دول المشرق العربي

عوامل متشابكة: لماذا يعاني لبنان من أزمة اقتصادية مُعقدة؟

شهد شارع الحمراء في لبنان يوم 12 أغسطس 2022 حالة ذعر جرّاء احتجاز مودع رهائن داخل “فيدرال بنك” بقوّة السلاح، في محاولة للضغط على المصرف للحصول على وديعته نقدًا بالدولار الأمريكي والتي تبلغ 210 آلاف دولار؛ وذلك من أجل دفع تكاليف إجراء عملية لوالده في المستشفى.

وربما تبدو تلك الحادثة غير مهمة على الإطلاق إن حدثت في أي دولة أخرى، إلا إن حدوثها في لبنان يعطي دلالة واضحة لمدى معاناة المواطن اللبناني من الأزمة الاقتصادية المستمرة على مدار السنوات الماضية؛ إذ تكررت تلك الحوادث في المصارف اللبنانية بوتيرة مستمرة خلال الآونة الأخيرة، بعدما امتنعت عن تسديد الودائع كاملة بالدولار للمودعين، نتيجة الأزمات المالية التي عصفت بالدولة والمتمثلة في انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي، وتراجع الاحتياطي النقدي، وارتفاع التضخم لمستويات غير مسبوقة، وهي كلها أزمات ألقت بظلالها في النهاية على المواطن اللبناني.

جذور الأزمة الاقتصادية

يُنظر إلى الأزمة الاقتصادية اللبنانية كإحدى الأزمات المُعقدة على مدار التاريخ؛ إذ تضافر العديد من الأسباب والعوامل الاقتصادية والسياسية لتصب مزيدًا من الوقود على نيران الأزمة، وهي كذلك لا تعد وليدة الثلاثة أعوام الماضية فقط، بل تعود إلى انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في التسعينيات، حيث اعتمدت الحكومة حينها على الديون ورؤوس الأموال الخارجية، مثل تحويلات العاملين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل عملية إعادة الأعمار، والتي تعد جميعها مصادر مذبذبة معرضة للتغير بشكل سريع.

وقد بقي بالفعل الأمر على هذه الحال حتى عام 2011 مع اندلاع ثورات الربيع العربي والأزمة السورية، مما أسفر عن توقف كلٍ من الصادرات والسياحة الخليجية إلى لبنان، فضلًا عن تراجع تدفق رؤوس الأموال للاستثمار للبلاد وتحويلات المواطنين اللبنانيين العاملين في الخليج. 

وعلاوة على ذلك، أسهم العديد من الأحداث خلال 2020 في تفاقم الأزمة اللبنانية، ومن أهمها؛ أولًا: تخلف الحكومة عن سداد السندات الأجنبية المستحقة في التاسع من مارس 2020 البالغة 1.2 مليار دولار، مما جعلها عاجزة عن الحصول على المزيد من القروض أو طرح سندات جديدة في الأسواق الدولية، ثانيًا: إجراءات الإغلاق الناجمة عن فيروس كورونا، ثالثًا: حادث انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 الذي ترتب عليه خسائر اقتصادية تتراوح بين ثلاثة مليارات دولار إلى خمسة مليارات دولار نتيجة لتعطل الميناء عن العمل وتكلفة إصلاح الأضرار التي لحقت بالميناء، بحسب محافظ بيروت “مروان عبود”، وهو ما يمثل 9.36% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد البالغ 53.37 مليار دولار خلال 2019.

واستمر الوضع على هذا الحال حتى نهاية عام 2021، حيث تمثلت أبرز أزمات ذلك العام في الانقطاع التام للتيار الكهربائي في أكتوبر الماضي مما أسفر عن دخول البلاد في حالة من الظلام، عقب خروج أكبر محطتين للكهرباء –الزهراني ودير عمار- عن الخدمة بسبب نفاد الوقود وتراجع قدرة توليد الطاقة إلى أقل من 200 ميجاوات. وهبط إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للبلاد بنسبة 10.5% في 2021 في أعقاب انكماش نسبته 21.4% في 2020. وفي الوقت نفسه، قدر البنك الدولي أن يبلغ الدين الإجمالي 183% من إجمالي الناتج المحلي في 2021، ليُسجِّل لبنان رابع أعلى نسبة مديونية في العالم بعد اليابان والسودان واليونان.

وبطبيعة الحال، لم يتغير الوضع كثيرًا خلال العام الجاري؛ إذ فاقمت الحرب الروسية- الأوكرانية الوضع سوءًا عبر زيادة الضغوط المفروضة على الحساب الجاري والتضخم بسبب تراجع إمدادات الغذاء والوقود وارتفاع أسعارهما عالميًا. وعلاوة على ذلك، ترددت أنباء مغلوطة في الرابع من أبريل الماضي عن إفلاس الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي بسبب تصريحات نائب رئيس الحكومة اللبنانية “سعادة الشامي” الذي سرعان ما نفى أن يكون مقصده إفلاس الدولة بالمعنى الحرفي، مؤكدًا أن حديثه اجتُزئ من سياقه حين كان يجيب عن سؤال متعلق بكيفية توزيع الخسائر الحالية على الحكومة ومصرف لبنان، ونفى رئيس الحكومة اللبنانية “نجيب ميقاتي” وحاكم مصرف لبنان “رياض سلامة” صحة ما تم تداوله من أنباء عن الإفلاس، حيث أكد الأخير أن البنك لا يزال يمارس دوره الموكل إليه بموجب القانون، وأن ما يتم تداوله حول إفلاس البنك غير صحيح.

