أمواج متلاطمة: هل يُعيد اكتشاف حقل كرونوس -1 في قبرص الصدام إلى شرق المتوسط؟
تشكلت ردود الفعل بشأن إعلان الحكومة القبرصية (22 أغسطس) اكتشاف حقل ضخم من الغاز الطبيعي قبالة سواحلها وفقًا لاتجاهين متعارضين، أحدهما يحمل قدرًا كبيرًا من التفاؤل المرتبط بالانعكاسات المحتملة للاكتشاف في تعزيز الاستثمارات المرتبطة بعمليات البحث والتنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط بهدف تعظيم المكاسب والفوائد في ظل مشهد الطاقة المرتبك بفعل الحرب الروسية الأوكرانية. في حين بدت الهواجس قائمة، خاصة فيما يتعلق برد الفعل المنتظر من الجانب التركي والذي قد يتجه نحو التصعيد على خلفية مساعي أنقرة المتواصلة للبحث عن الغاز الطبيعي في المنطقة.
وسط تلك الاتجاهات، يمكننا تحديد جملة من الاعتبارات المرتبطة بطبيعة الاكتشاف، وتأثيراته المحتملة في ظل السياق الدولي والإقليمي الذي يشهد تحولات كبرى على مختلف الأصعدة وفي القلب منها التفاعلات المرتبطة بالطاقة بشكل عام والغاز الطبيعي بشكل خاص.
اعتبارات مؤثرة
جاء الاكتشاف الأخير في المياه القبرصية من قبل شركتي “إيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية، وذلك حسبما أعلنت وزيرة الطاقة القبرصية ” ناتاشا بيليدو” والتي أكدت أن الحقل يحتوي على ما يقرب من 70 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. وعلى ذات المنوال، أعلنت شركة “إيني” أن الاكتشاف يقع في بئر “كرونوس1” ضمن المربع رقم 6 ويبعد نحو 160 كيلو مترًا من السواحل القبرصية بعمق يبلغ 2287 مترًا. في هذا السياق، يمكننا الوقوف على جملة من الاعتبارات الحاكمة للمشهد العام المصاحب للإعلان عن الاكتشاف وذلك على النحو التالي:
أولًا) موقع قبرص في معادلة غاز المتوسط
شهد عام 2011 الإعلان عن اكتشاف حقل “أفروديت” في البلوك 12 البحري، وهو أول حقل غاز طبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص وذلك من خلال شركة ” نوبل إنرجي” و “ديليك” الأمريكية. وتشير التقديرات إلى أن حجم الاحتياطي في الحقل يقدر بنحو 4.5 تريليون قدم مكعبة. وعلى إثر هذا الاكتشاف، نمت توقعات قبرص فيما يتعلق بمواردها المحتملة من الغاز الطبيعي ما حفزها على مواصلة البحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي.
وخلال عام 2016، أطلقت جولة للتنقيب عن الغاز في المربعات 6 و8 و10، حيث وقعت اتفاقيات مع إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية وإكسون موبيل الأمريكية وقطر للبترول، وقد أثمرت هذه الجهود عن اكتشاف حقل غاز “كاليبسو” في بلوك 6 من قبل شركة إيني الإيطالية في أواخر عام 2018، وتقدر حجم الاحتياطات فيه بنحو من 6 إلى 8 تريليون قدم مكعبة. وتم كذلك اكتشاف حقل “جلوكس” في بلوك 10 الواعد في فبراير 2019 من قبل كونسورتيوم إكسون موبيل وقطر للبترول، والذي يُقدر أنه يحتوي على من 5 إلى 8 تريليون قدم مكعبة من الغاز
وقبل اكتشاف حقلي “كاليبسو” و”جلوكس”، كان اكتشاف حقل أفروديت مُحاطًا بعدد من التحديات على الرغم من قدرته على تلبية الاحتياجات الداخلية، إلا أن الاكتشاف كان أصغر من تبرير الاستثمار فيه لتنميته؛ إذ كان سيتعين على قبرص إما نقل غازها عبر محطة للغاز الطبيعي المسال أو عبر خط أنابيب، وفي ظل غياب البنية التحتية فقد تحتاج قبرص “إلى بناء محطة غاز طبيعي مسال، ولم يحفز العائد الضئيل من تدفقات الغاز المتوقعة من هذا الحقل “آنذاك” صانع القرار على الشروع في هذا الاجراء.
من ناحية أخرى، هناك قيود مالية عندما يتعلق الأمر ببناء خط أنابيب إلى جنوب أوروبا لتصدير الغاز للخارج، إلا أن هناك عددًا من القيود سواء ما يتعلق بتحديات تتعلق بجدوى بناء الخط، أو بسبب الطبيعة الجغرافية والتضاريس الصعبة بالقرب من جزية كريت، علاوة على أن أي خط انابيب من قبرص يجب أن يحظى بمباركة تركيا. قبل أن تعلن قبرص بعد نحو 4 سنوات من اكتشاف الحقل أنه أصبح مجديًا تجاريًا وذلك في يونيو 2015.
ولتفادي العقبات المالية والسياسية، لجأت قبرص إلى عدد من الإجراءات منها توقيع اتفاق مع مصر يفضي إلى تصدير الغاز من حقل أفروديت عبر خط انابيب لمحطات الإسالة في مصر قبل تحويله إلى أوروبا. ومهد الانخراط المؤسسي لقبرص في التجمعات القائمة في شرق المتوسط – منظمة غاز شرق المتوسط، ومنتدى الصداقة- في تجاوز العقبات المرتبطة بتركيا، أو على أقل تقدير في تشكيل حائط صد يمكنه ردع تركيا في حال إذا ما قررت التعدي على حقوق قبرص في مياهها الإقليمية.
ثانيًا) حدود الآمال المرتبطة بالاكتشاف الأخير
نجم عن الاكتشافات سالفة الذكر قيام قبرص في نوفمبر 2019 بتوقيع أول عقد لاستغلال الغاز الطبيعي بقيمة 9.3 مليار دولار مع كونسورتيوم يضم كلًا من شركات: شل، ونوبل إنيرجي، وديليك. وقد أسهم هذا العقد في منح الشركات الثلاث رخصة استغلال الموارد البحرية بهدف تسويقها للخارج، ما قد ينعكس بشكل مباشر على قيام قبرص بلعب دور مؤثر في تصدير الغاز مستقبلًا، خاصة وأن حقل أفروديت من المحتمل أن يدخل على خط الإنتاج خلال عام 2027، بجانب أن الاكتشافات تتيح لقبرص فرص الاعتماد على الغاز الطبيعي مستقبلًا وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة من الخارج.
هذا الأمر يعني أن قبرص باتت لديها فرص مستقبلية يمكن أن تستثمرها في هذا المجال، رغم ذلك يظل الاكتشاف الأخير بمفرده في حدوده المتواضعة؛ إذ تشير التقديرات إلى احتواء الحقل المكتشف حديثًا “كرونوس1” على 2.5 تريليون قدم مكعبة (70 مليار متر مكعب)، وتعد هذه النسبة محدودة مقارنة -على سبيل المثال- بإنتاج مصر السنوي من الغاز الطبيعي والذي بلغ عام 2021 نحو (66 مليار متر مكعب).
إلا أن جدوى الحقل لا يمكن أن تُختزل في حجم الاحتياطات المقدرة فيه، بل تنسحب أهميته بصورة أكبر من خلال وضعه ضمن باقي الاكتشافات التي تحققت في المياه القبرصية والتي تصل مُجمعة لما يقرب من 17 تريليون قدم مكعبة، ما يعني أن مزيدًا من الاكتشافات يمكن أن يضع قبرص في وضع يمنحها لعب دور مؤثر في المستقبل.
