
مشهد فرنسي متوتر في ولاية “ماكرون” الثانية
واجه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الفائز بولاية ثانية للجمهورية الخامسة كأول رئيس فرنسي يعاد انتخابه مجددًا منذ عقدين، عدة عقبات وتحديات عصفت به وسط حالة من التوتر يعيشها المشهد السياسي في البلاد المنقسمة بين ثلاثة تكتلات رئيسة: الوسطيون المؤيدون لأوروبا بقيادة ماكرون، وتمرد لوبان القومي بأقصى اليمين، واليسار المتشدد بقيادة ميلينشون، فضلًا عن خسارته الأغلبية البرلمانية وتحجيم صلاحياته، ولكن في النهاية يمكن القول إن فوز ماكرون كان مصدر ارتياح للجميع الذين كانوا يخشون حصول منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان على مفاتيح الإليزيه.
ولاية ثانية بعد عناء
فاز ماكرون بالرئاسة بفضل الأصوات التي لم تكن تريد “لوبان”، فقد حصل على 58.5% من الأصوات مقابل 41.5% لمنافسته العنيدة كأعلى نسبة حصل عليها اليمين المتطرف منذ عقود، ليؤكد بعد ذلك أنه يدرك ثقل المهمة الملقاة على عاتقه، ومتعهدًا بتغييرات عميقة للتحديات الممتدة من ولايته الأولى، وكان أهمها هو “تجديد أسلوبه” حتى يصبح رئيسًا لجميع الأحزاب المعارضة له، ويوحد جميع الأصوات اليمينية واليسارية التي لم تصوت له في الانتخابات، خاصة بعد إدراكه تزايد شعبية اليمين المتطرف، وخوفه من تأثر الفرنسيين بأفكارهم، بعد أن شهدت الجولة الأولى من التصويت اختيار 60% من الناخبين مرشحًا راديكاليًا، سواء من اليسار أو اليمين، وامتناع 28% عن التصويت من الأساس، وهذه علامات تدق ناقوس الخطر.
تحديات في فرنسا “المنقسمة”
لا ننكر أن الولاية الثانية لماكرون تأتي في وقت حرج. وبالرغم من التحديات العالقة، لا يزال ماكرون يحظى بشعبية كبيرة بين نسبة لا يستهان بها من الشعب الفرنسي، ولكن يرى الكثيرون أن بقاء الرئيس الوسطي الموالي لأوروبا في السلطة أمر لا ينذر بمسيرة نحو التقدم، خاصة بعد أن عانت فترة ولايته الأولى من قصمات لم يستطع التعافي منها حتى الآن، بداية من احتجاجات “السترات الصفراء” بسبب ارتفاع أسعار الوقود، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأزمة الرسوم المسيئة التي خلقت موجة سخط شعبي أتبعتها موجات المقاطعة للبضائع الفرنسية، وجائحة كورونا، وصولًا إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو ما يعكس بشكل كبير “هشاشة المجتمع الفرنسي”.
ورجّح الكثير من الخبراء أن تكون ولايته الثانية أصعب من الأولى، إذ إنه عالق بين أحزاب اليسار واليمين التي تتمنى سقوطه وتحديد صلاحياته، بينما يحاول هو أن يتماسك في بلد منقسمة موحدًا جميع الأصوات، وبالرجوع إلى التحديات التي واجهتها حكومة ماكرون عند بداية ولايته الثانية، وصفها المراقبون للمشهد بأنها “الأصعب”، وتمثلت في:
حسم الانتخابات التشريعية: احتاج الرئيس الفرنسي إلى حكومة تتمتع بأغلبية جيدة، ليست أقل من الحركات اليسارية المتشددة التي يقودها “جان لوك ميلينشون” والتي احتلت المركز الثالث في الجولة الافتتاحية للتصويت الرئاسي، وهو الأمر الذي دعا ماكرون إلى أن يستفيد من معركة الانتخابات الرئاسية وما حدث بها بشكل عام، وخاصة بوادر حالة الانقسام في اليمين المتشدد. ولكن في النهاية، خسر الائتلاف الحاكم الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية.
