والدول المشاطئة للبحر الأحمر وخاصةً جيبوتي من خلال الإقتراب من بلدة ميلي.
اتساع رقعة النزاع: وذلك في محاولة لتشتيت الحكومة الفيدرالية بين فتح العديد من الجبهات القتالية، خاصةً في ظل تحالف “الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفيدرالية الإثيوبية” المعلن في واشنطن بين جبهة تحرير التيجراي وممثلي عدد من الفصائل الإثيوبية، وعلى رأسها: جيش تحرير أورومو، وجبهة عفر الثورية للوحدة الديمقراطية وحركة أغاو الديمقراطية، وحركة التحرير الشعبية بني شنقول، وجيش التحرير الشعبي لجامبيلا، وحزب كيمانت الديمقراطي، وجبهة تحرير سيداما الوطنية، ومقاومة الدولة الصومالية.
فشنت جماعة “فانو” الأمهرية المسلحة هجومًا استهدف “بلدة أغامسا” بمنطقة أوروميا، وسقط عشرات القتلى في ظل سلسلة هجمات متفرقة بين الطرفين، مستغلة الصراع الطائفي بين الأقلية الأمهرية الموجودة في الإقليم، وقومية الأورومو القومية الأكبر، مع إدانة من “جيش تحرير الأورومو” المتحالف مع التيجراي. وبذلك يضم الصراع الأكبر عدة صراعات متوازية تخضع للفكر السياسي والعسكري للتحالف من جهة والحكومة الإثيوبية من جهة أخرى، خاصةً في ظل انسحاب القوات الأمنية الفيدرالية من الإقليم لترك الساحة فارغة لميلشيا الفانو.
عودة القوات الإريترية للمشاركة في الحرب: بدأت الحرب بين القوات الإثيوبية وقوات جبهة التيجراي دون وجود شواهد على مشاركة قوات الأمهرة والجيش الإريتري الذي تم اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من عدم التأكيد في بداية الصراع مع انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عاد ودعا إلى انخراط كافة الأطراف في عملية السلام، وشجبت كارين جانبييار المتحدثة باسم البيت الأبيض “عودة إريتريا إلى النزاع، والضربات الجوية للحكومة الإثيوبية”، هذا بجانب استهداف بلدة شيرارو بالتيجراي من قبل ميلشيا الأمهرة والقوات الإريترية، وتصريحات جيتاشيو رضا المتحدث باسم الجبهة، بأن الإقليم تعرض للهجوم من قبل القوات الإثيوبية والإريترية من 4 جهات.
أسباب اندلاع القتال
عرقلة اتفاقية السلام في كينيا: مع تجميد عملية اتفاق السلام بين جبهة تحرير التيجراي والحكومة الإثيوبية، والتي أبدى الطرفان انفتاحهما عليه عقب تفويض نائبه ديميكي ميكونين برئاسة لجنة سلام والتي بدأت العمل في يوليو، إلا أنها لم تفضِ إلى جديد، ولم تحقق تقدمًا منذ وساطة أولوسيجون أوباسونجو التي استمرت عامًا، وعقد عدة لقاءات مع مسؤولين من الطرفين في سيشيل وجيبوتي. وانتهت تلك المفاوضات مع عدم تنفيذ تعهدات حكومة آبي أحمد بفك الحصار على الإقليم وانسحاب القوات الإريترية، والتي كان سيعقبها محادثات كاملة في نيروبي عاصمة كينيا في ضيافة الرئيس السابق أوهورو كينياتا بدعم من الولايات المتحدة، وذلك بعد إبلاغ أوباسونجو مبعوث الولايات المتحدة للقرن الأفريقي “مايك هامر”، ومبعوثا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعوة إريتريا إلى المحادثات؛ مما عقَد الاتفاق.
وأدت الاشتباكات الأخيرة إلى التشكك في العودة مجددًا لطاولة المفاوضات، وتعثرت تلك المبادرة بعد إعلان نتائج الانتخابات الكينية بتغلب ويليام روتو على المرشح المدعوم من كينياتا رايلا أودينجا، وخلق حالة من عدم اليقين نحو السياسة التي سينتهجها الرئيس الجديد في الوساطة الخارجية وتحالفاته الإقليمية.
الأوضاع الإنسانية: مع تفاقم الأوضاع الإنسانية، تحاول الجبهة فك الحصار عن شعب التيجراي، بعد تصريحات باستخدام الجوع كسلاح للحرب، واعتبار زعيم جبهة التيجراي دبرصيون جبراميكائيل بأن الموت في المعركة لحماية الحقوق والحريات أفضل من الموت من نقص الغذاء والحصار، ولم تمكن “الهدنة الإنسانية” من الوصول بشكل كامل إلى كافة شعب الإقليم، مما عجل من اختراقها من الطرفين.