ويتماشى الدور المحتمل لقبرص مع إعلان الحكومة (21 يوليو 2022) خطتها التطويرية لحقل أفروديت، حيث أعلنت وزارة الطاقة القبرصية وشركة شيفرون في بيان مشترك “إنه سيكون هناك حفر في الموقع لبئر جديد في الأشهر المقبلة، في إطار خطة تطوير وإنتاج تمت الموافقة عليها بالفعل”.
ويبدو من خلال هذا الإعلان نجاح قبرص في تحقيق قدر من التوافق مع إسرائيل بشأن تلك المنطقة. فقد ظلت معضلة تطوير الحقل مرتبطة بامتداد جزء صغير من أفروديت للمنطقة البحرية الإسرائيلية، وهو النزاع الذي استمر لسنوات دون حسم بين الطرفين، وتدور الإشكالية حول وقوع 10% من حقل غاز “أفروديت يشاي” في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، وكان البلدان قد اتفقا في (مارس 2021) على تخلي إسرائيل عن حصتها في الأجزاء التي تقع ضمن سيادتها البحرية مقابل الحصول على تعويضات مالية قدرتها بعض الدراسات بنحو 5 مليار شيكل.
ثالثًا) زيادة الرهان المستقبلي على غاز المتوسط:
لا شك أن هذا الاكتشاف سيدفع الشركات الدولية العاملة في مجال التنقيب عن الغاز في ضخ مزيد من الاستثمارات في المنطقة؛ سعيًا إلى تعزيز مكاسبها ومن أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة لكل الأطراف المنخرطة في تلك العملية، سواء الفاعلين من الدول أو الشركات القائمة بتلك المهام؛ إذ إن الاكتشاف -الحالي وما سبقه- يؤكد على مدى الثراء والوفرة الهيدروكربونية في منطقة شرق المتوسط والتي يمكن أن تسهم في تشكيل معادلة الطاقة على الصعيد العالمي بمرور الوقت.
فعلى الرغم من أن التأثير يحتاج إلى مزيد من الاكتشافات، إلا أن حجم الاحتياطات يضع المنطقة في صلب المعادلة المستقبلية؛ إذ تشير تقديرات 2010 إلى وجود نحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي القابلة للاستخراج وما يقرب من 1.7 مليار برميل من النفط، وقد تنامت التقديرات بشأن تلك الاحتياطات لتصل إلى 345 تريليون قدم مكعبة من الغاز ونحو 3.5 مليار من النفط.
رابعًا) تعزيز فرص المتوسط كبديل محتمل لأوروبا:
دفعت الحرب الروسية الأوكرانية وما نجم عنها من توظيف روسيا للطاقة كسلاح في وجه الدول الأوروبية قيام الأخيرة بالبحث عن بدائل من شأنها أن تحد من الاعتمادية الأوروبية على الغاز الطبيعي الروسي؛ إذ تعتبر روسيا المورد الرئيس للغاز لدول الاتحاد، وتشكل صادرتها نحو 40% من إجمالي ورادات أوروبا، بل إن هناك دولًا تعتمد بشكل كامل على ورادتها من موسكو. وقد أسهمت الإمكانات الروسية العملاقة في مساومة الدول الأوروبية واستغلال الغاز الطبيعي كورقة ضغط في حربها على أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، انتجت موسكو نحو 762 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2021، ما يجعلها في صدارة الدول المنتجة للغاز.
من هنا يمكن أن يمثل الاكتشاف دافعًا أمام الدول الأوروبية لدعم رهانها على منطقة شرق المتوسط كبديل محتمل للحد من الاعتماد المفرط على الغاز الروسي، وذلك من خلال توظيف المقومات الراهنة والمحتملة في خدمة هذا الغرض، خاصة وأن منطقة شرق المتوسط تتمتع بميزة كبرى في ظل ما توفره البنية التحتية المصرية ومصانع الإسالة، ما يدفع بصورة كبيرة في هذا الاتجاه. ولعل توقيع اتفاقيات نقل الغاز من الدول المنتجة لمصر بهدف تسييله ونقله لأوروبا دليل على ذلك.