تمرير قانون المعاشات: أكد ماكرون بعد فوزه أنه يعتزم إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، واعدًا بقانون يتعامل مع ارتفاع تكلفة المعيشة بفرنسا، يشمل رفع الحد الأدنى لسن التقاعد من 62 إلى 65 عامًا، وهو الملف الشائك الذي قد يفتح الأبواب للاعتراض على سياسات ماكرون، حتى لو كانت لديه أغلبية كبرى بالبرلمان، وسط مخاوف أخرى بأن يواجه معارضة قوية في شكل حركات احتجاجية تعد انتعاشًا لحركة السترات الصفراء.
إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية ورفع القدرة الشرائية للفرنسيين: وذلك في ضوء الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع وعدم توافر بعضها، واحتمالات تفاقم الأزمة الاقتصادية ونقص الكثير من السلع الأساسية نتيجة التداعيات المتفاقمة للأزمة الأوكرانية.
إطلاق مشروع التخطيط البيئي: وهو أحد أبرز الوعود الانتخابية لماكرون خلال حملته، والتي عملت بشمل فعال كمحاولة لجذب الناخبين، فقد وعد الرئيس الفرنسي بإصلاح جذري لسياسة المناخ، مؤكدًا أن رئيس الوزراء المقبل سيكون مسؤولًا بشكل مباشر عن “التخطيط البيئي”، على أن يدعمه وزيران للإشراف على الانتقال للاقتصاد الأخضر. وتعهد كذلك بمضاعفة الجهود للحد من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050، والحفاظ على الطاقة النووية، فضلًا عن استثمارات كبيرة لبلاده في الطاقة المتجددة، ومعالجة تلوث الهواء، وغرس الأشجار، فضلًا عن تطوير قطاع السيارات الكهربائية لتكون فرنسية الصنع بشكل حصري.
مزيد من التوازن في الأزمة الأوكرانية: ماكرون كغيره من قادة الغرب أيد عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب عدوانها على الأراضي الأوكرانية، واصفًا ما حدث في “بوتشا” بأنه جرائم حرب، داعيًا إلى العدالة الدولية. وقد أكدت حكومته إمكانية دراسة فرض الحظر على واردات النفط الروسية، ومع ذلك، كان من أوائل المدافعين عن الحوار مع موسكو، مشترطًا “الحزم”، وفي الوقت نفسه، لا يمانع من التحدث إلى بوتين مرة أخرى، معترفًا أن الهدف من تلك المحادثات سيكون إنسانيًا يتعلق بوصول المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، وبالطبع يحرص ماكرون على أن تتجنب فرنسا وأوروبا المشاركة العسكرية بأي شكل من الأشكال في أوكرانيا، خوفًا من اندلاع حرب عالمية جديدة.
صفعة الانتخابات التشريعية
تشكل هذه الانتخابات أهمية قصوى، وكثيرًا ما يتم استحضارها كجولة ثالثة من الانتخابات الرئاسية؛ إذ إنها تحكم شكل الحكومة ورئيسها، وهي التي تحجم صلاحيات مشاركة ماكرون في الحكم. ولكن بعد شهرين من إعادة انتخابه رئيسًا، فقد ماكرون السيطرة على “مجلس النواب” أو الجمعية الوطنية الفرنسية بعدما اتحد ضده تحالف اليسار واليمين المتطرف، حيث تعين عليه الحصول على 289 مقعدًا للحفاظ على الأغلبية المطلقة، ولكنه لم يحصل إلا على 245 مقعدًا، من أصل 577 نائبًا تم انتخابهم في جولتين، في انتكاسة لحزبه “النهضة” وباقي حلفائه في إطار تكتل “معًا” تمنعه من المضي قدمًا في إصلاحاته.