التوسع في تسليح الأطراف المتشابكة: ففي ظل تداول أنباء حول سيطرة جبهة تحرير التيجراي على ترسانة أسلحة تابعة للحكومة الإثيوبية، مع نفي فيدرالي، مما يعكس السيطرة البرية للجبهة؛ تقوم الحكومة الفيدرالية بضرب الأهداف الحيوية البعيدة عن المواقع العسكرية بضربات جوية متتالية ممنهجة، في ظل الدعم العسكري الجوي من قبل تركيا وإيران، ودعمها بالطائرات المسيرة، وهو الأمر الذي عكس مشهد السيطرة في الإقليم في الضربات الأولى.
مآلات الوضع في الاقليم
يبدو أن الوضع الحالي والهجمات المستمرة لكافة الأطراف، في ظل الانحياز الإقليمي للقوات الفيدرالية، وتشعب رقعة النزاع على الأراضي الإثيوبية، في ظل موقف دولي لم يستطع أن يخرج بعيدًا عن نطاق المطالبة بالعودة إلى المفاوضات؛ قد ينذر بعدة احتمالات، يمكن تقسيمها كالتالي:
فرض السيطرة التيجرانية: يبدو أنه مع تغير دوافع جبهة تحرير التيجراي المنحسرة في إحكام السيطرة على الإقليم واستعادة أراضيها، وتجنب فرض سياسة الأمر الواقع التي تنتهجها حكومة آبي أحمد بالشراكة مع الأمهرة وإرتيريا، سيدفع قوات جبهة تحرير التيجراي إلى الاستمرار في عمليات التوسع الغربي، والتلويح بضرب الداخل الإريتري لدفعه للتراجع عن هجماته ضد الإقليم، في ظل سياسة أسياس أفورقي المتخوفة من تحالف المعارضة مع الجبهة.
وهو ما سيضعنا أمام مشهد تقدمي لقوات الجبهة والتي ستعمل على فتح جبهات عدة مستغلة عدم استقرار اقليم أوروميا، والتحالف مع جبهة تحرير الأورومو في ظل الصراع الطائفي بين الأورومو والأمهرة، مما يمكّنها من فرض سيطرتها على المواقع البرية الاستراتيجية، والانطلاق من وضع السيطرة الجديد لفك الحصار على التيجراي كشرط مسبق للدخول في أية اتفاقات سلام، حتى لا تتنصل الحكومة الإثيوبية من وعودها.
الدعم الإقليمي للحكومة الفيدرالية: شهد الوضع الميداني في إثيوبيا تحولًا عقب دعمه بالطائرات المسيرة من الجانب التركي والإيراني، مما قلب الوضع لصالحه في الضربات الأولى للإقليم، وهو ما يعتمد عليه الآن آبي أحمد في هجماته ضد التيجراي عبر استخدام الطائرات الجوية. إلا أنه في ظل محاولات آبي أحمد تحسين صورته دوليًا في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي دفعه إلى توقيع اتفاق مع المملكة السعودية لتعليق خدمة الدين، في ظل العقوبات التي تم فرضها على الدولة الإثيوبية مسبقًا نتيجة الجرائم ضد الإنسانية؛ يحاول آبي أحمد كذلك أن يستعيد قوته على الأرض لفرض شروطه في حال استكمال اتفاق السلام، مع شيطنة جبهة التيجراي والإصرار على وصفها بالجماعة الإرهابية للحصول على التأييد الدولي، والاستمرار في خطابه المتشدد ضد الجبهة وتصويرها بأنها السبب في اختراق اتفاق وقف إطلاق النار.
التدخل الدولي: لم تستطع الوساطة الإقليمية والدولية حلحلة الأزمة والتوصل لاتفاق ملزم لكافة الأطراف المتنازعة، في ظل تدويل جبهات النزاع، ومحاولة دخول وساطة إقليمية من دول الجوار تغير شكل الوضع السياسي بها كدولة كينيا، أو إريتريا العدو التاريخي للتيجراي. وجاء الموقف الأمريكي الحالي بعدم وجود خطة بديلة للعودة للمحادثات دون شروط مسبقة ليضعنا أمام “الوضع صفر”، وأن من له الغلبة على الأرض هو من سيفرض شروطه.
وفي الختام، لم يُفضِ احتمال السيطرة على الأرض مسبقًا إلى حلحلة الأزمة الإنسانية والسياسية في الدولة الإثيوبية والتوصل إلى اتفاق سلام، وخاصةً في ظل توسع نطاق الصراع، مما قد يزيد من حدة الأزمة في ظل وساطة دولية وإفريقية غير مقنعة لكافة الأطراف.