ويرجح أن تتصاعد مثل هذه التفاهمات بين تلك الدول في إطار منظمة غاز شرق المتوسط، ولا يمكن تجاهل التفاهم الثلاثي بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي ( يونيو 2022) بشأن تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي، فضلًا عن التعاون في مجالات الطاقة المتجددة، والهيدروجين، وتطوير موصلات الكهرباء عبر البحر المتوسط، ما دفع رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” لوصف هذا التفاهم بأنه خطوة كبيرة للأمام لكي تصبح مصر مركزًا إقليميًا للطاقة، ويدل هذا التصريح عن تصور الاتحاد الأوروبي للدور المستقبلي لمنطقة شرق المتوسط بشكل عام ومصر بصورة خاصة في تحرير أوروبا من القيود الروسية المرتبطة بالغاز الروسي.
اليوم التالي
في التقدير، يظل اليوم التالي مرتبطًا بتعاطي تركيا مع الاكتشاف ورد فعلها، خاصة وأن الإعلان عن الحقل الجديد يتقاطع مع عودة تركيا للتنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط، ما قد يحمل فرصًا للتصعيد والصدام، إذا ما عادت تركيا مرة أخرى للتنقيب في مناطق السيادة القبرصية.
وعلى الرغم من عدم وجود أي رد فعل رسمي من أنقرة حتى الآن تجاه التصعيد، بخلاف بعض التقارير الإعلامية التي تشير إلى استياء تركيا، إلا أن الأمر قد يخرج عن السيطرة في ظل مساعي تركيا المستمرة لتأمين احتياجاتها من الطاقة، وعدم تراجعها عن استراتيجيتها المرتبطة بالبحر المتوسط والبحار المحيطة بها في ضوء عقيدة الوطن الأزرق، بجانب أن الإعداد للانتخابات التركية العام المقبل قد يفرض على الرئيس التركي أردوغان محاولة البحث عن انجاز يصب في صالحه في تلك الانتخابات، وقد يرتبط هذا باللجوء إلى التنقيب في المناطق الخارجة عن سيادته، ما قد يؤدي إلى احتكاك مع قبرص واليونان.
ومع ذلك يظل مسار استمرار التصعيد المكتوم هو الأرجح في ظل المعادلات الراهنة المرتبطة بحسابات القوى الكبرى تجاه تلك الاكتشافات، ولعل إعلان الولايات المتحدة –في أعقاب الاكتشاف- أن سياستها تجاه قبرص طويلة الأجل ولم تتغير بمثابة ضامن لاحتواء أي تصعيد يمكن أن تلجأ إليه تركيا، فضلًا عن أن حاجة المجتمع الدولي خاصة الدول الأوروبية لتجاوز معضلة الطاقة وسط مساعيها لتحفيز شركاتها للاستثمار الجاد في التنقيب عن الغاز يمكن أن يمثل قيدًا إضافيًا تجاه أية محاولات تصعيدية.
وعليه رغم شعور تركيا بالاستبعاد من تفاعلات شرق المتوسط، وعدم قدرتها حتى الآن على تحقيق جدوى حقيقية من عمليات الإبحار المستمرة لسفنها في المنطقة، إلا أن الشهرين القادمين يمكن أن ينتهيا إلى سيناريوهات عدة، سواء ما يرتبط بالتصعيد أو استمرار الوضع على ما هو عليه، وهو ما يتوقف على الخيار التي يمكن أن تلجأ إليه تركيا خلال عملية التنقيب عن الغاز بعد أن عادت سفينة “عبد الحميد خان” لاستكمال مهمة أنقرة التي توقفت منذ عامين على أقل تقدير.