خسر ائتلاف ماكرون الوسطي عشرات المقاعد في حدث غير مسبوق، بعد أن شهدت الانتخابات التشريعية اختراقًا تاريخيًا لليمين، وعودة قوية لليسار، فشاهدنا نجاحًا في الجمع بين الأحزاب الرئيسة من اليسار مع الشيوعيين والاشتراكيين والخضر في تحالف “نيوبس”، وهو الاتحاد الشعبي الجماعي والبيئي الجديد بقيادة “جان لوك ميلينشون” اليساري المتطرف ورئيس حزب “فرنسا الأبية” الذي يحارب من أجل منع حزب ماكرون من فرض هيمنته على الحكومة المقبلة، والحرص على “إسقاط الرجل الذي يريد أن يحكم فرنسا بمفرده”، بحصوله على 149 مقعدًا.
وفي هذه الأثناء، لم تهدأ لوبان حتى حصلت هي وحزبها اليميني المتطرف “التجمع الوطني” على 89 مقعدًا بعد أن كانوا ثمانية مقاعد فقط، متقدمًا على اليمين التقليدي في فوز تاريخي يجعل الحزب المتطرف ثالث قوة سياسية في البلاد قادرة على التأثير في النقاش السياسي الوطني، لتؤكد لوبان بذلك على أهمية تغيير الجغرافية السياسية الفرنسية، وتشكيل كتلة برلمانية قوية تدافع عن حقوق الشعب الفرنسي.
وبهذا تم إجبار ماكرون في النهاية على تشكيل حكومة “أقليّة”، ومن بين الوزراء الذين فقدوا مقاعدهم وزيرة الصحة، ووزيرة الانتقال الأخضر أو التحول البيئي، ومن أبرز الشخصيات الخاسرة والقريبة من ماكرون رئيس الجمعية الوطنية “ريشار فيران”، ورئيس المجموعة البرلمانية لحزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي أسّسه ماكرون ووزير الداخلية السابق “كريستوف كاستينير”.
ومن دون الأغلبية المطلقة، يصبح ماكرون بحاجة إلى دعم الأحزاب الأخرى للمُضي قدمًا في إصلاحاته ذات الكلفة الكبيرة، أو أن يتفاوض على كل نص يريد تمريره على حدة للوصول إلى صفقة مرضية لكل الأطراف بشأنه، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من برنامجه السياسي الذي انتُخب على أساسه لولاية ثانية.
وقد أكدت كل الأحزاب من اليسار إلى اليمين أنها ستكون “مسؤولة” وستعارض بحزم، ولن تقف في صفوف المعارضة بشكل ممنهج لعرقلة الحكومة وفقط، بل إنها ستكون مرنة ومنفتحة على التفاوض، ومن الأصوات من دعا أيضًا إلى إبرام اتفاق لتشكيل الحكومة.
وباستعراض السيناريوهات المتاحة أمام ماكرون حول كيفية عمل السياسة التشريعية وعلاقتها المستقبلية مع رأس السلطة التنفيذية نجد ما يلي:
- إجراء تعديل وزاري يراعي استقالة كل وزير حالي فشل في الانتخابات التشريعية، واغتنام فرصة التعديل الوزاري من أجل “جس نبض” بعض النواب من الأحزاب الأخرى الراغبين في التعاون مع ماكرون، وبالتالي توسيع إطار الموالاة.
- أن تعرقل الجمعية الوطنية عمل المؤسسات الدستورية، في ظل رغبة تحالف اليسار في سحب الثقة من حكومة ماكرون، وسط توقعات بأن يواجه التصويت على كل مشروع على حدة مصيرًا مجهولًا، لعدم وجود غالبية مطلقة، وقد يقضي ماكرون سنوات حكمه المتبقية في التفاوض والتسويات.
- أن يفقد ماكرون فاعلية التحرك الخارجي الأوروبي والدولي بسبب انشغاله في الشؤون السياسية الداخلية من أجل تأمين حكومته والحصول على أكثرية لتمرير الإصلاحات التي يرغب في تبنيها.
سحب الثقة من رئيسة الوزراء
قبل الانتخابات التشريعية بثلاثة أسابيع، قام الرئيس الفرنسي بتعيين “إليزابيث بورن” رئيسة للحكومة، والتي شغلت مناصب وزارية عدة مرات، معتمدًا في اختياره أن تكون بورن الخيار الأقل إثارة للانقسام، لتصبح ثاني امرأة تتولى هذا المنصب بعد ” إديث كريستون” عام 1992، واضعًا إياها أمام تحدٍ كبير؛ إذ تعيّن على حكومتها تحقيق أغلبية مريحة لتكتل ماكرون الانتخابي في الجمعية الوطنية، ليتمكن من تشكيل الحكومة المقبلة التي ستشاركه خططه وتنفذ وعوده الانتخابية في فترة رئاسته الجديدة.
وبعد خسارة حزب ماكرون أغلبية الأصوات بالبرلمان، واجهت بورن انتقادات عديدة من شأنها أن تهدد مستقبلها، وذلك عقب إعلانها أن العمل سيبدأ لإيجاد من يتحالف مع مجموعة الرئيس، ما أثار بعض الانتقادات العلنية كونها أوحت بأنها باقية وأن ماكرون لن يغير رئيسة حكومته. وعلى إثر ذلك، تقدمت رئيسة الوزراء باستقالتها من منصبها، ليرفضها الرئيس الفرنسي، ويشدد أن الحكومة ينبغي عليها مواصلة القيام بمهامها عن طريق إيجاد حلول بناءة لتخطي العراقيل التي تهدد أجندته في الفترة الثانية.
ولكن “التحالف اليساري” أو “نيوبس”، أكبر كتلة معارضة لتجمع الوسط المؤيد لماكرون سعى بكل الطرق إلى أن يطيح برئيسة حكومة ماكرون، فقدم اقتراحًا بسحب الثقة منها وصوت منهم 146 نائبًا، ولكن نجت “بورن” من الاقتراع بعدما رفض نواب المعارضة والمحافظون واليمين المتطرف التصويت، حيث تعين موافقة أغلبية مطلقة تتمثل في 289 صوتًا من 577 صوتًا لإسقاط الحكومة، ما جعل فشل سحب الثقة يشكل ضربة موجعة لزعيم اليسار ملينشون.
وفقًا لما سبق، اختار الفرنسيون معاقبة إيمانويل ماكرون بحرمانه من الغالبية البرلمانية، في مشهد سياسي يَبتر سلطة الرئيس بشكل غير مسبوق، ما سيجبره في الأيام المقبلة على تقديم تنازلات مريرة للمعارضة، ولربما الدخول في دوامة من عدم الاستقرار السياسي. وهنا يبقى المشهد السياسي الفرنسي مفتوحًا على جميع الاحتمالات، خصوصًا وأنه ليس من الواضح بعد كيف ستتصرف القوى السياسية المعارضة للرئيس ماكرون، فنحن أمام عدة تساؤلات، عما إذا كان التحالف اليساري سيظل موحدًا، أو ماهية الآلية التي سيستخدمها اليمين المتطرف للمعارضة، وعمّا إذا كان الجمهوريون سيوافقون على أن يتحالفوا مع حكومة ماكرون الحالية بعد أن أبدوا رفضهم للأمر، بالرغم من التوافق معها بشأن عدد من الإصلاحات منها رفع سن التقاعد والتحول في مجال الطاقة.
ولكن ما يبقى مؤكدًا أننا أمام أحزاب كبرى ستعمل الفترة القادمة على سياسة “تأزيم” وعرقلة عمل المؤسسات، ما سيدخل فرنسا في ظرف سياسي دقيق للغاية قد يصل إلى المظاهرات والإضرابات، في مشهد يصعب السيطرة عليه ويحكمه رئيسٌ قد يصبح خاضعًا للابتزاز السياسي.
باحثة بالمرصد المصري