مظاهر الأزمة

يُمكن تلخيص أهم المؤشرات على انهيار الاقتصاد اللبناني المتمثلة في انهيار العملة وتراجع الاحتياطي النقدي وارتفاع المستوى العام للأسعار، على النحو الآتي:

• انهيار سعر الصرف: سجل سعر صرف الليرة اللبنانية حتى العاشر من أغسطس 2022 نحو 30 ألف ليرة لبنانية في السوق السوداء، حيث بلغ للشراء حوالي 30 ألفًا و800 ليرة، في حين وصل سعر البيع إلى 30 ألفًا و900 ليرة لكل دولار أمريكي. والجدير بالذكر أن مصرف لبنان المركزي قد أعلن سعر صرف جديدًا للسحب من الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية عند 8000 ليرة للدولار، ليأتي هذا في حين احتفظ مصرف لبنان رسميًا بسعر صرف 1507 ليرات للدولار منذ عام 1997، وهو السعر الموجّه لاستيراد بعض السلع الضرورية، لكن من ناحية أخرى، فإن جميع السلع تُباع في الأسواق بأسعار مختلفة عن تلك الرسمية.

• الاحتياطي النقدي: تراجعت العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي في لبنان نتيجة لتراجع كافة مصادر العملة الأجنبية كالسياحة وتحويلات العاملين بالخارج، بالتوازي مع ارتفاع فاتورة الواردات، ولهذا نجد أن الاحتياطي النقدي قد بلغ نحو 11.22 مليار دولار فقط بحلول يونيو 2022 مقارنة مع 28.96 مليار دولار في يناير 2020، وهو ما يمثل تراجعًا ملموسًا قدره نحو 158.5% خلال عامين فقط، وهو ما يُبينه الشكل أدناه:

• التضخم: انطلاقًا من مبدأ “التضخم المستورد”، ونظرًا لارتفاع أسعار الغذاء العالمية لأعلى المستويات على الإطلاق بسبب التوترات الروسية-الأوكرانية، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بحوالي 990.4% من 118 نقطة في يناير 2020 إلى 1286.76 نقطة في يونيو 2022، حيث تبلغ نسبة واردات المواد الغذائية من إجمالي واردات السلع حوالي 19.7%، كما يتبين من الرسم الآتي:

• سحب الودائع المصرفية: كشفت مصادر مصرفية أبريل الماضي أن أصحاب الودائع، خصوصًا الكبيرة منها، قاموا ببيع منذ بداية عام 2020، أي بعد 4 أشهر على بدء الأزمة النقدية والمصرفية، ودائعهم المجمدة في البنوك عبر شيكات مصرفية، تقل عن قيمتها الحقيقية بنسب تصل إلى 50%.

• عقبات أمام قرض صندوق النقد الدولي: أعلن صندوق النقد الدولي، في السابع من أبريل، عن التوصل إلى اتفاق مبدئي مع السلطات اللبنانية على خطة تمويل بقيمة تبلغ 3 مليارات دولار على مدار 46 شهرًا أو حوالي أربع سنوات، ولكن الاتفاق ينتظر موافقة نهائية من إدارة الصندوق ومجلسه التنفيذي بعد تنفيذ كل الإجراءات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد وإعادته إلى مسار النمو المستدام مع نشاط أقوى للقطاع الخاص، واستعادة الاستدامة المالية، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وإزالة العقبات أمام النمو المنشئ للوظائف، وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار بالتوازي مع إعادة هيكلة الدين العام الخارجي التي ستؤدي إلى مشاركة كافية من الدائنين لإعادة الدين إلى حدود مستدامة وسد فجوات التمويل. ورغم إنه لا يُمكن إنكار أهمية الانفراجة التي حدثت في المحادثات اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، إلا إنها متوقفة على الإصلاحات الاقتصادية التي تلتزم لبنان بها أمام المجتمع الدولي.

وخلاصة ما سبق أن الاقتصاد اللبناني يُمر بأزمة طاحنة متشابكة الأسباب والأطراف يترتب عليها إلقاء المزيد من المعاناة على كاهل المواطن، مما يستلزم الالتزام وضع استراتيجية ترتكز على ما يلي، وذلك وفقًا للبنك الدولي: إطار جديد للسياسة النقدية يعيد الثقة والاستقرار في سعر الصرف؛ برنامج إعادة هيكلة الدين الذي من شأنه أنّ يحقّق الحيّز المالي على المدى القصير واستدامة الدين على المدى المتوسط؛ إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة ملاءة القطاع المصرفي؛ تصحيح  مالي مُنصف وتدريجي يهدف إلى إعادة الثقة في السياسة المالية؛ إصلاحات تهدف إلى تعزيز النمو؛  وتعزيز الحماية الاجتماعية.

بسنت جمال

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى